تقديم:
بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط. والصلاة والسلام على من أرسله الله للناس كافة، وكانت الغاية من بعثه إلحاق الرحمة بالعالمين،
قال تعالى:
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107)،
وقال:
( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) (الحديد:25)،
وبذلك اعتبر إرساء العدل وتقويم واقع الناس بأحكام الدين وتحقيق المساواة، لا يقل منزلة وأهمية عن إنزال القيم وإرسال الأنبياء. فالقيم هـي معايير ومقاييس الفعل البشري، ومحددات السلوك، وضابط أهداف النشاط الإنساني أو المسيرة البشرية في المجالات جميعا، لذلك لم يترك أمرها للإنسان ابتداء، ومنذ النبوة الأولى، حتى لا يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، وانتهاء بالرسالة الخاتمة، التي هـي جماع النبوات..
ولعل كلمة (رسلنا) في قوله تعالى:
( أرسلنا رسلنا ) تدل على وحدة الرسل، وعالمية الرسالة، ووحدة
[ ص: 11 ] الدعوة، ووحدة الهدف تاريخيا. وإنما جعلت المعايير، التي تضبط موازين العدالة والمساواة بين البشر -حيث اقترن الكتاب بالميزان- من خصائص رسالة النبوة وعطاء معرفة الوحي، حتى لا تكون محلا للعبث والتلاعب والانتقاص والتطفيف، حيث لا يمكن أن يتصور أن يكون الإنسان نفسه محل الفعل، والتقويم، والمعايرة، وأن يكون هـو المعيار والمقياس في الوقت نفسه، كما أنه لا يمكن أن يضع الإنسان معيارا ومقياسا لتقويم نفسه، لأنه بذلك تلتبس الذات بالقيم، والمسالك والأنشطة بمعايير التقويم والقياس، ويصبح الإنسان الذي يجري على فعله الخطأ والصواب، يصبح هـو المقياس والمعيار، وعندها تنقلب المعادلة، فيعرف الحق بالرجال، ولا يعرف الرجال بالحق. وفي هـذا باب واسع للفساد، والاستغلال، وإقامة الكهانات، وفتح المجال لتسلط الإنسان على الإنسان، وانعدام العدالة والمساواة، وذلك بسبب من فقدان الميزان، أو الطغيان في الميزان؛ وبذلك يتحول النسبي إلى مطلق، والبشري إلى إلهي، والظني إلى قطعي، واحتمالات الخطأ القابل للفحص والاختبار إلى ادعاءات العصمة احتماء بالقيم المعصومة، حيث يغيب نص الشارع ويحكم فهم
[ ص: 12 ] الشارح، وتلتبس قيم الدين بصور التدين، ويتحول الدين إلى جسر للتسلط والفساد والاستغلال وسفك الدماء.
من هـنا نقول: حتى يتحقق للعالم إقامة الميزان، وينعم بالمساواة، لا بد أن تستمد القيم والموازين والمعايير من مصدر خارج عن الإنسان، وبذلك يتساوى الناس أمامها، وتبرأ من كل معاني الانحياز والتسلط والهيمنة والتمييز.
ونسارع إلى التأكيد: بأن القيم الإسلامية، التي ندعو للاستمساك بها لإنقاذ الإنسانية، ليست حكرا على طبقة، أو جنس، أو قوم، أو زمان، أو مكان، أو أشخاص، فالنبي صلى الله عليه وسلم محل التنزيل والاقتداء، لا يخرج عن كونه بشرا يتصف بجميع خصائص وصفات البشر، الأمر الذي يؤهله لأن يكون قدوة البشر، إضافة إلى التلقي من الله عن طريق الوحي، وما تتطلب النبوة من عصمة وخصائص وصفات لا تخرم بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، بل تخدمها.
يقول الله تعالى، مبينا مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحددا موقعه مـن الرسالة:
( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي ) (الكهف:110)،
ويقـول الله تعـالى:
( قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ) (يونس:49)..
ويقول سبحانه:
( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله [ ص: 13 ] ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي ... ) (الأنعام:50).
وكون هـذه القيم الإنسانية التي ندعو إليها بريئة من التحيز، فلأنها ليست من وضع دولة أو حكومة أو حزب أو جماعة أو طبقة، لذلك فهي مؤهلة للعالمية، وسبيل للمساواة والحيلولة دون الهيمنة.. وبعد:
فهذا كتاب الأمة السادس والثمانون: «ظاهرة العولمة، رؤية نقدية»، للدكتور بركات محمد مراد، في سلسلة كتاب الأمة الذي يصدر عن مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر،مساهمة في استرداد الفاعلية وشحذ العقل المسلم، لمعاودة الانطلاق من معارف الوحي، وتشكيل رؤية تلتزم بالمرجعية الإسلامية، أو القيم الإسلامية للقضايا المعاصرة، بعيدا عن الارتماء على (الآخر) ومحاكاته، وفي ذلك إلغاء الذات، أو الانكفاء على الذات، وفي ذلك تجميد ومحاصرة لخلود القيم الإسلامية وعالميتها، وقدرتها على الإنتاج، وتقديم الحلول للمشكلات العالمية المعاصرة، وخروج من الحاضر والمستقبل معا، وإتاحة المجال لتمدد (الآخر) لملء الساحات جميعا.
[ ص: 14 ]
ذلك أن تراثنا مهما كان عظيما، وإنجازنا التاريخي مهما كان متألقـا، إذا لم نتـأهل بـه لكيـفية التعامل مـع الحاضر، وإبصار المستقبل، فسوف يتحول من شاحذ للذهن أو مخصب للذهن ودافع لارتياد آفاق المستقبل، بأدواته المناسبة، إلى معوق، مهما حاولنا الإشادة به واستخدامه للهروب من الحاضر البائس ومعالجة مركب النقص.. وليس ذلك فقط، وإنما المساهمة السلبية أيضا بالتمهيد لفقدان الثقة بهذا التراث، والتحول صوب (الآخر) من قبل الأجيال القادمة.
إن الاجتهاد الفكري الذي ندعو إليه، المنطلق من معارف الوحي، والمنضبط بمقاصد الدين، والقادر على توليد رؤية للقضايا المعاصرة، التي نزلت بدارنا دون استئذان، والمساهم في بناء المشترك الإنساني، لم يعد خيارا نقدم عليه أو نحجم عنه، وعلى الأخص، بعد أن أصبح العالم كله قرية واحدة، اختزل فيها الزمان والمكان، ودارت عجلة العولـمـة بسرعة فاقت كل التقديرات، إلى درجة قد لا تتيح للإنسان ليس قيادتها أو المشاركة في قيادتها، وإنما استيعابها والتعرف إلى وجهتها وكيفية التعامل معها، وعدم فقدان الإرادة، والاكتفاء بتلقي منتجاتها الفكرية والمادية، التي تتمركز حول الاستهلاك، ومحاولتها استنفاد الطاقات جميعا، والتحكم بمسارات
[ ص: 15 ] واختيارات المجتمع البشري، وإدخـاله إلى غرف الانتظار، يستهلك ما يلقى إليه من طعام، ورؤى، ومبادئ، وما يرسم له من أنماط اجتماعية ومسالك اقتصادية.
ونعتقد أن هـذا الاجتهاد الفكري، المؤطر بالمرجعية الشرعية، الذي نحاول ونسعى للوصول إليه، لا بد منه للتأهل لحقبة العولمة، حتى نتمكن به من تجريد النصوص والقيم الإسلامية من حدود الزمان والمكان والأشخاص، ومحاولة توليدها من جديد في التعامل مع قضايا الحاضر وإبصار احتمالات المستقبل، ذلك أن الوصول إلى تلك المرحلة لا يمكن أن يتحـقق بالتـمني، وإنما يتطلب إعادة النظر -بالدرجة الأولى- في موارد تشكيلنا الثقافي، وعلى الأخص في مناهجنا التعليمية والإعلامية، لتكون قادرة على صناعة المؤهلات لهذا الاجتهاد، ذلك أن المناهج، والوسائل التعليمية، والإعلامية، ليست في معظمها من الثوابت، التي لا تجوز مراجعتها أو تطويرها، وإنما هـي رؤى اجتهادية تأتي وليدة العصر ومشكلاته، ومناهج تتطور باستمرار لإعداد المتعلم حتى يدرك عصره، ويعرف كيفية التعامل معه.
إذ لا يمكن أن يتصور أحد اليوم، بعد هـذه الرحلة العلمية العالمية
[ ص: 16 ] من الإنجازات في مجال الحفظ والتخزين والاسترجاع، نظاما للتعليم إلى اليوم يقوم على التلقين ويرتكز إلى الحفظ، على حساب إثارة التفكير أو تعليم التفكير، ويسعى إلى حشو الذاكرة على حساب تنمية الذكاء، وعلى الأخص بعد أن كادت الذاكرة تلغى بوسائل الحفظ والتخزين الحديثة، ليتحول الجهد كله إلى تنمية الذكاء وامتلاك القدرة على توظيف المعارف، بدل ذلك الجهد المضني المبذول في تكديسها وتخزينها.
ولعل الإشكالية الكبرى التي تحاصر المناهج التعليمية والوسائل التربوية، التي هـي السبيل لاسترداد عـافية الأمـة، وتحقيق معاصرتها، أنـها ما تـزال -في معظمها- تنتسب إلى مرحلة ما قبل اختراع الكتابة، من اعتمادها على الذاكرة لحفظ المعارف، دون الاعتماد على تنمية التفكير والذكاء لتوظيف المعارف، وعلى الأخص أن القدرة على الحفظ -كما هـو معلوم- هـي أولى وظائف العقل، وأن البلوغ والرشد ينقل قدرات الإنسان من الحفظ إلى التفكير، والتحليل، والتركيب، والتوظيف.
والخطورة كل الخطورة، إذا اقتصرت المناهج على الحفظ على حسـاب التـدبر والعمـل والتوظيف، واعـتـبـار الحفظ هـو العمل، وهو معيار التفوق والنجاح!
[ ص: 17 ]
لقد حذرنا القرآن الكريم من أن نقع في علل الأمم السابقة، وعاب على الذين حفظوا التوراة ولم يتدبروها ويعملوا بها، وشبههم بالحمير، التي تحـمـل على ظهـورها دون أن تـدري ما تحـمل، حتى لا تنتقل العدوى وعلل التدين إلى أمة الرسالة الخاتمة،
قال تعالى:
( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ) (الجمعة:5).
فهل يمكن لنا، أن نعتبر تعهد الله حفظ القرآن،
بقوله تعالى:
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9)،
هـو من بعض الوجوه، لفت النظر لصرف الجهد إلى الموقع الأهم، في التعامل مع القرآن، إلى التدبر والعمل؟
إن عدم تأهيل أجيال الأمة، وتمكينها من أدوات النظر، ومناهج الفهم للمشكلات المعاصرة، وكيفية التعامل معها، من خلال قيمهم الإسلامية، وتجاربهم التراثية والحضارية، يحولهم إلى ببغاوات، عقولهم في آذانهم، يرددون ما يسمعون، سواء بالنسبة للتراث، أو الموارد الثقافية القادمة من (الآخر)، وفي أحسن الأحوال يتقعرون بإطلاق الشعارات المحفوظة عندهم على كل شيء، ويتعاملون مع كل المتغيرات بالوسائل نفسها.
[ ص: 18 ]
وقد يكون من المفيد، بين يدي هـذا الكتاب، أن نعرض لبعض المفاهيم والتعريفات لمصطلح العولمة، أو لظاهرة العولمة، التي أصبحت أشبه ما تكون بعقود الإذعان من القوي على الضعيف، والتي سوف تتحول إلى ألغام ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية تتفجر نحو الكثير من الانكماش والعنصرية.
ومع اعترافنا ابتداء أن المفاهيم المتعددة المطروحة للعولمة، وإن اشتركت أو تجاورت في بعض معانيها، إلا أن الناظر إليها في معظمها، يرى أنها تنطلق من خلفيات ثقافية، واتجاهات سياسية، وانحيازات أيديولوجية لأصحابها، ذلك أن مثل هـذه المفاهيم وغيرها في مجال العلوم الإنسانية أو في المجال الثقافي، من الصعب جدا أن تبرأ من الانحياز، وأن تعرف تعريفا جامعا مانعا محايدا، كما يقول علماء المنطق، فهي مفاهيم ورؤى لم ترتق بعد لأن تكون أو تسمى تعاريف.
ولئن كانت هـذه الظاهرة اليوم (العولمة) عنوانا على البعد الاقتصادي، أو النظام الاقتصادي العالمي، أو إعطاء الغطاء النظري لحركة اقتصاد السوق الحر، تـحت شـعـار: «دعه يعمل، دعه يمر»، أو لأنشطة مجموعة الدول الصناعية السبع، أو الشركات متعددة
[ ص: 19 ] الجنسيات، من أجل فتح أسواق العالم أمام الصناعات الغربية، واستنـفاد خـامات وطـاقـات العالم، لصالح الأقوى، إنتاجا ومعلومة وخبرة.
إلا أن هـذا البعد الاقتصادي المدعى للنظام العالمي الجديد، يبقى ذا أبعاد سياسية، واجتماعية، وثقافية، من خلال سعي الغرب إلى «فرض رؤيته الخاصة ومعاييره الثقافية على باقي الشعوب، معمما عليها نمطه الخاص في التفكير والسلوك، وذلك دعما لهيمنته الثقافية في ظل هـيمنته الاقتصادية المتمثلة في السيطرة على رءوس الأموال والأسواق التجارية والشركات العالمية. وهكذا يصير النظام الثقافي الجديد عبارة عن الخصوصية الثقافية للغرب معممة على غيره من شعوب العالم، مما يفضي حتما إلى تجريد الإنسانية من التنوع الثقافي والتعدد الحضاري الذين تنبني عليهما الخصوصيات التي تتميز بها هـذه الشعوب وتستمد منها عناصر طاقتها ومعاني وجودها وأسباب عطائها.
فالأمر إذن لا يتعلق بتصدير لثقافة عالمية، بقدر ما أنه ينحصر في صورة الثقافة الاستهلاكية المعروفة بنظرتها المتكاملة إلى الإنسان وكل ما يحيط به. وهي بهذا نظام يسعى إلى فرض خططه المالية
[ ص: 20 ] والاقتصادية والتسويقية، ومن خلال ذلك فرض أفكاره ومناهجه، ثم بعد هـذا فرض قيمه وأنماط سلوكه، ليصل في النهاية إلى فرض هـيمنته وسيادته»
>[1] .
نعود إلى القول: بأنه قد يكون من المفيد الإتيان على بعض المفاهيم والتعريفات لهذا المصطلح -وإن كان نصيب التفكير أو التعريف المنطلق من قيم عربية إسلامية فيها ما يزال محدودا، حيث معظم التعامل، حتى من العرب والمسلمين، انطلق من مفهومات وتعريفات (الآخر)- حتى نتمكن على الأقل من تصوره، إن لم نتمكن من الإحاطة به، لأنه ما يزال في طور التشكل، ومن ثم تتاح لنا الفرصة الأفضل لكيفية التعامل معه، بما يستلزم من رؤية ثقافية معرفية، تتطلب اختيار الأدوات المناسبة لها، وتدرك المفاصل الحقيقية للموضوع، وتتوقع المخاطر الكبيرة لتداعياته، لنعرف أين نضع أيدينا، ولا نستخدم نفس المصطلحات والمفردات في الهجوم والمواجهة والتعامل مع كل شيء، وكل متغير بنفس الشيء، ونبصر موقعنا، والحدود المتاحة، والسبل التي تحقق لنا المناعة الثقافية والمشاركة الحضارية.
[ ص: 21 ]
ونورد فيما يلي بعض المفاهيم، التي قد تلقي الضوء على الظـاهرة، وهي في معظمها مستمدة من كتاب (العرب والعولمة):
- يرى بعضهم أن مفهوم العولمة المقصود به: الغطاء النظري أو الفلسفة النظرية لاقتصاد السوق ، ولمجموعة الدول الصناعية، والشركات متعددة الجنسيات، من أجل فتح أسواق العالم أمام الصناعات الغربية، بدعوى المنافسة، والانفتاح، وتشجيع الدول الأقل نموا على التنمية.
- ويرى آخر أن العولمة عبارة عن اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم، وزيادة وعي الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش .
>[2]
- تشير العولمة كمفهوم، إلى ضغط العالم وتصغيره من ناحية، وتركيز الوعي به ككل من ناحية أخرى.
- العولمة مرحلة جديدة تتكثف فيها العلاقات الاجتماعية، على الصعيد العالمي، ويحدث تلاحم غير قابل للفصل، بين المحلي والعالمي، بروابط ثقافية، واقتصادية، وسياسية، وإنسانية.
- العولمة: هـي الرأسمالية فيما بعد مرحلة الإمبريالية .
- العولمة: هـي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية
[ ص: 22 ] جمـعـاء، في ظـل هـيمنة دول المـركز، وسيـادة نـظـام عـالـمي للتبادل غـير المتكافىء.
- ليست العولمة مجرد آلية من آليات التطور التلقائي للنظام الرأسمالي، بل إنها أيضا دعوة إلى تبني نموذج معين.. هـي أيضا أيديولوجيا ، تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم، وإقصاء الخصوصي.
- العولمة فعل اغتصاب ثقافي، وعدوان رمزي، على سائر الثقافات، أو السيطرة الثقافية الغربية على سائر الثقافات، بواسطة استثمار مكتسبات العلوم والتقانة في ميدان الاتصال
>[3]
وهذا الاغتصاب سوف يؤذن من جديد بتفجر العنصريات وثورة المظلومين التي تأخذ أشكالا شتى معظمها خارج عن الضبط.
ولا شك أنه من الصعوبة بمكان، الإحاطة بالفهوم والتعاريف المطروحة كلها لمصطلح العولمة، أولا: من حيث إن المصطلح حديث لم يتبلور حول معنى مستقر وثابت.. فبعضهم يحصره في الدور الاقتصادي، وما يقوم عليه من هـيمنة النظام الرأسمالي على أسواق العالم، وطاقاتها وخاماتها، للسيطرة عليها باسم النظام العالمي
[ ص: 23 ] الجديد، وليس له من المشترك الإنساني شيء، وإنما هـو سيطرة للقطب الواحد الذي يملك المعلومة، ويملك التكنولوجيا ، وأدوات الاتصال، وبالتالي يتحكم في العالم، وما يستدعي هـذا التحكم من الهيمنة السياسية، كغطاء لا بد منه لحركة الاقتصاد.
وبعضهم لا يرى فيه إلا البعد الثقافي، وما يمكن أن ينتهي إليه من اغتصاب، وطمس، وإلغاء للثقافات الوطنية، والدينية، والقومية، والخصوصيات الإنسانية، سـواء بشكل مـبـاشر وصريح، أو بشكل مقنع بقناع اقتصادي، لكنه مشبع بالرؤية الثقافية، التي ترافق أدواته، ومخترعاته، وإنتاجه، وعاداته، وأنماط استهلاكه.
وبعضهم لا يبصر فيه إلا السيطرة والهيمنة السياسية، والاحتواء لحركة العالم، ذلك أن التاريخ -بنظره- انتهى إلى مصب القطب المتحكم سياسيا
>[4] ، الذي يأتي ثمرة لصراع الحضارات ، حيث المعارك القادمة ليست معارك تقليدية بين دول وكيانات سياسية، وإنما هـي صراع بين الثقافات والحضارات
>[5] ، وكذلك الأسرة كنمط اجتماعي انتهت أيضا، والأيديولوجيا انتهت...إلخ، فهو عصر النهايات، التي لا بد أن تصطبغ بلون ورؤية النظام العالمي، أو العولمة
[ ص: 24 ] الجديدة، دون أن يدري أو يضع احتمالا على الأقل إلى أنه عصر الأفول وعصر البدايات، والـخـاضع لـسـنـة الـتـداول الـحضـاري التي لا تتوقف،
يقول الله تعالى:
( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (آل عمران:140).
ومنهم من تتحكم به رؤية ثأرية، محكومة بخلفية من الثقافة اليسارية، الحاقدة على النظام الرأسمالي.
كما أن بعضهم يتوقف عند قراءة اللفظ من الناحية اللغوية، فيرى: أنها من الفعل (عولم) أي صير العالم وفق رؤيته.. ومنهم من يعتبر العولمة صفة لشكل العالم الجديد.. وبعضهم يرى أنها مشتقة من العالم وإعادة صياغته حسب رؤيته.
وعلى العموم، فإن ما عرضنا له من التعاريف والفهوم هـو غيض من فيض، لا يخرج عن محاولة منا لفتح نوافذ للنظر من جهات ووجهات متعددة، لعلها تساهم بقدر من التصور والفهم، الذي يمنح قدرا لا بد منه لإدراك ثقافة العولمة المعاصرة وآلياتها، وبعض آفاقها التي يمكن ارتيادها باعتبار أنها ليست شرا كلها، كما أنها ليست خيرا ورفها كلها.. وتبقى المشكلة: كيف نتعامل معها من خلال معايير ثابتة، فلا نرفض بإطلاق، وقد لا يمكننا الرفض المطلق،
[ ص: 25 ] ولا نقبل بإطلاق، شأن العوام، أو الـمصابين بعـمـى الألـوان، الذين لا يميزون بين الخير والشر، والحق والباطل، وإنما نتعامل ببصيرة تمكننا من الإفادة من معطياتها وتوظيف آلياتها وقنواتها لرؤيتنا، واغتنام تقنياتها لتوصيل رسالتنا للعالم، حتى لا تبقى العولمة طريقا ذا اتجاه واحد، بما يمكن أن نطلق عليه بالانكسارات لأهداف دعاة العولمة.
وقد لا نأتي بجديد عندما نقول: بأن العولمة بدأت عجلتها تسير بشكل متسارع، وتجلياتها تلاحظ في كل مكان، سواء في ذلك الدول المتقدمة المتحكمة التي تحسن توظيفها لمصلحتها، أو الدول المتخلفة، التي تبوء بآثامها، وذلك بما قدمته التكنولوجيات، ووسائل الاتصال، وأوعية الإعلام، من إمكانات أسقطت السدود والحدود، وطوت الزمان، واختزلت المكان.
فلقد أصبح مألوفا أن نشهد ملامح حقبة العولمة القادمة واحتلالها للعقول والنفوس في شبكة المعلومات «الإنترنت»، التي أزالت الحدود، وفي وسائل الإعلام واحتلالها للفضاء، ونشوء منظمات تحمل إيقاع العولمة، مثل: «أطباء بلا حدود»، و«مراسلين بلا حدود»، و«صحفيين بلا حدود»، و«حوارات بلا حدود»...إلخ. وفي شيوع مصطلحات العولمة على الساحة الثقافية، ومحاولات تنميط أسلوب الحياة في الطعام، واللباس، والتسوق، والاستهلاك،
[ ص: 26 ] علما بأن التوجه صوب العولمة، ليس بدعة هـذا العصر، وإن كانت العولمة اليوم أوضح وأسرع وأكثر ظهورا، وإنما بدأ بخطى بطيئة منذ فجر التاريخ، مترافقا مع حركة الإنسان، ابتداء من العصر الرعوي والزراعي، وتطور أكثر في العصر الميكانيكي، واختراع الآلة، وقفز قفزات نوعية كبرى في العصر الإلكتروني، الذي ما نزال في بداياته، نشهد أجياله الأولى.
ولا تخرج هـذه المغالبة الحضارية -محاولات العولمة- عن أن تكون إحدى سنن المدافعة الحضارية التي تأذن بامتداد الحياة واستمـرارها وإن اختـلف إيقاعها، وتطورت سرعتها.. ولقد تجلت في كل الظـروف والعصـور، من خـلال أدوات كل عـصر وإمـكاناته -كما أسلفنا- وتطلع إليها الحكام والمفكرون وقادة الأحزاب، ومارستها حركات الغزو في العصر الرعوي، ورحلات الاستكشاف الجغرافية «طلائع الاستعمار الحديث»، وكانت سببا في نشوب الحروب المحلية والإقليمية، والحروب العالمية، ومسوغات الاستعمار، وبسط النفوذ، والسيطرة، وظهور التبشير ، والاستشراق ، والدعوات العالمية، والقول بفلسفة الحتميات التاريخية لمركسة العالم، وتشكيل مؤسسات وروابط عالمية على مستوى الشبيبة والعمال والفلاحين، وما إلى ذلك.
[ ص: 27 ]
وما ذلك كله إلا أنموذجا، وصورا، وتجليات لهذه الوجهة التي لم تتوقف، حيث يحاول الأقوى أن يبسط نفوذه وهيمنته، وإن كانت التجليات اليوم تبدو وتيرتها أسرع، وإيقاعها أقوى، وتسللها أكثر سلاسة ومرونة (القوة المرنة)، من خلال الأحلاف والمعاهدات، والمؤتمرات العالمية، والدعوات اليومية لتشريعات دولية في مجال المرأة، والطفل، والبيئة.
إضافة إلى تحول المنظمات الدولية إلى مؤسسات يمارس فيها الأقوى عمليات الاغتصاب السياسي، والثقافي، وحماية بعض ألوان العنصرية المدللة، وجميع أنواع عقود الإذعان، ومصادرة الإرادة، وفرض الرأي، واستخدام حق النقض ، والتي تعتبر من أعتى أنواع إرهاب الدول وهيمنتها. وأكثر من ذلك، فالدول المهيمنة التي تقف وراء العولمة أو النظام العالمي الجديد، اعتبرت رؤيتها وقيمها الحضارية هـي المعيار، وأعطت نفسها الحق في إصدار شهادات حسن سيـرة وسلـوك أو سـوء سلـوك للـدول التي لا تذعـن لها، ولا تحقق مصالحها، وتفرض عليها العقوبات في الوقت الذي تغض الطرف عن جرائم الاحتلال والعنصرية، مما سوف يؤدي إلى ردود فعل غاضبة على هـذه المظالم قد تتجاوز المتوقع.
[ ص: 28 ]
فالتدافع سنة اجتماعية من سنن الله، ومن لوازمها عدم تسليط ظالم واحد على الدنيا، حيث يستحيل ذلك، لأنه يلغي حركة التاريخ وسنة التدافع التي تأذن باستمرار الخير والعدل وقيام مؤسساته. فالتدافع بين الباطل والباطل وبين الحق والباطل هـو سر الحياة ونموها واستمرار تاريخ الإنسان على الأرض.
ولم يعد خافيا أن الذي يمتلك المعلومة، التي أصبحت تسمى القوة المرنة، يمنحها لمن يشاء، ويمنعها من يشاء.
والذي يمتلك الاختراع، ويتفوق فيه، سوف يكون بموقع استغلال الآخر، العاجز المتخاذل، وصوغ حياته، وسوف يترك بصماته الثقافية، وأنماطه الاجتماعية، وعاداته الاستهلاكية، ورؤيته الاقتصادية، وقدرته على الاستحواذ على كل ما يريد، لإعادة بناء الإمبراطوريات الاقتصادية، التي تقتضي إمبراطوريات ثقافية، وسياسية، واجتماعية، وإعلامية، واتصـاليـة، لا تغيب عنها الشمس، والتي قد لا تكون معلنة، وإن كان الجميع يدورون في فلكها.
يرى متشيل رابوثام في كتـابه «وداعا أمريكـا العولمة والديون»: أن الديون التي أثقلت كاهل الدول النامية ، والتي أنتجها النظام
[ ص: 29 ] المالي العالمي، الذي وضعته أمريكا بعد انتصارها في الحرب العالمية الثانية، تحول دون تكوين الثروة الحقيقية من السلع والخدمات، حيث يقوم النظام المالي على الانتقال الإلكتروني للعملات المخفضة كل يوم، وفي تلك الأثناء، يتم سحب معظم الموارد الصناعية، والمنتجات المختلفة من الدول الفقيرة، إلى الشركات متعددة الجنسية في العالم.
ولعلنا نقول هـنا: بأنه يكاد يكون من المسلمات -فيما نرى- الاستحـالة على أي نظـام إقليمي، أو دولي، أو عالـمي، أو عـولـمي، أن يكون قادرا على محـو الـخصوصيات، أو إلغاء التنوع والثنائيات -على المدى البعيد- حتى ولو توفرت العزائم، والأدوات، والقوة الباطشة، لأن التنوع البشري، والخصوصيات الثقافية، سنة طبيعية من سنن الخلق، تبتدىء بالفرد، ويتمتع بها الأفراد في الأسرة الواحدة، الـمنحدرة من أب وأم، ومنـاخ ثقـافي، وتـربـوي، وغـذائي واحد، لأن التنوع من سر الخلق، وهو خصائص مغروزة بالفطرة،
قـال سبحانه وتعالى:
( فطرت الله التي فطر الناس عليها ) (الروم:30)،
وتمتد عبر الأسرة في المجتمع الواحد، وفي سائر المجتمعات والثقافات، حتى أننا نلمح ذلك في السماء والأرض،
[ ص: 30 ] والزروع والثمار، والكواكب، والليل والنهار، كما يستحيل إلغاء التداول الثقافي وبناء المشترك الإنساني وإيقاف الحوار الحضاري .
فلقد جعل الله الناس بأصل الخلق شعوبا وقبائل،
قال تعالى:
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) (الحجرات:13)،
هـذا التعاون، والتعارف، والتكامل، هـو ثمرة التنوع، وهو ماهية الخلق، وسبب نموه، وامتداده، وأساس لسنة التدافع الحضاري، فإذا ألغي يتوقف التاريخ، وتتجمد الحياة، وينتهي الأحياء.
فهذا الجعل من الله الخالق، الذي كان به التنوع، هـو إغناء وإثراء وتكامل، فالتفكير في التنميط والاستنساخ الثقافي، والاقتصادي، أو السياسي، أو الاجتماعي، مناف للطبيعة، ومصيره وعاقبته البوار، وكم من إمبراطوريات في التاريخ الحضاري، والتاريخ المعاصر، حاولت تجاوز ذلك وإلغاءه، وجعل الأفراد والشعوب نسخا مكررة، أو جعل الشعب الواحد نسخة مكررة عن الحاكم أو الزعيم، باءت بالفشل، وجاءت الانفجارات القومية، والدينية، والإثنية.. وجميع تلك الانتماءات والخصوصيات، التي احتفظ بها السكان، وتوارثوها اجتماعيا، وثقافيا، وبمجرد أن خفت قبضة
[ ص: 31 ] الهيمنة، عادت إلى الظهور، وما خبر الاتحاد السوفيتي الذي حاول مركسة العالم، أو عولمته ماركسيا، عنا ببعيد، ذلك أنه لم يستطع أن يمركس نفسه.. ولعل الانفجارات المتنوعة، من دينية، وثقافية وإقليمية.... وقومية، هـي أشد ما تكون فيه اليـوم، إلى جـانـب ما خلفه الفقر والبؤس الاقتصادي.
ولا شك أن ذلك العهد الشيوعي، على الرغـم مـمـا قـام بـه مـن التهجير القسري والتشتيت، والتغيير الديـمـغـرافـي ، وعـلى الأخص لشعوب القـوقاز الـمسلمة، وإعـادة هـنـدسـة الـمـدن، وفـك الأحياء، والأسواق، ومن ممارسة للعولمة «المركسة»، لم يتم بدون إصابات وضحـايا، لكن تـبـقى دائما العبرة بالعـواقب البعيدة لا بالنتائج الآنية.
ونحب أن ننبه -كما أسلفنا- إلى أن هـذا التنوع أمر واقعي، وطبيعي، ولا يتطلب الاعتراف به من أحد، لأنه من جعل الله في الطبيعة، والجبلة الإنسانية، لذلك يبقى الطريق المأمون، هـو البحث عن التكامل، والتعاون، والاعتراف بالتنوع الإنساني، والتعارف الذي يتولد عنه الحوار، ويورث التعاون في بناء المشترك الإنساني.
فالاعتراف بالتنوع وتوجيهه صوب المشترك الإنساني، وإثارة
[ ص: 32 ] التنافس، وبناء إرادة الدخول في حلبة التنافس، يمكن أن يصبح محرضا حضاريا، لكل الأنواع والخصوصيات، ويكون سبيلا لتحقيق الذات، من خلال الإسهام في العطاء للمشترك الإنساني، لكن المصيبة كل المصيبة، إذا ارتكس هـذا التنوع عن وجهة التعارف، والتعاون، لبناء المشترك الإنساني، وانغلق وتشرنق على نفسه وأنكر (الآخر) ولم يعترف به، وتحول من وسيلة إلى هـدف، وأصبحت له فلسفته التي تؤدي إلى الانعزال، ومن ثم الانقراض.
وقد يكون صحيحا إلى حد بعيد أن دعاة العولمة، بمفهوم الهيمنة والسيطرة على العالم، وليس بمفهوم بناء المشترك الإنساني، الذي يحتفظ بالتنوع ويقوم عليه، ويعتبره أساس النمو الحضاري، والتقدم، وإثارة الاقتداء، والفاعلية، وتجميع الطاقات، للإقلاع الحضاري، حاولوا التمهيد، وتأهيل الشعوب، وترويضها للقبول بالعولمة ، التي تعني التسلط والاستعمار، بصيغ قديمة متجددة.
ولعل في مقدمة ذلك التمهيد إدخال الأمم والشعوب في مرحلة الوهن الحضاري، وذلك بإقامة أنظمة الاستبداد السياسي ومساندتها، لأنها تدمر الثقافة، والتربية، والتعليم، والاقتصاد، وتغرس صفات الذل واليأس في النفوس، وتجعل المجتمعات هـشة،
[ ص: 33 ] وسريعة العطب، والانكسار، والاستسلام، وحتى الميل للانتحار الجماعي، وذلك بإلقاء نفسها على (الآخر)، أملا في الخلاص.
وقد يكون من المفارقات العجيبة، التي قد لا يدركها الكثير: أن اليد نفسها التي قد ترفع قيم الديمقراطية ، والحرية، والحوار في بلادها، هـي نفس اليد التي تروج وتساند الاحتلال والعنصرية التي تخدم مصالحها، وتدعم أنظمة الاستبداد السياسي، والقمع الأمني بمختلف أشكالها، لتصبح هـذه الأنظمة مؤهلة لطرد الطاقات والخبرات، وحتى السواعد من بلادها، وتصبح بلاد الحرية والديمقراطية والحوار والتسامح هـي الملاذ وأماكن الجذب!! والقليل القليل الذي يستطيع التمييز بين الصورة الظاهرة والحقيقة الخفية، ويدرك ما في الأعماق.
وليس من المفارقة أن نقول: إن الذين يصنعون أنظمة الاستبداد السياسي ويساندونها لصالحهم ولتمكين هـيمنتهم وتحكمهم وعولمتهم -إن صح التعبير- لا يقتصرون على صنع أنظمة الاستبداد فقط، وإنما يساهمون بوجود أشكال وصور من المعارضات لها، يصنعونها أيضا، أو يخترقونها إذا كانت مسبقة الصنع، وبذلك يحتوون بعض الأنظمة الحاكمة، والمعارضة في آن واحد، ويضمنون
[ ص: 34 ] الحاضر والمستقبل معا، ويستخدمون كلا منهما لتخويف الآخر، والضغط عليه، وضمان البديل حال الضرورة.
ولا يقتصر دمار الاستبداد وآثاره على الصعيد السياسي فقط، وإنما يتجاوز إلى سائر الأصعدة الأخرى، ليس على مستوى المؤسسات فقط، بل قد يصل إلى مستوى تشويه الأفراد، ليصبحوا أرقاما تتحرك في القطيع.
ولعل إشكالية الصراع، بين أنظمة الاستبداد والشعوب، أو بين الدولة والأمة، الأكثر ضراوة، هـي التي تتمحور حول قضية العقيدة، ومحاولة إقصائها، وفصلها عن الحياة، لأنها هـي القوة الدافعة للنمو والنهوض، وسبيل الإحياء، واسترداد الفاعلية، وهي القوة المانعة من السقوط والذوبان في (الآخر)، وخاصة العقيدة الإسلامية، لأنها تشكل رؤية شاملة للكون، والإنسان، والحياة. ذلك أن الالتزام بالقيم الإسلامية الحقة، يحقق التحصين الكامل، ويحول دون الاختراق، لذلك نرى أن المعارك المختلفة الألوان، والأشكال، والأسلحـة، إنما تدور رحاها في معظم المواقع، حول العقيدة بشكل أو بآخر.
وفي اعتقادي أن محاولة تأهيل الشعوب للهيمنة وامتداد
[ ص: 35 ] (الآخر)، أو صنع القابلية للعولمة، بمعنى السيطرة والهيمنة، وتسييد الثقافة الوافدة، والنظام الاقتصادي، والنمط الثقافي الواحد، وإلغاء الخصوصيات، بدأت تاريخيا بمحاولة إبعاد الحياة عن الدين، وتشكيلها بعيدا عنه، أو فصل الدين عن الدولة، أو ما اصطلح على تسميته بـ ( العلمانية ) التي يمكن أن نعتبرها طريق العلمنة الرئيس، الموصل للعولمة .
ذلك أن العقيدة أو الدين يمثل أعلى درجات الحرية، والاعتراف بالتنوع، وأرقى أنواع الاختيار وتحقيق كرامة الإنسان، وهذا الاختيار لا يتحقق إلا بالحرية والحوار.. وهو المشكل الأساس للثقافة والتربية، والدافع الرئيس للسلوك، والمانح للمعايير التي تمكن من الفحص، والاختبار، والقبول، والرفض.. وهو الذي يمنح الفرد شخصيته، ويشكل قسماتها وملامحها، ويمكنها من أدوات الحوار مع (الآخر)، بل والقبول بـ (الآخر).. وهو الترسانة الثقافية، والاجتماعية، والتربوية التي تحمي الشخصية.
لذلك نرى أن فطرة التدين متأصلة في النفس البشرية، وهي قديمة قدم الإنسان، فقد وجدت مدن وقرى ودول من فجر التاريخ بدون مصانع، أو معامل، أو معاهد...إلخ، لكن لم توجد بلاد بدون
[ ص: 36 ] معابد.. لذلك كانت محاولات إزاحة الدين وفصل الحياة عن العقيدة، وما أحدث ذلك من الانشطار الثقافي، هـو الأخطر في العملية الثقافية، حيث تم تقسيم التعليم إلى ديني ومدني، ومن ثم تهميش التعليم الديني وعزله عن وظائف المجتمع وإقامة مناهجه على حشو الذاكرة، على حساب إكساب المنهجية، والملكة، وتنمية الذكاء، ومحاصرته حتى لا يتطور، ويبقى يعاني من غربة الزمان والمكان، سواء كان ذلك بعجز منه أو بكيد له.
كما تم استيراد التعليم المدني للخطط والمناهج من (الآخر)، والوقوع في الارتهان للمنهج، والكتاب، والأستاذ، والمرجع، واللغة.. ولم يقف الأمر عند هـذا الحد، وإنما امتد حتى بدأ يطال التعليم الوطني، والرسمي، والعام، وتوهينه، لصالح إقامة مؤسسات تعليم خاصة تنتسب (للآخر) ثقافيا، وحضاريا، لتلتهم البقـية الباقية، وتجتذب النخبة، وتمكن (للآخر) من الامتداد داخل الأمة والمجتمع.
وليس أمر الإعلام، الذي يعتبر الأساس في صياغة الرأي العام، والتشكيل الثقافي، والتسويق الاستهلاكي، والإغراء الإعلاني، بأحسن حالا، حيث إن الإعلام في الكثير من بلاد العالم الإسلامي،
[ ص: 37 ] والدول النامية المرشحة للعولمة والهيمنة، مشغول -في معظمه- بتمجيد المسئول والجري وراء حركاته وتحركاته، والحديث عن عبقرياته، وإنجازاته، حيث يغطي معظم أوقاته في معاودة نشر البيانات، والقرارات الرسمية، وتكرارها في الإعلام المقروء، والمسموع، والمشاهد، حتى أصبح النشر الإعلامي أشبه ما يكون بالقدر الغلاب، في الوقت الذي يتطور فيه إعلام العولمة بخطى رهيبة ودراسات ميدانية، وأكاديمية، تخدمها جميع الشعب المعرفية، ليحتل الإنسان بعقله، وحواسه، وغرائزه، وعواطفه، أو بعبارة أخرى يحتل الإنسان كله.
والحقيقة أن وقف الأمم -تاريخيا- على الإعلام الرسمي فقط، قد انتهى لصالح (الآخر)، وذلك باحتلال الهواء، والسماء، والأرض، واقتحام البيوت، فالإعلام اليوم بتنوعه واهتماماته، استغرق الإنسان بأوقاته كلها، فهو الأسرة، والمدرسة، والنادي، والمجتمع، والأم والأب، والجار.. أصبح الإنسان بالإعلام محتلا من خارج الحدود، أو ما يمكن أن يسمى الاحتلال عن بعد.
وتبقى المشكلة الأساس، هـي مشكلة الاستبداد السياسي، وإلغاء الحريات، التي تمكن من التفكير، والاختيار، والتشاور، والتحاور،
[ ص: 38 ] والمناظرة، والمثاقفة. ففي بعض بلاد الاستبداد السياسي، ما تزال الشعوب تعتبر من القصر، بينما يعتبر حكامها من الراشدين، لذلك فهم يخافون على شعوبهم من سوء استخدام الحرية، يخافون من الحرية على الحرية، ومن الديمقراطية على الديمقراطية.
فالحرية فقط يستحقها (الآخر) ليفعل بنا ما يريد، والشعوب حرة، لكن فقط في اختيار نمط (الآخر)، وحرة في أن تطلق غرائزها، وتستبيح حرماتها، إلا إنها ممنوعة مقموعة في اختيار ذاتها، وثقافتها، وعقيدتها، والالتزام بأخلاقها، وتقاليدها السليمة. حتى المفردات، والمصطلحات، والقضايا، والمفاهيم المطروحة على الساحة الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، أصبحت هـي مفاهيم (الآخر)، ومصدرها ومرجعها هـو (الآخر).
والذي نحب أن نؤكده نتيجة للاستقراء التاريخي والشواهد الواقعية أن فترات الحرية والديمقراطية هـي فترات الازدهار والنمو والامتداد والانتشار لقيم الدين، لما يمتلك من قوة ذاتية ورصيد من فطرة الإنسان، وأن البطش والارهاب هـي سبيل للإقصاء والمحاصرة والإلغاء لقيم الدين.
لذلك نرى أن معظم الذين حاولوا مناقشة العولمة ورؤيتها
[ ص: 39 ] وأصدروا في ذلك كتبا مثل: (ندوة العرب والعولمة)، على أهميتها والجهد المبذول فيها، لم يخرجوا عن الدوران والتفكير بعقل (الآخر)، بمفـاهيـمه، وتعريفـاته، ومفـرداتـه، وآليـاتـه، وأدواتـه في البحث، والتي قد تبدو فيها مستقلة نوعا ما، ولم تخرج كتاباتهم عن كونها كتابات ثأرية يغلب عليها الانحياز لأيديولوجيات هـي الوجه المقابل والنقيض (للآخر). أما عن العرب والمسلمين، ورسالتهم ودروهم في صورة العالم الجديد، وفهمهم له، فلا تكاد تقع عليه العين، إلا بعض المقالات والملاحظات والحماسات المتناثرة هـنا وهناك.
والخشية كل الخشية، أن يتعولم المثقفون، الذين يعتبرون خط الدفاع الأول، وتمارس عليهم عمليات الاستنساخ الثقافي، فيمارسون الخيانة الثقافية، قبل أن تتعولم الأمة. وقد تكون مشكلة الكثير منهم، اختلال النسب، وفقدان المعايير، والتعاطي مع العولمة بشيء من الحول العقلي، الذي لا يمكنهم من إبصار الجوانب الحياتية، والاقتصادية، والثقافية، والتنموية، والتجارية، والاستهلاكية، الأمر الذي يؤدي إلى اختلال النظر في التعاطي معها، وعدم إبصار إلا جانب الهيمنة والسيطرة، بعيدا عن إنجازاتها في مجال التقنية، والمعلومة، والاتصال بعمومها، وإن كانت هـذه
[ ص: 40 ] الإنجازات توظف لخدمتها في نهاية المطاف، وعلى الأخص أن كثيرا من دول العالم ما تزال -لأسباب لا يتسع المجال لاستقرائها- دون سوية استيعاب التكنولوجيا الحديثة، وكيفية التعامل معها، ولا تصل إلى مرحلة الاستيعاب للاستخدام، إلا وتواجه بتقنيات جديدة متدفقة، لتتابع اللهاث وراء فهمها، وكيفية استخدامها.. وبهذه الرؤية وهذه الوسائل، سوف تستمر في موقع المتلقي.
ولا شك أن الذي يمتلك المعلومة، ويمتلك التقنية المتقدمة، ويـمتلك وسائل الإعلام والاتصال، التي أصبحت أشبه بالـحواس التي لا يمكن الاستغناء عنها، سوف يمتلك التحكم بحركة العالم الذي بات لا يستطيع الحركة بدون هـذه الحواس، وهو الذي سوف يقود قطار العولمة، ويمر به في سائر أنحاء العالم.
في إحصائية « لليونسكو »: أن 75% من الإنتاج العالمي يصدر عن الولايات المتحدة الأمريكية ، 25% لبقية العالم، وأن 88% من معطيات الإنترنت باللغة الإنجليزية، و9% بالألمانية، و2% بالفرنسية، و1% لبقية اللغات.
وعلى الرغم من أن الصورة الظاهرة للعولمة، أكثر وضوحا في عالم الاقتصاد والتجارة العالمية، إلا أن هـذه الأدوات والقوانين والبضائع
[ ص: 41 ] الـمطروحة، مشبعة بثقافة أصحابها، والناقل لها، وأكثر من ذلك أيضا المروج لها، ذلك أن أشياء الإنسان إبداعا، واستعمالا، وتوظيفا، لا تنفك عن الإنسان وثقافته، التي تعتبر الموجه الحقيقي لحركته وأنشطته في شتى المجالات.
ولعل فتنة التكنولوجيا اليوم التي تشغل العالم بجلبتها وخوارها (العجل الذهبي المعاصر)، لا تدع فرصة للناس ليناقشوا ثقافتها وسياستها، واختبارها أمام هـذا الإنجـاز المبهر، الذي يمكن صاحبه -بثقافته وسياسته وعقيدته- من إغراق الأسواق، والعقول، والنفوس، وطبعها بعاداته ورؤيته. والذين لا ينتجون ولا يمتلكون المعلومة، التي يدعمون بها ثقافتهم وعقيدتهم، ويدللون على صلاحها، فسوف لا يكونوا قادرين على إقناع أحد، لأن تخلفهم وأحوالهم تسقط أقوالهم وادعاءاتهم. لذلك أشرنا سابقا إلى أن الإسلام ربط القرآن بالميزان، لتقترن القيم والمثل بالتطبيق والممارسة والإنجاز.
وباستقراء سريع لمسيرة الحضارة الإسلامية وتضاريسها، نبصر بوضوح أن فترات التألق والإنجاز والانتشار وتحقيق القناعات الفكرية والثقافية، لم تكن منفكة عن اللقاء بين الدين والعلم، بين الإيمان والقدرة على التسخير والتعمير، بين الإحاطة بالسنن الاجتماعية
[ ص: 42 ] والنفسية والسنن الكونية، وامتلاك ناصية العلم، التي تمكن من مدافعة قدر بقدر، وتقدم للناس إنجازات ووسائل وإبداعات تقنعهم بصوابية القيم، وقدرتها على إعداد الإنسان وتأهيله للاستخلاف والعمران، بين النظرية والتطبيق.
فالدين إنما أنزل لتهذيب الإنسان لا لتعذيبه، وليصوب رحلته وعطاءه في الدنيا، ذلك أن صواب المسار في الدنيا يوصل إلى حسن ثواب الآخرة، في الرؤية الإسلامية.. فقيم الدين هـي لإعمار الدنيا وفق سنن الله ومنهجه.
فـالعـالم وخـاصـة منـه العالم النامي أو المتخلف، الذي يعيش حـالـة الفقـر، أو تـحـت خط الفقر، مهيأ لأن يقبـل دائـما ما يلـقى إليـه مـن الـوسـائـل، لأنـه يـظـن مـعـها الخلاص، ولـو كانت سـرابـا قـد يكرس تخلفه.. ولا يصل إلى مرحلة الارتقاء إلى الاختبار والاختيار الثقافي، والتطلع إلى الـمـثل الأعـلـى، إلا بعـد أن يتحقـق له الأمن الاقتصادي، والأمن الاجتماعي والسياسي المفقود عنده،
قـال اللـه تعالى:
( فليعبدوا رب هـذا البيت *
الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) (قريش:3-4).
وفي تقديري، أن العولمة بأشكالها ووسائلها المعاصرة، سوف تحتل
[ ص: 43 ] مواقع كثيرة في حياة الناس، نظرا لقدراتها التقنية وإنتاجها الكبير، ولتحول الكرة الأرضـيـة إلى مـجتـمع واحـد إعلاميا، تكاد تتوحـد فيـه الوسائل والأدوات، كثمرة للتـعـارف والتـبـادل الـمعرفي، ولوحدة المصادر المعلوماتية والتكنولوجية. ولكن التقنيات المتدفقة، وتأمـين حرية الـمرور للمعلومة وللبضاعة، بعد رفـع الـحواجـز، سوف يصل إلى مدى معين من التوحد العـالـمي، تكون بعده عاجزة عن نسخ الخصوصيات، التي تعتبر الشرط والأساس في تفاعل وتشكل الحضارات.
ولا أدل على ذلك من أن الدول المتمكنة تقنيا الـمسيرة لعجلة العولمة اليوم، هـي دول تحتوي في جوفها على قوميات، وأعراق، وألوان، وأجناس، وطبقات هـي أشبه بجزر ثقافية واجتماعية بخصوصياتها، ضمن محيط الدولة الكبيرة، لم تتمكن من هـضمها وتذويبها، رغم كل الإمكانات والمحاولات، لذلك نقول: إنها لم تستطع نسخ الخصوصيات في بلادها، على الرغم من كل المحاولات العنصرية، بل إن الكثير من المحاولات والتحديات زادتها تأكيدا، ويوما بعد يوم تتسع ساحة الاعتراف بها، فما بالنا بالمجتمع العالمي بكل تنوعاته؟!
[ ص: 44 ]
والعولـمة ليست شـرا كلها، وإن كانـت بعـض الكتـابـات الثـأرية لا تبصر فيها -كما أسلفنا- إلا الجانب المظلم، وهو موجود، وإبصاره مفيد لكيفية التعامل العاقل الرشيد.. فقد فتحت آفاقا إيجابية، وميادين للتنافس، ويسرت وسائل للوصول إلى (الآخر)، ومكنت من فتح آفاق ومجالات للحوار، وقدمت فرصا وإمكانات، سوف تخرج الكثير من الأمم الراكدة من رقدتها، وتسهم بحراكها، واستفزازها، وتحريضها، وتمكنها من الاستجابة للتحدي والنهوض، إما بشكل مستقل، أو من خلال الدخول في دوائر مجتمعات العولمة، وإثبات الوجود بعقيدتها وثقافتها.
فالعولمة يمكن أن تعتبر من بعض الوجـوه محـرضا حضاريا، ومنـبـها للحماية الثقـافـيـة، والتـشـبـث بالـذات، وتحـقـيـق الانـدماج في العولمة، بعيدا عن الذوبان، وتأكيدا لسنة المدافعة الحضارية، وإغنائها بالتنوع.
ونحن عندما نقطع أو نجزم بأن ظاهرة العولمة أو النظام العالمي الجديد الذي يمتطي القطار الاقتصادي، ويعبىء عرباته بالسياسة، والثقافة، والتربية، والاجتماع، على الرغم مما يمتلك من سرعة وأدوات، ويمتلك من فلسفات، نؤكد في الوقت نفسه بأنه سوف لا يستطيع
[ ص: 45 ] إلغاء التنوع والخصوصية، لأن التنوع والمدافعة الحضارية سنة الحياة، وسبب امتدادها ونموها، وإثرائها، وإغنائها، وتنفسها، انطلاقا من الخصوصية، وصبا في المشترك الإنساني، كما أسلفنا.
ونحن بهذا لا ندعو للاسترخاء، والكسل، وعدم الاستعداد للحوار، وعدم التشبث بالخصوصيات، وإقامة التراسانات الفكرية، والثقافية، والاجتماعية، القادرة على الصمود والحوار والعطاء، وإنما لنكسب الاطمئنان للعواقب البعيدة، حتى ولو خسرنا بعض النتائج القريبة، ومحاولة لإزالة حالات الرعب، التي تشل الحركة، وتقود الإنسان إلى ذهنية الاستحالة والاستسلام.
فسنة الـمدافعة الحضارية الـمـتأتية من قبل التنوع والخصوصيات، لا تتحرك من تلقاء نفسها، وإنما المحرك الحضاري لها هـو الإنسان، ذلك أن الضرب بين الحق والباطل، في الميادين المختلفة، يقتضي جنودا للحق في مواجهة جنود الباطل، حتى يتحصحص الحق والعدل، ويمكث في الأرض ما ينفع الناس، ولو ظهر وطغى الغثاء، لأن له جولة وليس له بقاء.
وعلى أية حال، فلعلنا نبصر في ظاهرة العولمة، وفلسفتها، ومنتجاتها، وأدواتها، ووسائلها التقنية، فرصة أو لحظة تاريخية،
[ ص: 46 ] أصبحت واقعا يحيط بحركتنا على الأصعدة المختلفة، لم يدع لنا خيارا للقبول أو الرفض، فكيف نحسن قراءتها، ونعرف كيف نتعامل معها؟ بل وندرك دوائر الخير، والجوانب الإيجابية، فنعرف كيف نوظفها ونفيد منها؟
فلسنا أمة هـشة، سريعة العطب، سهلة الانكسار، تعيش في فراغ حضاري وثقافي، وغياب إنساني، وإنما تمتلك معرفة الوحي، التي لو عاودت الانطلاق منها فسوف تمنحها المعايير الدقيقة للعمل والتعامل، إضافة إلى المخزون الفكري والثقافي، وما علينا إلا أن نفكر، ونقدر، وننطلق إلى شعب المعرفة المتنوعة، ونتزود بالإيمان، والمرجعية الشرعية، والعلم، والتخصص، لنكون بمستوى إسلامنا.. وإذا صرنا في مستوى إسلامنا، تحولنا لنكون بمستوى عصرنا، بل لتمكنا من مسابقة عصرنا وتجاوزنا قراءة النتائج القريبة إلى التبصر بالعواقب البعيدة.
وعندنا من الرصيد البشري، والطاقات المتميزة، والتخصصات العلمية الدقيقة، التي تعيش داخل المجتمعات التي تحمل لواء العولمة، وفلسفتها، وتقود مسيرتها، لو أحسنا توظيفه، ما يشكل حيزا مؤثرا في حركة العولمة، وإمكانا جاهزا للمساهمة في انتشال الأمة المسلمة،
[ ص: 47 ] والارتقاء بها إلى مستوى عصرها، وتخليصها من أشكال الاستبداد السياسي، والتخلف التقني، الذي انعكس على حياتها، وأدخلها نفق التخلف، وعيشها في دوائر محكمة الإغلاق.
ولعل من البشائر، أو من حسنات العولمة، أن الدوائر المغلقة المفروضة على الأمم بدأت تتلاشى، وتنهار، وتسقط الأسوار، لتتحقق الفرصة التاريخية للإقلاع من جديد، ومحاولة إظهار الدين على المستوى العالمي، ليصبح ظاهرا واضحا مستفيدا من نفس الوسائل والطرق التي بنيت لتوصيل (الآخر) بكل أحماله إلينا، تحت شعار: «دعه يعمل، دعه يمر»، فكيف نفكر نحن أيضا بـ «ماذا نعمل، كيف نمر؟» لتوصيل ما عندنا إلى (الآخر)، وعنـدنـا الكثـير مما نقدمه؟
وهذا ليس بدعا في تاريخ الحضارات، فكثيرا ما تحول الشر خيرا، وتحولت الحملات المعادية إلى كتائب آمنت بالإسلام وحملته إلى العالم، وكثيرا ما احتوت حضارة المغلوب وهضمت أدوات الغالب، بما تمتلك من قيم ومعايير إنسانية، لها رصيدها في فطرة البشر.. فعندنا الكثـير مـمـا نقـدمه، ونقول بالنسبة لظاهرة العولمة: رب ضارة نافعة.
[ ص: 48 ]
ذلك أن عوامل البقاء والخلود والاستمرار، والقدرة على العطاء، واستعداد الإنسان بفطرته للتلقي، هـو من لوازم الرسالة الخالدة، ومن خصائص هـذا الدين، لأنه ديـن الفطـرة، والتـاريخ الحضـاري -المختبر الإنساني- شاهد على ذلك.
ولعل من المفيد أن عرضنا سريعـا لبعـض الخصائص التي تميزت بها العالمية الإسلامية، أو الرؤية الإسلامية للعالمية وبناء المشترك الإنساني، التي سوف تؤهلنا للتعامل الإيجابي، ذلك أن الثقافات الضعيفة، والهشة، والمحدودة الانتشار، والفاقدة للرصيد الحضاري، لا تعرف غير الرفض، ولئن كان الرفض ينفع في المدن والدول ذات الأسوار في الماضي، فما قيمة هـذا الرفض بعد سقوط الأسوار، واحتلال النفوس، والهواء، والكواكب، والأسواق، وحتى البيوت والأجسام؟
إن الانكفاء والرفض وتجنب التعاطي مع الـمشكلات العالمية، بات لا يعني النجاة بحال من الأحوال، كما لا يعني تحقيق الحماية والمناعة الحضارية، وإنما يعني العجز، والتمهيد للاستسلام النهائي.
ولعلنا نقول: لو أننا صرفنا بعض الجهود التي نبذلها في الرفض والإدانة والشجب لاستيعاب الـمشكلات والظواهر الـمعاصرة،
[ ص: 49 ] وأعددنا أنفسنا لكيفية التعامل معها، لتغير الـحال، ولـحققنا كسبا لعقيدتنا وأمتنا.
إن الخصائص والصفات التي تتمتع بها الرؤية الإسلامية للعالمية والعالم، والرصيد الحضاري التاريخي في بناء المشترك الإنساني، تؤهلها لتؤدي دورا مؤثرا في المشاركة، وتعديل مسارات العولمة، والمساهمة بتصويب أهدافها، والتخفيف من غلوائها، واستخدام أدواتها ومعطياتها، وإنقاذ الحضارة من أزمتها، لأن العولمة في مجملها، اتجهت صوب أشياء الإنسان، وباتت تعزو كل إشكالية نفسية إلى الأسباب التكنولوجية التي تحتمي بها، وتحاول معالجتها بمزيد من التكنولوجيا.
ولعل الإصابة الأهم التي تأخذ بخناق مجتمعات التكنولوجيا، ومجتمعات العولمة، أنها تركز دائما على الكيف دون أن تتوقف ولو مرة واحدة عند السؤال المخيف، الذي يحاكم الأهداف والوسائل معا: «لماذا؟»
لذلك نقول: إن القيم الإسلامية بما تحمل من خصائص وصفات متمـيزة، مـؤهلـة للانتـشـار، ومـؤهلـة للإنقـاذ، ومـؤهـلـة لأداء الـدور الغائب.
[ ص: 50 ]
لقد اتجه الإسلام صوب العالمية منذ الخطوات الأولى، وقدم رسالته إلى الإنسان أينما كان، بكل مكوناته المادية والروحية، وحاجاته الدنيوية والأخروية، وما الخطاب إلى الناس في الكتاب والسنة،ورسائل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء، إلا دليل ذلك، وبذلك تخلص الإنسـان من الثـنائية والتمزق،
قـال الله تعالى:
( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) (سبأ:28)،
وقال:
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107).
ومن المعروف في التاريخ الحضاري الإنساني، أن رسالة الإسلام تأهلت وانطلقت إلى العالمية، بكل اقتدار ورحمة، لأن القيم والـمعايير التي تضبط مسيرتها، وتحكم وجهتها، وتحدد أهدافها، مستمدة من مصدر خارج عن وضع الإنسان، إذ لا يمكن أن يتصور -كما أسلفنا- أن يكون الإنسان نفسه، بأنشطته المتعددة، هـو محل التقويم، وهو وسيلته، وبذلك برئت القيم الإسلامية من التحيز، والمحاباة، والتمييز، ووضعت الناس على قدم المساواة والعدالة، بعيدا عن الهيمنة والتسلط، وبذلك لم تكن القيم الإسلامية حكرا على قوم، أو جنس، أو لون، أو طبقة، وإنما جاءت إنسانية تفسح المجال أمام الجميع، لبناء المشترك الإنساني.
[ ص: 51 ]
لقد أبصر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام مستقبل حركة العالم، وملامح تشكل هـذا المستقبل، ووجهته، والتداعيات البعيدة لحركة الحياة، ليأخذ المسلمون حـذرهم ويعدوا أنفسهم لعالم الغد.. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة ) (أخرجه الإمام أحمد).
إنه انضغاط الزمان، واختزال المكان، وتقارب المسافات، وانفتاح العالم على بعضه، بسبب التقنيات الحديثة.
وهذا الحديث، على الرغم من أنه إخبار صادق، ودليل نبوة تحقق، إلا أنه من وجه آخر تكليف للمسلم بالإعداد والاستعداد لكيفية التعامل مع هـذا العالم الجديد المتجدد.
( ويقـول عليه الصلاة والسلام: إن الله زوى لي الأرض، ورأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ) (أخرجه مسلم ).
وهذه الرؤية المستقبلية المبكرة المتأتية من معرفة الوحي، أبصرت مستقبل العالم من الجزيرة العربية، ولفتت النظر إلى موقع الإسلام في
[ ص: 52 ] العالم الجديد، والسبل التي سوف تصل بالدين إلى كل أنحاء العالم، وإظهاره ليعم الأرض جميعا، حيث يبلغ ما بلغ الليل والنهار.. إن هـذه الرؤية النبوية تفتح بصيرة المؤمن على الآفاق، التي يمكن ارتيادها، وتكلفه بالتعرف على الوسائل والكيفيات، لتحقيق هـذه العالمية، أو العولمة الإسلامية، إن صح التعبير.
ولعل في رأس الأمور التي تؤهل القيم الإسلامية، أو رسالة الإسلام للعالمية، إقرارها حرية التدين ومبدأ الاختلاف، حيث إن حرية التدين تعتبر من أرقى خصائص الإنسانية وكرامتها،
قـال تعالى:
( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256)،
وقال:
( لست عليهم بمصيطر ) (الغاشية:22)،
ومصداق ذلـك عمـلـيـا أن قبل الإسلام في مجتمعه (الآخر)، المغاير عقيدة ودينا، واعترف به، واعتبره محلا للدعوة والحوار، وأفرد القرآن الكريم مساحات كبيرة جدا لهذا (الآخر)، ليمكن المسلم من فهمه وكيـفية التعامل مـعـه، إضافة إلى اعتبار اتباع الأنبياء أمة واحدة تاريخيا،
قال تعالى:
( إن هـذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) (الأنبياء:92).
واعتبر الإسلام سنن المدافعة الحضارية، سبيلا لحماية حرية التدين، وحماية أماكن العبادة الـمختلفة، قال سبحانه وتعالى :
[ ص: 53 ] ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد ) (الحج:40).
ومما يؤهل القيم الإسلامية للعالمية تجربتها التاريخية، والإسهامات البشرية، من المواقع المتعددة، في بناء الحضارة، حتى أصبح يصعب تلوينها بغير الإسلام، الذي هـو مناخ للجميع، ولامتلاك المسلمين اليوم الإمكان الـحضاري للعالـمية، سواء على الـمستوى الـمادي (البترول كسلعة عالمية، أو الأسواق الكبيرة، والممرات والموانىء الجغرافية)، أو الرصيد الكبير من السواعد والأدمغة، الذين يعيشون في جوف حضارة، وثقافة، ومجتمعات العولـمة، الـمتوفرين على شتى التخصصات في شعب الـمعرفة جميعا، حتى أصبحوا جزءا من قاطرة العولمة.
يضاف إلى ذلك تأسيس وتأصيل قيم الشورى، واعتبارها أساسا للنظام السياسي، وإقامة مجتمع العدل والمساواة، وتحريض الناس على الإبداع والإتقان، واعتبار ذلك من الدين، وجعل العلم الذي هـو طريق النهوض فريضة على الناس جميعا، وإلغاء الكهانة الدينية والاستغلال باسم الدين، وطرح أمام كل عمل السؤال الكبير: «لماذا؟» وبعد الإجابة عليه ننتقل إلى السؤال: «كيف؟» والإقرار
[ ص: 54 ] بالتنوع الثقافي واعتباره سبيلا للحوار، والتعاون، والتكامل، والإثراء، واعتماده كسنة اجتماعية.
ولعل أهم الإضافات للعالمية، ذلك الرصيد الأهم من امتلاك النص الإلهي الخالد، القادر على الإنتاج، في كل زمان ومكان.
وبعد:
فالكتاب الذي نقدمه، نعتقد أنه جاء في وقته المناسب، لأنه يؤسس محاولة للنظر في ظاهرة العولمة، من جميع الزوايا، ويتتبع مساراتها، ويرصد تجلياتها على الأصعدة المتعددة، وينبه إلى تداعياتها، ويقوم بمسح ثقافي شبه كامل لمكتبة العولمة، والبحث في الجذور التاريخية، والآثار والنتائج المتوقعة.
وهذه المحاولة الجادة -في نظرنا- ما تزال تستدعي الكثير من التأمل والتفكر، في كيفية التعامل مع هـذه الظاهرة، من خلال القيم الإسلامية، بعيدا عن الارتماء في أوعية العولمة، التي أبدعها (الآخر)، وما تحمله من قيم استهلاكية، وأبعاد ثقافية، وسياسية، واجتماعية، وعادات، تحاول تنميط (الآخر)، على الرغم من ظاهرها الاقتصادي؛ أو الانكفاء على الذات؛ أو الرفض الذي بدأ يتجاوز حدود الإمكان، ذلك أن معظم الكتابات حول الموضوع؛ إما أنها بعمومها حماسية
[ ص: 55 ] إنشائية، اكتفت بالحماس عن النظرة الفاحصة التحليلية الدقيقة، التي تمكن من الرؤية وكيفية التعامل معها؛ وإما أنها كتابات ثأرية منحازة، منطلقة من خلفيات يسارية لا تبصر إلا الوجه المظلم.
أما الرؤية القادرة على الإحاطة بالموضوع، والتصور الكامل للظاهرة، وأسبابها، ونتائجها، ومن ثم تحديد الجوانب الإيجابية والسلبية لها، ووضع دليل لكيفية التعامل معها، وتوظيفها والإفادة منها، فما تزال ضنينة في هـذا الموضوع.
ولعل هـذا الكتاب يساهم بفتح الملف بجدية، ويضع خطوة على الطريق الطويل، ولبنة في البناء المأمول، وتحقيق الحد الأدنى المطلوب لثقافة العولمة، ويفتح الباب على مصراعيه للكثير من التأمل والنظر والمتابعة.
والله الموفق
[ ص: 56 ]