إرهاصات العولمة
تتكاثر الخطابات العربية المعاصرة من حول العولمة، شرحا وفهما وتأويلا، وغزلا بفتوحاتها، ورجما بنتائجها، وتحذيرا منها باعتبارها حصان طروادة الأخيرة، الذي سيفتح جميع القلاع بدون استثناء، على حد تعبير « بنجامين باربر »، أو سيقوم هـذا الثعبان، والتشبيه لباربر ، بابتلاع جميع الأرانب.
فلا عجب أن تتكاثر الخطابات العربية والإسلامية من حول العولمة، فثمة عالم جديد يتشكل بسرعة مع ظاهرة العولمة، فنحن بإزاء فتح كوني، على حد تعبير المفكر اللبناني « علي حرب »، فتح يتغير معه سير العالم على ما كان يجري عليه حتى الآن، بحيث تغدو العولمة واقعة العصر الأولى وانقلابه الكوني الخطير.
وقد شهد عقد التسعينيات من قرننا العشرين المنصرم فيضا من الدراسات التي طالت العولمة، ومن شأن أية بيبليوغرافيا أن تبين لنا هـذا الفيض الذي ترجمته الدوريات والمجلات والصحف والكتب والندوات، بحثا وتحليلا للظاهرة.. وليس هـذا فحسب، بل جدالا وسجالا. وما أكثر السجالات في هـذا الخضم الذي تاه فيه الخطاب
[ ص: 61 ] العربي الإسلامي المعاصر، وانقسم أهله بين من هـو مع العولمة وبين من هـو ضدها، وبين من يجهلها، وبين من يراها فتحا كونيا وإمكانا حضاريا، وبين من يراها ثعبانا وغزوا ثقافيا ونمطا استهلاكيا، يهدد الخصوصيات الثقافية في العالم العربي والإسلامي والعالم النامي، ويمهد إلى الحرب.
فقد تعامل أصحاب المشاريع الثقافية -وكما أدرك ذلك أحد الباحثين وأشار إليه
>[1] - مع العولمة على أساس أنها ظاهرة سلبية تستحق الـمقاومة، وأشير هـنا إلى أطروحة محمد عابد الجابري وعبد الإله بلقيز في كتاب ندوة «العرب والعولمة»، وكذلك أطروحة الدكتور حسن حنفي ، من دعاة التحديث والمعاصرة والساعين إلى تكوين قطب ثنائي جديد، حيث يدعو الدكتور حسن حنفي إلى تغيير المعالم، كما يطرح أنور عبد الملك رؤياه إزاء هـذه الظاهرة، أقول: تعاملوا مع العولمة على السلب والنفي، بوصفها -وكما يقول على حرب- استباحة للقيم وغزو للثقافات وفخا للهويات، وتسلطا على الشعوب والمجتمعات.
[ ص: 62 ]
ولذلك نجد الباحث « تركي على الربيعو»
>[2] يؤكد على «أن الخطاب العربي الداعي إلى مواجهة العولمة، مستعيرا بذلك لغة كفاحية وأيديولوجية، لا ينجح إلا في تكرار نفسه، وفي الهروب إلى الإمام، وفي بقائنا أسرى المفردات البلاغية الجميلة التي تقول نفس الشيء عن كل شيء».
ومن هـنا، فغالبا ما يطلق مفهوم العولمة في الأدبيات السياسية والثقافية العربية المعاصرة بصورة لا تساهم في ضبط وتحديد مجال العولمة وأبعادها الأساسية. فالعولمة مفهوم، يراد منه في أغلب الكتابات العربية والإسلامية الراهنة، أن يكون مرادفا لمعنى العالمية، وفي هـذه الحالة تختلط المفاهيم، لتتحول من أدوات للتواصل المعرفي ، إلى أدوات للتشويش الفكري، الذي لا يسعف في تحديد الظاهرة واستيعابها.
لذلك لا بد من الإلماح في البدء إلى أننا سنحاول في هـذه الدراسة التفكير في العولمة ليس بصفتها ظاهرة منعزلة، بل كمعطى متحرك، نحاكيه ويحاكينا بصورة يومية، من خلال شبكة معقدة من تقنيات الاتصال والتواصل الكوني المتداخل، في
[ ص: 63 ] محاولة للخروج بمجتمعاتنا من أزمتها الراهنة. ومنهجنا في تحقيق ذلك سيكون الرصد والوصف والتحريض العلمي، مستعينين بالمنهج النقدي في كشف أبعاد هـذا المفهوم الذي يمثل في هـذا العصر الحديث ظاهرة.
لقد ارتبط مفهوم العولمة بالتحولات التي تكاد تكون خارقة للعادة التي تعيشها المجتمعات المعاصرة، بما يشبه الثورات الكبرى التي قادت العالم الحديث نحو المجتمع الصناعي، على أنها ثورات وتحولات تحدث على مستوى العالم في لحظات متقاربة، وتعمم من خلالها مفاهيم وتوجهات وأذواق على ذات النطاق.. فالأموال والدماء الغزيرة تسيل سلفا في سبيل تعميمها على مناطق جغرافية محدودة المساحة والتأثير.
وعكس المفهوم نظاما في المجتمع شمل الاقتصاد والثقافة والسياسة مغايرا تماما للنظام القديم، إذ إن مفهوم التقادم تبدل، فالتغيير هـنا بات شبه يومي، بل لقد رافق نظرية العولمة طغيان المفهوم الاقتصادي، بحيث أصبحت تعبر عن نشاط رأس المال ومقدار تداخله في العالم، وتحول العالم إلى سوق استهلاكية كبرى لمنتجات الشركات الصناعية الأكبر حجما.
ذلك في الوقت الذي بدا البعد الثقافي مهملا من جهة التأثير
[ ص: 64 ] المتبادل.. أما من جهة التأثير والتلقي، فالأمر يسير وكأنه قضاء مبرم «انتصار الشمال المتفوق على الجنوب المتخلف»، أو بتعبير آخر: «أمركة العالم وفرض الذوق الغربي»
>[3] . فمع ظهور الشركات المتعددة الجنسيات، وفرض هـيمنتها المتزايدة على المقدرات والفعاليات الإنتاجية والمالية عبر العالم، مثلت أنماط السلوك والممارسات التجارية للعاملين في هـذه الشركات العالمية مصدرا هـاما لثقافة تمتد عبر القوميات، وكان واضحا أن مجمل هـذه المتغيرات والتيارات الاقتصادية الكبرى، قد رافقتها تشكيلات ثقافية على مستوى العالم ككل، يشار إليها اليوم باسم «الثقافة العالمية»
>[4]
والثقافة العالمية ليست شيئا سوى الثقافة الغربية، أو هـكذا يراد لها أن تكون ثقافة تعمم، وذوقا واحدا يفرض على جميع البشر، تلغى فيها الاختلافات والتمايزات الحضارية.. فباسم التعددية العالمية وباسم الثقافة الإنسانية يتم التعدي على الثقافات غير الغربية، وتجاوز الخصوصيات الاجتماعية. فهي إذن رديف البرجوازية الأوربية.
[ ص: 65 ]
ومن هـنا، فإن بدت العولمة آثارها تظهر في الأفق، إلا أن موضوعها لا يزال صعب التحديد، ويصعب وضعه في إطار منهجي محدد، فالعولمة عملية تاريخية تحاول أطراف مختلفة أن تدفع بها إلى طرق مختلفة، وإن كانت ترمي في النهاية إلى هـدف واحد.
وهي في مفهومها،كما تدل الصياغة اللغوية، ذات طابع يشير إلى عملية مستمرة من التحول والتغير، فعندما نقول: عولمة النظام الاقتصادي، أو عولمة النظم السياسية، أو عولمة الثقافة، فإن ذلك يعني تحول كل منها من الإطار القومي ليندمج ويتكامل مع النظم الأخرى في إطار عالمي.
والعولمة كمفهوم متطور، لا سبيل إلى التحقق من الوقت الذي ستصل فيه إلى منتهاها، لتصبح نمطا « استاتيكيا » مستقرا، ولذلك ينظر إلى العولمة في مفهومها العام على أنها اتجاه متنام يصبح معه العالم دائرة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية واحدة، تتلاشى في داخلها الحدود بين الدول
>[5] وفي ذلك يرى
[ ص: 66 ] د. إسماعيل صبري عبد الله أن «العولمة هـي التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والسلوك، دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة، أو انتماء إلى وطن محدد أو إلى دولة معينة»
>[6] وهي درجة من درجات تطور النظام الرأسمالي العالمي
>[7] .
ويركز د. مصطفى محمود في مفهمومه للعولمة على «أنها مصطلح بدأ لينتهي بتفـريغ المواطن من وطنيـتـه وقومـيتـه وانتـمـائه الديني والاجتماعي والسياسي، بحـيث لا يبـقى مـنـه إلا خـادم للقوى الكبرى»
>[8]
ومن هـنا، فالعولمة مصطلح شاع بسرعة تفوق شروط تشكل المعنى وتأسيس المرجعية التي يحيل إليها في الواقع، فهو لفظ مشحون بعديد المعاني، لأنه ما زال يبحث عن مدلول مادي واضح، فهو يعني الآن كل شيء، ولا يعني شيئا بعينه.
والعولمة في معناها المحسوس ما زالت في مراحل تشكلها
[ ص: 67 ] الأولى، وما زالت تبحث عن معايير ومقومات تحول شروط الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي تقوم عليها إلى قيم إنسانية شاملة ترسخها كأيديولوجية جديدة.
ويرى كثير من الباحثين أن العولـمة ليست مفهوما جديدا، فهي كفكرة عمرها أكثر من خمسة قـرون مع الكـشوف الـجغرافية، غير أن ثورة الاتصالات والـمعلومات أشاعتها، لكن ضمن النمط الغربي للحياة، في مقابل محو الهويات الأخرى، صاحبة الـميراث والتاريخ.
وسوف نرى أن العولمة كمفهوم في أحد تعريفاته يهدف إلى إقامة نظام (ثقافي - اجتماعي - اقتصادي- سياسي...إلخ) تتوحد فيه جميع الهويات الأخرى، أي إقامة سياسة كونية بديلة تقوم على نظام واحد. فالعولمة هـدفها تكريس الهيمنة الأمريكية ومحو الهويات القومية.
ومن هـنا يؤكد الباحث «حاتم عثمان»
>[9] على أن العولمة نمط سياسي اقتصادي ثقافي لنموذج غربي متطور خرج بتجربته عن
[ ص: 68 ] حدوده لعولـمة الآخر، بهدف تحقيق أهداف وغايات فرضها التطور المعاصر. ولذلك يرى أحد الباحثين أنها ظاهرة قادمة من الغرب، من مجتمعات متقدمة حضاريا متجهة إلى مجتمعات نامية ومتخلفة، والتعامل معها بنجاح يتطلب بناء الذات، والارتقاء بها في المجالات المختلفة، حتى يكون التعامل مع تلك الظاهرة إيجابيا.
وتتمثل العولمة في مجموعة التوجيهات ذات البعد المستقبلي، وتدور حول قضايا مثل الديمقراطية والليبرالية الغربية واقتصاد السوق...إلخ، ويرى منظروها ومؤيدوها بأنها إيجابية في العموم، بيد أن آخرين يرون فيها مخاطر أساسية عديدة، حيث تثير المسألة عددا من الأسئلة الصعبة التي تنتظر الإجابة مثل:
هل ستؤدي العولمة إلى تحطيم الحدود بين الأقطار، وإذابة الهوية القومية؟ وهل سيسود الغرب المتقدم بنمطه الاقتصادي الرأسمالي، ويعولم الاقتصاد والثقافة والوضع السياسي في العالم لحسابه، لعدم قدرة الدول النامية على مواكبة تطور العالم الأول، والتعامل معه نديا على كل المستويات؟
وهل في إمكان العرب والمسلمين -كجزء من العالم النامي-
[ ص: 69 ] تطوير أوضاعهم في المستقبل المنظور للتعايش السلمي والإيجابي مع ظاهرة العولمة؟
هل العولمة جرعة من المصطلحات والمفاهيم التي تظهر في قاموس السياسة والاقتصاد والثقافة بين الحين والآخر؟ أم هـي واقع حتمي معاش وقادم؟!
وإذا كانت العولـمة ظاهرة ثقافيـة واقتصادية وسـياسية واقعة في دنيـا النـاس، فهل هـناك من مـوقف للمسلمين سوى رفضـها أو قبولها؟ أليس هـناك طريق ثالث ورابع للاستفادة من إيجابياتها وتجنب سلبياتها، وإعداد النفس للتعايش معها والتأقلم مع آلياتها من خلال القيم الإسلامية وبما يتناسب مع الواقع العالمي المتسارع في تطوره وتغيره، بما يتيح من اتجاه نقدي يرى في انعكاسات هـذه الظاهرة المعاصرة درجات تبلغ انعكاسات ألوان الطيف؟
[ ص: 70 ]