خصائص الأسلوب الصحفي
تتميز اللغة الإعلامية بسمات شتى، وهي تختلف - بطبيعة الحال، عن لغات العلوم والدرايات المتعمقة، لأنها تتجاوز مخاطبة الفئات المتخصصة إلى الجمهور الواسع، ذي المستويات المتفاوتة.
وإذا كانت اللغة الإعلامية تحرص على مراعاة القواعد اللغوية المصطلح عليها، فإنها تحاول كذلك أن تحرص على خصائص أخرى في الأسلوب، وهي البساطة، والإيجاز، والوضوح، والنفاذ المباشر، والتأكد، والأصالة، والجلاء، والاختصار، والصحة
>[1] .
ويدعو أساتذة الصحافة الكتاب إلى استخدام الألفاظ المألوفة، توخيا للفهم، وتجنب الألفاظ العلمية والاصطلاحية النادرة، بيد أنه إذا اقتضت الضرورة ذلك، فينبغي شرحها، وإعطاء المفهوم الحقيقي لها، والتوسل بالتفسير والتبسيط، في تعميق المفاهيم الأصلية، وإشاعتها على أوسع نطاق، بين الجماهير.
[ ص: 61 ]
ومن بين المهمات الأساس للصحفي تحويل أكثر الموضوعات غموضا أو علمية إلى جمل عربية بسيطة أسلوبا، ومفهومة معنى.
لقد كان كبار الأدباء حين يكتبون في الصحافة، لا يستعملون المفردات والجمل التي لا يدرك معناها الجمهور، الذي يتوجهون إليه، ويجعلون من أسلوبهم همزة الوصل، بين الحقائق العلمية والأدب الرفيع ومستوى فهم القراء.
يلخص الصحفي الأمريكي الذائع الصيت
جوزيف بولتزر الأسلوب الصحفي في نصيحته للصحفيين المبتدئين قائلا: " اكتبوا الجمل القصيرة، التي تتجه رأسا للحدث، فتبين ماذا جرى وأين، اذكروا أسماء الأشخاص، التواريخ والأماكن "
>[2] .. ويلخصه الكاتب والصحفي القدير
أرنست همنغواي ، في هذه النصيحة العملية: " استعمل الجمل القصيرة، واستعمل الفقرات القصيرة، أكتب بلغة قوية، ولا تنس الكتابة بسلاسة، كن إيجابيا، وليس سلبيا "
>[3]
ويسدي الباحث الإعلامي الإنجليزي
ماكس جنثر نصيحته
[ ص: 62 ] الآتية إلى الصحفيين الجدد قائلا: " إنه على الكاتب توخي الوضوح، وتجنب التكرار الممل، والصيغ المبتذلة، والكليشهات التي سبق ترديدها، والإقلال من الاقتباسات.. " .
وضمن هذا النسق من الأفكار، تنبغي الإشارة إلى الأخطار الكامنة وراء استمرار بعض الصحفيين في توظيف القوالب الجاهزة، بدون وعي، وبلا تبصر، الأمر الذي قد يوحي للقارئ، أو المستمع، بأنه أمام لغة جامدة، فاقدة للحيوية والابتكار والتجديد.
يقول الإعلامي الفرنسي
فيليب غايار : " إن الخاصية الأساسية للكتابة الصحافية هي سلامة اللغة " ، ويعدد بعض ملامح هذه السلامة في: الكتابة الإملائية الصحيحة، معرفة تطبيق قواعد الصرف والنحو، حسن اختيار المفردات، والتنقيط المناسب.. ويرى كل من
كورتيس ماكدوغال والفريد كرويل ، أن من أهم سمات الكتابة الصحفية، هو: إيجاز الجملة والفقرات، الجمل المباشرة، الأفعال والأسماء القوية، الاستعمال الصحيح لقواعد اللغة.
إن دعوة الكتاب المرموقين إلى احترام قواعد الكتابة (النحوية والصرفية) السليمة، يؤكد بأن من الخطر المحدق باللغات، الكتابات الصحـفية التي تتم فـي غالب الأحيان خارج القواعد الصحيحة
[ ص: 63 ] للغة، مما يغرس في المتلقين روح عدم التقيد بالكتابة السليمة، وازدراء قيودها.
يتحدث السيد
برنارفوريان في كتابه: (الصحافة في المجتمع الحديث) عن سلطة اللغة الإعلامية على قرائها قائلا: " فالصحيفة التي تلتزم بمبدأ التنازل للقراء، وصولا إلى اجتذابهم، وتداول المواد الإعلامية دون كبير عناء، لا يمكنها أن تغفل حقها في فرض بعض المواقف الإنشائية والأسلوبية والموضوعية الضرورية، حتى ولو أدى ذلك إلى تنفير بعض القراء وامتعاضهم.. " .
واللغة العربية -اليوم - في أمس الحاجة إلى هذا الصنف من الصحفيين الذين يرتقون بأسلوب كتاباتهم الصحفية إلى المستوى الذي يساهم في تطوير كتابات القراء، ويعزز أساليبهم، وينميها، وفق الأصول الصحيحة لكتابة اللغة العربية.
اللغة الصحفية ولسان الأمة
إن اللغة الصحفية تأخذ الكثير من سماتها من طبيعة لسان قومها ذاته، وهكذا فإن الطريقة التي نتحدث بها عن الأشياء تختلف من ثقافة إلى أخرى، وعلى سبيل المثال، فإن بعضهم في
أمريكا اللاتينية ، يميلون فيما يبدو إلى اللغة المبالغ في زخرفتها في
[ ص: 64 ] القصص الإخبارية، وهم على استعداد لقراءة ما يكتبه الصحفي، أو الكاتب، لأسباب أسلوبية، بل إن بعض الكتاب في
أمريكا اللاتينية ، يشعرون بأن استخدام نفس الكلمة مرتين في حالة وجود مرادف لها، يمثل جريمة ضد الأسلوب
>[4]
وتؤثر اللغة الإعلامية في تصورات الناس، وفي استجلاء حقيقة الأحداث والأشياء، وفي إغناء الرصيد المعرفي واللغوي للجمهور.. ومن أجل ذلك، فإنه من سوء التدبير بمكان أن يترك لمن هب ودب أمر استخدام الأسلوب الصحفي أنى شاء.
يتساءل الباحث الاجتماعي الجزائري
الدكتور عبد الله شريط قائلا: " نعم، إن لغة الصحافة اليوم ربما حققت شوطا في هذا الغرض، وإن بقي من بين فصحائنا من يتعالى عن استعمال لغة الصحافة استكبارا أجوفا، ولكن ألا يكون من العجيب أن نترك أمرا خطيرا كهذا لا يبحثه علماء الاجتماع، ولا علماء اللغة، ولا علماء المجامع اللغوية، ويبقى لمبادرات الصحفيين، وهم على ما هم عليه من ضعف المستوى في المواد العلمية، وفي المادة اللغوية، وفي معرفة مشكلات المجتمع جميعا، معرفة معمقة " ؟!
[ ص: 65 ]
ثم يردف قائلا: " إنـنا بوصـفنا عـلماء الاجتماع، ليس من شأننا، ولا من اختصاصنا أن نتولى نحن تبسيط قواعد اللغة، وحذف ما فيها من حشو، وابتكار أساليب جديدة في تعليمها وكتـابتها، ولـكن من شـأننا ومـن اختـصاصنا أن نـطـالب علـمـاء اللـغة بذلك "
>[5]
وما يجب التنبيه إليه هنا، أن الأسلوب الصحفي، ينبغي أن يكون هادفا في صياغته، وملما بمقاصده.. وكما يقول
محمد حسنين هيكل : فإن الكلمة الإنشائية تزول، وتبقى الكلمة التي تعكس واقعا هو جزء من تصور الناس ؟!
وفي ظل هذا الواقع المعقد جدا، لا ينبغي إثقال كاهل الصحفي بنصيب مفرط من المسئولية، فيما يتعلق بالأسلوب؛ لأن المجتمع الذي ينشط في كنفه الصحفي، يؤثر بدوره في أسلوبه، ومن ذلك مثلا: الأسلوب الذي يصرح به الأشخاص النافذون في المجتمع، والأسلوب الذي تصاغ به الخطب، والأسلوب المعتمد في المؤسسات التعليمية، والأسلوب الذي يتجاذب به الناس أطراف الحديث في حياتهم اليومية.
[ ص: 66 ]
وأحيانا تتم " تنقية " اللغة التي يستخدمها بعض الشخصيات الرسمية، أو من يكتبون رسائل إلى المحررين، وذلك بواسطة المحررين للتخلص مما بتلك الرسائل أو التصريحات من أخطاء لغوية، أو ألفاظ سوقية.. وعملية " التنقية " التي تتم ليست بالضرورة لحماية مصدر الأخبار، فعادة ما يكون التبرير لها هو أن التعليق الذي ذكره المصدر، يصبح أكثر وضوحا، وأقرب إلى فهم القارئ، أو أن الجمهور سوف يعترض بشدة على الألفاظ المستخدمة في الأصل
>[6] بعث الروح في المخزون اللغوي
وفي خضم التحولات الجارية اليوم على كل المستويات، يجد الأسلوب الصحفي نفسه أمام تحدي مواكبة المستجدات.
فاللغـة مؤسسة قارة، أما الحقيقة فهي سيرورة ديناميكية، فالواقع يتغير " بسرعة " أما اللغة فتتغير بوتيرة أقل، بالـمقارنة، وهي لا تتجاوب إذا مع ما يحدث في الواقع إلا بعد حين
>[7] [ ص: 67 ]
قد يعمد الصحفيون عن قصد، أو غير قصد، إلى جعل عبارات أكثر تداولا دون غيرها.. وفي حياة الناس، يقع الأمر نفسه، حيث يظل كم هائل من الألفاظ نائما في ثنايا القواميس والمؤلفات الجادة، ينتظر من يوقظه من سباته.
فمثلا، يتراوح عدد الألفاظ في اللغة الإنجليزية ما بين 500 و600 ألف كلمة، وهذا المـخزون اللغوي، لا يستغل إلا في ما تيسر مـنه، ذلك أن الأفراد لا يستـخـدمـون في مسـار الـمـحادثة اليومـية إلا حوالي 5000 كلمة، وتحتوي القصة أو الرواية ما يقارب 10000 كلمة
>[8]
إن الاستعـمـال الـخاطـئ لـلـغـة، سـواء أكان داخـل وسـائـل الإعـلام، أم خارجها، يعطل فكر أهله، ويشل قدرات الناس الذهنية، ويفسد لسانهم. وعندما تمر المجتمعات بفترات سيئة في تاريخها، ينعكس ذلك على لغة الإعلام، لأن الواقع بشذوذه وتشابكه وتعقيده عندما ينعكس في الإعلام لا بد أن تبدو صورة الشذوذ والتشابك والتعقيد في اللغة المستخدمة أيضا
>[9] [ ص: 68 ]