مسيرتنا الحضارية
حين بدأنا مسيرتنا في التحضر، حتى صرنا قادة العالم، سارت خطانا في مسارين: الأول التمسك بما عندنا من قيم وأخلاق، والمسار الثاني كان الاغتراف من معارف الأمم السابقة ثم هضمه وانتاج معارف جديدة، وقد بقينا أوفياء حتى ضربنا الاستعمار الحديث، فهز قناعاتنا هزا عنيفا، فتخلى بعض أبنائنا عن عقائدنا وقيمنا وهرول خلف العدو الزاحف، معتقدا أنه سيلحق به، إذا أخذ ما عنده! يذكرني ذلك بالسلطان العثماني الذي كان يسمع عن تقدم الغرب وتخلف بلاده، فأراد أن يذهب للغرب بنفسه ليكشف السبب، ذهب وعاد ليقول: وجدتها! إن الغرب يحلق لحاه ولا يلبس الطربوش ونحن لا نفعل ذلك، ونساؤهم تعيش مختلطة متكشفة، ونساؤنا ليس كذلك، والكل قد ابتعد عن الدين تقريبا، ونحن لسنا كذلك.. وأشهد أن جل أهل الحداثة لا يختلفون عن السلطان العثماني، وهذا الشاعر ضياء ألب التركي يصرخ بأعلى صوته: نريد أن نقتبس كل ما لدى الغرب، حتى الجراثيم التي في بطونهم؟
درس من إفريقيا
لقد أتيحت لي فرصة التجول في غربي وشرقي وجنوبي إفريقية، فلم أر من الحضارة الغربية سوى الحانات تزدحم بشاربي الخمور، ومرضى الإيدز يملئون المستشفيات، ورأيت شوارع بعض العواصم تجري فيها المياه القذرة، في سواقي غير مغطاة، ورأيت الشوارع الفرعية دون سفلتة ولا كهرباء.
[ ص: 129 ]
وقد استعمرت
فرنسا جزر القمر (160) سنة، فلما رحل الاستعمار لم يخلف مستشفى ولا مدرسة ولا جهازا لتوليد الكهرباء، وهناك من يحن للاستعمار، ويعتبره من أنعم الله التي لا تجحد! إن الإنسان يمكن أن يمسخ بحيث يصبح عدو نفسه ودينه، ووطنه وأمته، لأن لوثة عقلية أصابته.
إلى كافة المتغربة
يموج العالم بملايين متغربة تعيش أجسامها في مكان، وتحوم أرواحها وتتجه أبصارها صوب الغرب، فإلى هؤلاء - وفيهم الكثير من أبنائنا - أسوق شهادة لرجل تعلم في الغرب واستقر هناك، ويعمل في إحدى الجامعات، فقد كتب يقول
>[1] : "إن ازدهار الوعي والإنتاج الديني والفلسفي والأدبي والفني، وقيم التواصل عموما، لم يكن في أية حقبة ماضية أعظم مما هو عليه اليوم في "المجتمع الغربي"، مجتمع الإبداع العلمي والروحي معا، دون منازع، والنمو الأخلاقي يتماشى دائما مع النمة الحضاري، ولا يتنافى معه، لأن الحضارة تخلق فائضا في الوعي، لا تعبر عنه القيم النفعية والتبادلية، ولا تستوعبه، وما الانحطاط والبربرية إلا تقلص النشاطات الفكرية المتعددة والمتنوعة.. إن الأخلاق المدنية من فضيلة التضحية والمجانية والكرم، وإن أخلاق البربربة تقوم على المنفعة المباشرة، التي تستجيب إلى الصراع الذين لا يرحم، من أجل البقاء، وتستخدم الدين والعلم كوسيلة لهذا الصراع".
[ ص: 130 ]
إن الفرق بين الإنسان والحيوان، وجود قيم وأخلاق لدى الإنسان وخلو الحيوان منها، فالأسد متى جاع يفترس أي حيوان يجده أمامه، فإذا تجرد الإنسان من القيم والأخلاق فسيكون حيوانا يمشي على رجلين، يستعمل عقله وذكاءه للإيقاع بفريسته وان يفعل بها ما يشاء، وكلما تقدم الإنسان صار "وحشا كبيرا"، الحق عنده القوة، لذا من حقه أن يسلب الفقير الجائع لقمة طعامه.. لذلك فإن الأخلاق والقيم، ضرورية للمجتمع البشري، المتقدم منه والمتخلف، والسؤال: ما مصدر هذه القيم أولا؟ وكيف يكتسبها المجتمع؟
مصدرية القيم وكيف تكتسب
لا يوجد مجتمع بلا ثقافة، ولا مجتمع بدون قيم، فالقيم يتوارثها أفراد المجتمع، وهي نابعة من خبرة المجتمع الطويلة.. أصول القيم تعود للدين والعقيدة، وبعضها يعود للعادات، وبفضل التربية يتكون الشعور الأخلاقي.
لقد ساهمت الأديان بشكل عام، والسماوية بوجه خاص، في تطوير المفاهيم الكبرى، مثل الأخوة، والعدالة، والمساواة، وحقوق الإنسان، وحتى الحيوان، لكن المجتمعات الوضعية باشرت بوضع قيم جديدة، ومع مرور الزمن جرى التحرر من القيم القديمة، وهكذا تبدل الإطار المرجعي للأخلاق والقيم.
حين كانت الأديان هي المرجع صار جميع الناس لآدم، كلهم عباد الله، مؤمنهم وكافرهم، وصارت العبودية لله وحده، ليس لأحد سواه، وصار الناس سواسية كأسنان المشط، وأن الأفضل هو الأتقى، وهكذا تجاوز الإنسان حدود
[ ص: 131 ] الدولة، فقامت بفضل الأديان إمبراطوريات كبيرة، وقبل التعدد العرقي والديني كحقيقة واقعة، وهكذا قامت ثورة في مفهوم الإنسان لنفسه ولغيره، وفي معنى الحياة والهدف منها، ورسم العلاقة الاجتماعية والإنسانية بعناية ووضوح.
ورغم ما أصاب القيم الأخلاقية من ضعف، بسبب ضعف الحماس الديني، فإن الحاجة ظلت تدعو لإعادة بناء هذه القيم، بناء جديدا، فنشأت فلسفة أخلاقية حديثة، تحاول جعل العقل والعلم هما السند الأساسي للأخلاق، ونظرا للتفريط الذي حصل في الغرب بالنسبة للقيم الدينية وغيرها، فإن الغرب "لم يكن يعني إلغاء الأخلاق، بقدر ما هو تحقيق للفصل بينها وبين الدين، أو بالأحرى تأسيسها على مصادر جديدة، وجعلها أخلاقا مدنية، ولذلك فإن الأخلاق العقلية التي أسست نفسها على فكرة "الواجب"، كما عبر عنها الفيلسوف الألماني "
كانت " لم تلغ القيم القديمة، التي تحرم القتل والسرقة والكذب والغش..إلخ، ولكنها أبرزت أن الحفاظ على هذه القيم والمبادىء لم يعد ممكنا، إلا إذا استند امتناع عقلي، ولم يكن هذا التصور في الواقع إلا أحد مظهر حركة العقلنة العامة، التي شهدها "المجتمع الغربي" في القرون الماضية، كمحاولة لرأب الصدع الذي خلقه تحلل الأيدلوجية الدينية وفسادها، وما كان لها مع ذلك أن تنشأ، لو لم تتحقق من قبل وحدة الإنسان وقدسيته في الأديان السماوية أو المقدسة"
>[2] [ ص: 132 ]
لقد عبر هذا التطور قيام مفهوم جديد لسيادة الفرد، وهو دليل على المساواة الأخلاقية، وهي انعكاس لسيادة المجتمع، وهكذا صارت (حرية الفرد) مصدرا لحرية الأمة وسيادتها، وبالمثل صارت سيادة الأمة وحريتها، هي الضمان لحرية الفرد وسيادته، ومع مرور الزمن راح يستقر في نفس الإنسان، الذي يعيش وفق هذه القيم، ويتأثر بها، أن التحرر من الدين وقيمه يؤدي لتحرر الإنسان.
من جهة أخرى، راح تعميق الحرية وتوسعها يصبح الأساس للشعور بالالتزام الخلقي، فإذا خمد هذا الشعور أو فسد فإن الشعور الأخلاقي، أو الالتزام الأخلاقي، سيفتح الباب للعودة القوية للأخلاق الدينية، باعتبارها السند والمرجع للمجتمع، وهذا ما نشاهده اليوم. فثمة أصولية دينية هندوسية، وأخرى أكثر عنفا وتطرفا، يهودية، ونصرانية، ومسلمة.. والمجتمع الأمريكي مثلا، يموج بعشرات الألوف لجماعات متطرفة، لها مليشيات تبلغ أكثر من (360) ألفا، كما ذكر الرئيس "
كلينتون ".. والانتحارات الجماعية خير شاهد ودليل.