تقديم بقلم:
عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي جعل التنوع في الأجناس والألوان واللغات سبيلا للتعارف والتعاون والتكامل، وليس سبيلا للتنازع والتناحر والتمايز والاقتتال والاستكبار في الأرض؛
فقال تعالى:
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) (الحجرات:13) ،
وقال تعالى:
( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ) (الروم:22) ،
واعتبر الاختلاف والتنوع ثمرة لحرية الإنسان، التي تعتبر أساس حقوقه جميعا، وحريته ثمرة لكرامته، ومسئوليته ثمرة لحريته؛
فقال تعالى:
( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس:99) ،
وقال:
( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) (هود:118-119) ،
وبذلك جعل حق الاختلاف من لوازم الخلق، ومن سنن المدافعة
[ ص: 5 ] المؤذنة بالنمو والامتداد والتنافس في الكسب والترقي.
لذلك كان من العبث والغباء والتعصب التنكر لهذا الاختلاف الواقع في الحياة، والتوهم بأن الناس يمكن أن يكونوا نسخا مكررة؛ لأن ذلك مغاير لإرادة الخالق لواقع الخلق، وللفروق الفردية واللغوية واللونية والجغرافية والمناخية... إلخ.
ذلك أن مثل هـذا التوهم مدعاة للتعصب والتناكر والتنافر والاقتتال والتفاخر والتمايز، بدل أن يعتبر سبيلا للتكامل والتحاور والتشاور والتعاون والإثراء الفكري والتبادل المعرفي.
والصلاة والسلام على النبي الخاتم، الذي أكد في حجة الوداع على أهم المعاني والحقوق الإنسانية وفي مقدمتها المساواة، وأوصى بها أمته قبل الانتقال إلى المـلأ الأعـلى، وأعلن في فتح مكة بعد أن دانت الجزيرة العربية للإسلام المساواة فـي الحقـوق الإنسانية -كانت قد تحركت أهواء الثأر، واستحكمت نشوة الظفر والغلبة في بعض النفوس،
( وسمع صلى الله عليه وسلم من بعض صحابته من يقول: اليوم يوم الملحمة. فأجاب: اليوم يوم المرحمة ) -
( وقال صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبـية الجاهلية -أي: تكبرها ونخوتها- وفخرها بالآباء، إنما هـو مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب ) . (أخرجه
الترمذي ) .
[ ص: 6 ] لقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع على الركائز الأساسية لحقوق الإنسان
( فقال: إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هـذا في شهركم هـذا، في بلدكم هـذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية مـوضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث -كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هـذيل - وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا؛ ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله... وقد تركت فـيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله... وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، الله اشهد. ثلاث مرات ) . (أخرجه
الترمذي ) .
وكانت حياته أنموذجا مجسدا لعدم التميز عن الناس؛ في لباسه، وطعـامه، ومجلسه، وعبادته، وتعامله، حيث كان الأعرابي إذا دخل لا يستطيع تمييزه من بين أصحابه فيقول: أيكم محمد؟ ليتوجه إليه.
وبعد: فهذا كتاب الأمة الثامن والثمانون: «حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون»: للأستاذ الدكتور منير حميد البياتي ، في سلسلة «كتاب الأمة»، الذي يصدر عن مركز البحوث والدراسات في
[ ص: 7 ] وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة قطر؛ مساهمة في كشف مواطن الخلل التي لحقت بالمسلم المعاصر، وأدت بالأمة إلى هـذا الحال من التراجع والتخلف والفراغ والغياب الحضاري، الذي يؤذن بامتداد (الآخر) ؛ ليغطي جميع مساحات الحياة، بثقافته وحضارته ومنتجاته وفلسفته للكون والإنسان والحياة، ومحاولة في استرداد العافية، وبعث الفاعلية، وشحذ العقل لمعاودة الانطلاق من معرفة الوحي، التي كادت تتحول على يد كثير منا إلى نصوص جامدة نتفاخر بصحتها وثبوتها وصوابها والطرائق أو المناهج التي نقلت بها، وقد تتحول في مناخ التخلف إلى تمائم وحجب للتبرك ودفع الحسد، وإلى لوحات معلقة في البيوت والمساجد والمتاحف والمعارض، دون التفكير بكيفية التعامل معها وإعمالها في واقع الحياة، وتنـزيلها على حياة الناس بحسب استطاعاتهم؛ سعيا للارتقاء بهذا الواقع، وتقويمه بقيم الدين.
إن التفاخر بتلك المعرفة، وما جاءت به القيم الخالدة، والحديث عن عظمتها وتميزها وقـدرتها على الإنجاز دون تجسيدها في الواقع أو إعمالها في الحياة سوف يؤدي إلى لون من الارتياب غير المعلن بها، وبدل أن تكون سبيلا ودافعا للنهوض والارتقاء تصبح مشكلة وعائقا، وخاصة عند أصحاب النظرات المبتسرة، العاجزين عن
[ ص: 8 ] التمييز بين القيم ودورها وعطائها التاريخي وقدرتها، وبين عجز وتخاذل المتعاملين معها. إذ كيف يمكن لنا أن نوفق بين ما تمتاز به هـذه القيم من العظمة والتميز والخلود والحيوية والقدرة على الاستجابة لتطور الحياة وحركة الإنسان، وبين الواقع المتردي للمؤمنين بها، المدافعين عنها؟
فإذا كان الشك لا يتطرق إلى هـذه القيم بطبيعة مصدرها ودقة مناهج نقلها وإنجازها التاريخي فإن الإشكالية كل الإشكالية إذن في الناس الذين يتعاملون معها، والذين يوبخون أنفسهم بالكلام عن عظمتها وقدرتها على الإنقاذ وهم على ما هـم عليه من التردي والتخلف والسقوط الحضاري والتمزق الذاتي، والغياب شبه الكامل لحقوق وكرامة الإنسان.
وما لم نقم بدراسات موضوعية ومتنوعة لحال الأمة، ونكتشف الأسباب الحقيقية لتخلفها، وندرك السنن والقوانين الناظمة للحياة والأحياء، ونمتلك القدرة للتعامل معها، ومعاودة إخراج الأمة المسلمة، واسترداد حقوق الإنسان كما شرعها الله، فسوف يضل سعينا، ونبقى نرواح في أماكننا، ويخشى أن نضيع أجورنا وأعمارنا دون جدوى حقيقية، ولا تشفع لنا النوايا الطيبة والأماني الصادقة والأحلام الوردية، وإن شئت فقل: أحلام اليقظة التي نعيشها.
[ ص: 9 ] وفي تقديرنا أن تحديد مواطن الخلل، واكتشاف الأسباب المنشئة له، والقوانين والسنن التي تحكمه لا يمكن أن يتم بالخطب والشكوى ورفع الأصوات ومجرد الإحساس بالأزمة، وقد قضينا من عمرنا ردحا نخطب ونخطب لكن كحاطب ليل. لذلك نرى أنه لا بد مع الإحساس الذي يثير مشاعرنا ويسترد فاعليتنا من الإدراك الكامل للمشكلة التي تحرك عقولنا والإحاطة بأسبابها، ومعرفة علمها، وهذا لا يتأتى بطبيعة الحال ما لم نعاود النفرة من جديد لنتفقه في الدين، بكل شموله وأبعاده ومعطياته، ونسترد الكثير من الفروض الكفائية الغائبة، ونتوفر على جميع الاختصاصات بشعب المعرفة، وبذلك نصل إلى مرحلة النضج المعرفي والعلمي والسياسي
قال تعالى:
( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122) .
ذلك أن تقسيم العمل والتخصص في شعب المعرفة يؤدي إلى الإتقان والإبداع وزيادة الإنتاج وتراجع نسبة الخطأ؛
( ولا ينبئك مثل خبير ) (فاطر:14) ، كما يؤدي إلى التكامل وإعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية من جديد.
إننا إذا أحسنا بناء التخصصات العلمية في شعب المعرفة جميعا،
[ ص: 10 ] واعتبرنا ذلك نفرة جهادية ودينا من الدين، حيث إن فرض الكفاية (الاختصاص العلمي) يتحول ليصبح فرض عين بالنسبة للذي اتجه إليه وتخصص فيه، فإننا بذلك نبني عقل النخبة المؤطر بمرجعية الوحي وأهدافه. وهذا البناء المتخصص هـو الكفيل باكتشاف مواطن الخلل، ووضع الخطط لانتشال الأمة، وتحقيق إنجازها، ومعاودة إخراجها من جديد؛
استجابة لقوله تعالى:
( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ) (التوبة:122) ،
وقوله تعالى:
( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (النساء:83) .
وفي تقديرنا أن مشكلة الأمة لا تحل ما لم نتحول من الإذاعة والخطب والتلقي بالألسنة والحماس لقضايانا إلى ردها للمتخصصين من أولي العلم؛ لاستنباط الحلول، واقتحام العقبة، وفك رقابنا من ربقة التخلف، مهما كانت المرحلة شاقة، والتكاليف باهظة والرحلة مضنية.
أما التحول من الاجتهاد والهم والعمل والتخصص الموصل إلى الإنجاز العلمي إلى الحديث عن الإعجاز العلمي للنص -الذي قد يصب في خانة إثبات النص- وبالذات عندما يكون الإنجاز الذي نتحدث عنه قد أبدعه (الآخر) ، فإن ذلك قد يكون من مظاهر
[ ص: 11 ] التخلف الذي نرضي به عواطفـنا، ولا ندري أننا ندين أنفسنا، ولا نتقدم بهذا التباهي خطوة واحدة.
إن عظمة النص وإعجازه إنما هـي في إنجازه، وقدرة أهله والمؤمنين به على اغتنامه، وتوظيفه في معالجة مشكلاتهم، وتقديم الحلول الشرعية لها.
ونعتقد أن النفرة للتفقه في الدين، وتحصيل التخصص في الشعب المعرفية المتنوعة تقتضي فعلا وصبرا ومجالدة ونكران ذات وتواضعا وإخلاصا وصوابا وتفانيا في خدمة الأمة، لذلك قد لا نستغرب في حقب التخلف عندما نرى الكثير يتحول عنها، يتحول من الفعل المقدور إلى الانفعال والصعود إلى المنابر، التي قد لا يمتلك من أدواتها شيئا؛ لأنها قد تحمل له الارتفاع والظهور والثناء والتعظيم والتبجيل، وبذلك تبقى الثغور المعرفية والتخصصات العلمية مفتوحة في جسم الأمة، يتقدم لملئها (الآخر) بثقافته وحضارته وإنجازه، وتتحول وظيفتنا للبكاء على الأطلال والماضي، الذي لا نستطيع استرداده؛ لأن ذلك مستحيل، ولا الإفادة منه والاتعاظ بعبره وإضافة رصيده إلى حياتنا.
وقد تكون المشكلة أن المناخات السياسية والثقافية والاجتماعية وانكماش حقوق الإنسان في بلاد المسلمين تساهم سلبيا باستمرار
[ ص: 12 ] التردي والتخبط وطرد أهل الخبرة والعلم والإبداع، وتقديم أهل الثقة والولاء، ظنا منها أن الثقة والولاء إنما يكون بالجهل والغباء، وهكذا يتكرس التخلف نتيجة للإصرار على بقاء هـذه المناخات، ويقتل الإبداع، ويحارب تكافؤ الفرص الذي هـو من أخص خصائص حقوق الإنسان، وتلغى الحريات، وتدمر شخصية الإنسان، وتسلب إنسانيته باسم المصلحة العليا للوطن، أو الضرورة القصوى للأمن ومواجهة العدو المتربص بنا، وتعطل عمليات النقد والمراجعة والتشاور، ويحجر على عقل الإنسان أساس تكريمه وحقوقه؛ بحجة أن ذلك يخلخل الصفوف، ويبصر العدو بنقاط الضعف، وما إلى ذلك من الفلسفات السائدة المحزنة التي أقل ما يقال فيها: إنها تعطيل للإنسان، وتدمير لحقوقه، وتكريس للتخلف.
ولا ندري كيف يتقدم مجتمع بأفراد مشوهي الشخصية، ومعوقي الإنسانية، ومهدوري الكرامة؟ وإلا ما معنى أن يتفوق الإنسان العربي المسلم هـناك في بلاد غير بلاده وتاريخ غير تاريخه، وحضارة غير حضارته، ويعجز هـنا في بلاده؟ ينمو هـناك ويتخاذل هـنا؟ يكون إنسانا صالحا منتجا في مجتمع قد لا يمت إلى حضارته بصلة، وإنسانا فاسدا مفسدا يجب مطاردته في مجتمعه وحضارته؟
[ ص: 13 ] إن الرصيد الكبير من العلماء والطلبة والباحثين، الذين هـجروا أوطانهم؛ لانعدام الحرية وحقوق الإنسان، وتحولوا إلى دماء في شرايين المجتمعات الأخرى وإمكانات علمية في مصانعها ومعاهدها وجامعاتها ومستشفياتها شاهد إدانة، وهو كفيل لو أتيحت له الأقدار الدنيا من الحرية وحقوق الإنسان أن يتحمل نهضة العالم العربي والإسلامي، لكن للأسف أصبح المسلم والعربي يجد نفسه هـناك، ويفتقد ذاته في عالمه.
ومع الأسف الشديد نرى الكثير من العاملين في الحقل الإسلامي قد وقعوا بالفخاخ نفسها، ولحق بهم ذلك الوباء الاجتماعي الخطير، وقد لا تخرج الكثير من ممارساتهم عن ما هـو شائع وسائد. فكيف يستطيعون إنقاذ الأمة وعلاج الناس وهم يعانون من أمراضها؛ من الزعامات المزمنة والعاجزة، والضيق بالرأي الآخر، وتحريم النقد والمراجعة، وتقديم أهل الثقة والتحزب وإبعاد أهل الرأي والخبرة والمناصحة، وتسويغ التراجع والتقهقر بأسباب خارجة عن الذات؟ فكيف وحالتنا هـذه يمكن لنا أن نثير الاقتداء؟
لقد تحول بعض مؤسسات العمل الإسلامي إلى إقطاعات بشرية مغلقة، تحمي نفسها بأسوار من الحزبية والتعصب، واتهام (الآخر) وغمط فضائله، وقد تكون المصيبة الأكبر أنها أصبحت ترى
[ ص: 14 ] نفسها -بما تدعيه من إيمان وفضل- فوق الآخرين، بدل أن يمنحها إيمانها وأخلاقها التواضع واللين والحرص على هـداية الآخرين، والدعوة لهم بالهداية والإيمان، وليس الدعوة عليهم، وكأنها تفرح بخطأ الآخرين وخروجهم، ونفاقهم وعدم صوابهم، وكأن سقوطهم مطلوب ليصبح دليلا على نجاحنا وتميزنا.
ونقول بكل صراحة وواقعية وموضعية: بأن الإسلام مجتمع مفتوح للناس جميعا، وليس حكرا على أحد، وليست التنظيمات والجمعيات والجماعات الإسلامية إلا وسائل لجمع الطاقات وتوفير الخبرات وتكاتف الجهود؛ لتحقيق كسب أكبر للقضية الإسلامية، لكن المشكلة كل المشكلة أن تنقلب الوسائل إلى أهداف، وتتحول بعض الجماعات إلى طوائف مغلقة، وأحزاب متعصبة، وأجسام منفصلة عن جسم الأمة وأهدافها.
لذلك لا بد لهذه الجماعات والجمعيات والمؤسسات أن تتمثل الإسلام، وتتدرب على المعاني الإسلامية، وتمارس وتحترم عمليا حقوق الإنسان، وتخضع عملها للمراجعة والمناصحة والتقويم والتشاور، حتى تثير الاقتداء، وتغري الناس باعتناق قيم هـذا الدين، وممارستها عمليا.
[ ص: 15 ] إن احترام الحقوق الإنسانية مظهر من أرقى مظاهر التدين الصحيح، ودليل على الترقي والنضج الإنساني، ومؤشر على سلامة الشخصية من الإصابات، وتمثل لقيم النبوة؛ ذلك أن الذي يفكر بانتهاك الحقوق يكون هـو المصاب الأول بذلك، أو الضحية الأولى لذلك.
فالإنسان المؤمن السوي المتزن، الذي يقدر قيمة الحرية، وتكافؤ الفرص، والتفاضل بالكسب والتنافس في ميادين الخير هـو المؤهل عن طريق الاستبطان النفسي؛ لاستشعار حقوق الآخرين، والإحساس بأن أي انتهاك لتلك الحقوق هـو ثلمة في شخصيته أولا وقبل كل شيء.
بل نستطيع القول: إن احترام حقوق الإنسان هـي معيار الترقي والتدين السليم، وإن انتهاك حقوق الإنسان وممارسة العسف والإكراه نوع من السقوط، ولون من الجاهلية.
ولعل فيما يروى من قصة
سيدنا أبي ذر الغفاري رضي الله عنه في هـذا الشأن ما لا يدع استزادة لمستزيد،
( حيث يروى أن أبا ذر رضي الله عنه ساب رجلا وعيره بأمه، فقال له: مه، يا ابن السوداء. فما كان من الرجل إلا أن شكا أمره للرسول صلى الله عليه وسلم ... عن واصل الأحدب عن المعرور قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر ، أعيرته بأمه، إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ) . (أخرجه البخاري) .
[ ص: 16 ] ومنذ تلك اللحظة لم يعرف أبو ذر من غلامه.
وفي قصة
جبلة بن الأيهم أيضا مع الأعرابي دلالة على المساواة التي أشاعها الإسلام في مجتمعه بين الناس جميعا: فـ «بينما كان جبلة بن الأيهم، أحد ملوك الغساسنة، يطوف بالكعبة، بعد أن أسلم، وإذا أحد الطائفين يدوس على إزاره، فالتفت إليه مغضبا، ثم لطمه على خده، فقال له هـذا الطائف: لأشكونك إلى
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب . وبين يدي
عمر بث الرجل شكواه. فاستدعى عمر
جبلة وسأله: أحقا ما يقول الرجل أنك لطمته على خده؟ قال جبلة: نعم، ولولا أننا أمام بيت الله لقطعت أنفه بسيفي هـذا. فقال له عمر: ولم؟ فأجابه جبلة: لأنه داس على إزاري وأنا أطوف بالبيت. عندها قال عمر: اختر لنفسك واحدا من أمرين: إما أن تعتذر له وتترضاه، وإما أمرته أن يلطمك.
[ ص: 17 ] فدهش
جبلة الملك الغساني من حكم عمر، وقال له: كيف تسوي بيني وبينه؟ إنما أنا ملك وهو سوقة؟ قال له
عمر : إن الإسلام سوى بينكم، فلا فرق بين الملك والسوقة. فقال له جبلة: أجلني حتى اختار. فأجله عمر ثلاثة أيام. فلما كان الليل هـرب مع حاشيته إلى بلاد الروم» (انظر: قبسات من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم : لأحمد عساف) .
وهنا نلاحظ كيف هـرب جبلة من مجتمع المساواة وحقوق الإنسان التي كانت سائدة في عصر عمر الخليفة الراشد صلى الله عليه وسلم ، ليلتحق بالروم، المجتمع الطبقي. أما اليوم وبعد أن غابت أحكام الشريعة عن واقع الكثير من المجتمعات المسلمة حيث يشيع الظلم، فالناس يهربون إلى المجتمعات التي تراعي حقوق الإنسان.
وهنا تجدر الإشارة للفروق الكبيرة بين النبوة والفلسفة، فالنبوة عقيدة وعمل، إيمان واستقامة، ومن أكبر المقت عند الله أن يقول الإنسان ما لا يفعل:
( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) (الصف:2-3) . والفلسفة أحلام وأفكار وردية، ورؤى طوباوية، تسبح في عالم الخيال والمثال، بعيدا عن الواقع والتجسيد في حياة الناس،
[ ص: 18 ] لذلك استطاعت النبوة التغيير وإمكانية إحـداث الحراك الاجتماعي، بينما عجز كثير من الفلاسفة حتى عن تغيير أنفسهم، بل كان بعضهم مثالا للتندر والممارسات الشاذة التي لا يقبلها عاقل، بله فيلسوف.
وبالإمكان القول: بأن الإسلام بعد هـذا التاريخ الثقافي والحضاري والإنساني وما توفر لنصوصه في الكتاب والسنة من المنهج النقلي، الذي يعتبر مفخرة من المفاخر العلمية الإنسانية، وليس الإسلامية فقط، لم يعد بحاجة إلى التوقف طويلا والحديث عن عظمته وتميزه وتحريره للإنسان وحماية حقوقه، ذلك أن الأمة المسلمة هـي الأمة الوحيدة تاريخا وحاضرا ومستقبلا، التي ما تزال تمتلك النص الإلهي السليم الخالد، الذي إذا ما أحسنت التعامل معه أمكنها النهوض من جديد، وقد كان هـذا النص أساس النهوض تاريخيا بعد كثير من الكبوات والسقوط والهزائم، التي تكاد تكون ماحقة، حتى ظن بعض الغافلين أن الأمة قد تودع منها.
لذلك فاشتداد الأزمات لا يخيف، بل يمكن أن يشكل استفزازا وبصيرة وتحديا، يجمع الطاقة، ويلم الشتات، ويثير الفاعلية، ويحرض القوى الكامنة، وينبه القطاعات الغافلة في الأمة؛ لتقلع من جديد. وهكذا يتم التداول في الأيام، وما تكاد الأمة تبلغ الشيخوخة حتى تولد من جديد، وتتمكن من تجاوز الأزمات، وتستأنف المسير.
[ ص: 19 ] نعود إلى تأكيد القول بأن الإسلام بعد هـذا التاريخ ليس بحاجة إلى الشهادة على عظمته وتميزه عن سائر القوانين والشرائع؛ لأن ذلك أصبح أقرب ما يكون للبدهيات، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، والذي لم يستدل بها لن يستدل؛ لأن المشكلة ليست في الدليل قوة وضعفا وإنما بذات المستدل، ما لحقه من إصابات الجحود والنكران والتعصب. وقد نرى أن الاستمرار في هـذا الموقف الدفـاعي: رد الشبه والحديث عن عظمة الإسلام، أو التوسع فـي ما يمكن أن نسميه الفكر الدفاعي، يخشى معه أن نمكن العدو من استنـزاف طاقاتنا، والتحكم باهتماماتنا الفكرية وأنشطتنا الذهنية، واستلام زمام المبادرة والفعل، ووضعنا في ساحة الانفعال باستمرار.
إن اختلال النسب وصرف الجهود كلها صوب الموقف الدفاعي لإثبات عظمة الإسلام وتكريمه للإنسان وحمايته لحقوقه، واعتباره ذلك من الدين، والمباهاة بإنجازاته التاريخية، سوف يكون -وإلى حد بعيد- على حساب التفكير بالوسائل والكيفيات والآليات، التي تجسد هـذا الإسلام في حياتنا، وتنـزله على واقعنا.
ولعل وجهة المقارنة بين الإسلام والقوانين والشرائع الأخرى أو المقاربة معها هـو من بعض الوجوه استمرار في التدليل على عظمة
[ ص: 20 ] النص وثبوته، على أهمية ذلك وفائدته، ومع ذلك لا بد أن نعترف أننا شغلنا أكثر من اللازم بإثبات النص والكلام عن عظمته وخلوده، ودوره في استرداد إنسانية الإنسان، وقـد أصبح الأمر من البدهيات -كما أسلفنا- وجاء الكثير من ذلك على حساب التفكير بكيفية إعمال النص، حيث إننا قد نرى أن الاجتهاد في إثبات صحة النص إنما هـو للاطمئنان إليه، والارتياح لإعماله في حياتنا، فثبوت النص يمكن أن يعتبر من المقدمات، وإعماله هـو الهدف الأخير من الجهد في إثباته.
وبعد هـذه الرحلة الطويلة والجهود العلمية والثقافية في إثبات النص وحمايته، الذي انعكس على التدوين، ووضع أصول الفقه، ومصطلح الحديث، وقواعد اللغة وعلم القراءات، وعلم التجويد، وعلم البلاغة، إلى آخر ما يمكن اعتباره من علوم الوسائل، بعد هـذه الرحلة العلمية العظيمة لا بد أن نبدأ التفكير، أو تحويل قدر كبير من الجهود من إثبات النص، وقد ثبت وتلقته الأمة بالقبول، ولم يتمكن العدو من تسجيل إصابة واحدة طيلة هـذا التاريخ إلى التفكير بإعماله لإنتاج الإنسان الجديد المعاصر، الذي يتمتع بحقوقه كما شرعها الإسلام، ويكون قادرا على حمل الرسالة وإيصال الخير وإلحاق الرحمة بالعالمين، ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه.
[ ص: 21 ] ولا بد من الاعتراف أيضا بأن المقارنات والمقاربات بين النص والشرائع الوضعية والقانونية هـي في حقيقة الأمر لون من النشاط العلمي والثقافي، الذي يتمحور حول فضائل وخصائص وتميز النص، ويبقى محورها النص، وليس التفكير والاجتهاد بآليات إعماله، وكيفية استرداده لإنسانية الإنسان، وتأمين حقوقه.
ويمكن أن نقول: بأن المقارنات في المجالات المتعددة، التي ترافقت مع حركة اليقظة والوعي الإسلامي، تمتد لأكثر من نصف قرن، إن لم نقل قرنا كاملا، ولقد آن الأوان بعد هـذه الرحلة العلمية والثقافية التي لم تدع استزادة لمستزيد -في رأينا- من أن نعاود طرح الموضوع بشكل آخر؛ وهو إجراء المقارنات والمقاربات بين واقع الإنسان وحقوقه في المجتمعات ذات القوانين الوضعية، ومقارنة ذلك بواقع الإنسان وحقوقه في بعض بلاد المسلمين؛ حتى تلك التي تدعي تقليد الغرب، وما يعيشه من بؤس وفقر وجهل وأمية واستبداد سياسي يقبع وراء ذلك كله، حتى لنكاد نقول: إن الحيوان في بعض بلدان العالم يتمتع بأقدار من الحقوق ما لم يتمتع بها إنسان بلاد المسلمين.
وهنا قد يقول قائل: إن السبب في ذلك هـو الانسلاخ عن الإسلام وإقصائه عن واقع الحياة، فالواقع القائم ليس المسئول عنه
[ ص: 22 ] الإسلام، وإنما القوانين والشرائع البديلة التي تحكم الحياة في بلاد المسلمين. وهذا صحيح إلى حد بعيد، لكنه من وجه آخر تبسيط شديد للإشكالية.
إن ذلك ولو قبل من حيث المقدمة فلا يجوز قبوله من حيث النتيجة. إنها مسئوليتنا عن: لماذا صار الأمر إلى ما هـو عليه؟ ولماذا انسلخ المسلمون أو المجتمعات الإسلامية عن دينها وقيمها؟ وكيف يمكن لنا أن نضع الأساليب والخطط والمناهج ونرسم معالم لطريق العودة؟ فإذا سلمنا بأن الإسلام عظيم وخالد، فكيف يمكن لنا أن نحقق هـذه العظمة في حياة الإنسان؟ وكيف يمكن أن نحقق الخلود الذي يعني القدرة على الإنتاج في كل زمان ومكان في مجتمعاتنا اليوم؟ فأين الخلل، وما هـي السنن والقوانين التي أدت بنا إلى هـذا الواقع؟ وكيف يمكن التعامل معها، ومدافعة قدر بقدر؟
إن المطلوب اليوم -فيما نرى- عدم الاقتصار على مقارنة الإسلام بالقوانين والشرائع الأخرى وإنما مقارنة مجتمعات المسلمين بمجتمعات الحضارة الغربية، أو مجتمعات الحضارات الأخرى، وتحديد المواطن التي لا بد أن يتوجه إليها الجهد عن علم ودراية وخبرة واختصاص، لا بد من التوقف عن تلقي الإشكاليات بالألسنة وإذاعة ما نعاني من الأمن والخوف واللجوء إلى الخطب الطنانة الرنانة،
[ ص: 23 ] والتحول إلى استدعاء أهل الاختصاص والخبرة والعلم؛ ليستنبطوا الحلول، ويعالجوا المشكلات؛
استجابة لقوله تعالى:
( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (النساء:83) ؛
أي: لا بد من التحول إلى الفقهاء، بالمعنى الواسع لمصطلح الفقه، الذي يستوعب شعب المعرفة والاختصاصات جميعا، وإدراك حدود مهمة الخطباء ودور الفقهاء والخبراء.
فلم يعد يكفي في عالم اليوم، وبعد هـذه الرحلة الطويلة الممتدة لزعامة الخطبة أن نقول: بأن السبب هـو بعد الناس عن الإسلام، وإن النهوض مرهون بعودتهم إليه، حيث مازلنا نردد هـذا من أزمنة بعيدة دون أن نتقدم أو نحقق إنجازات مقدورة وحلول ناجعة.
إن هـذه الحقيقة لم تعد محلا للنظر من جميع المسلمين تقريبا، لكن المطلوب أن نطرح الإشكالية بالشكل الأكثر دقة وجدوى، ونخضعها للتحليل والتعليل: لماذا انسلخ المسلمون عن الإسلام، وأهدرت حقوق الإنسان في بلاد المسلمين؟
وهذا التحليل يتطلب فقها لسنن السقوط، ويتطلب أدوات تحليل صحيحة، كما يتطلب تخصصات متنوعة بالعلوم الاجتماعية
[ ص: 24 ] والإنسانية والحضارية، فإذا انتهينا من تحليل الظاهرة، وردها إلى أسبابها الحقيقية، على مستوى الذات (والآخر) ، وانتهينا من التشخيص وتحديد مواطن الخلل وسببه، ننتقل إلى عملية العلاج بكل ما يتطلب من أدوات وتخصصات واختبارات وتقويم ومراجعة، كيف نعود للإسلام لننهض، ونسترد إنسانية الإنسان، ونحمي حقوقه، ونؤهله لحمل الرحمة إلى العالمين، ونستشعر مسئوليتنا عن مواقعنا
تحت شعار:
( قل هـو من عند أنفسكم ) (آل عمران:165) ،
بعيدا عن العقلية الذرائعية والسباحة في بحور من الخـطب بدون شـواطئ ولا بوصلات ولا أنظمة سرعة؟
فالأماني الطيبة لا تنتج إلا مزيدا من الحسرة،
قال تعالى:
( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) (النساء:123) ،
إنما هـي سنن وأقدار لا يجوز تجاهلها، ولا تجاوزها، أسباب ومسببات، مقدمات ونتائج، هـي أشبه بالمعادلات الرياضية في العلوم التجريبية، حيث لا ينفع الإخلاص والنوايا الطيبة بدون الصواب والخطط والمناهج العلمية، ولا تنفع الأمانة بدون القوة، ولا النية بدون العمل، ولا الكتاب بدون الميزان، كما لا تنفع الغوغائية والحماس وسوء التقدير والحركة العمـية التي توظف
[ ص: 25 ] لصالح (الآخر) في الحساب النهائي؛ لأن ذلك قفز من فوق القوانين والسنن والأقدار التي شرعها الله.
وقد يكون من المفيد التوقف قليلا لإلقاء الأضواء على إشكالية الإصلاح، أو بعبارة أوضح: إلقاء الأضواء على بعض الإصابات التي لحقت بمشروعات الإصلاح، على مستوى الفكر والفعل، وعلى الأخص تلك التي قامت باسم الإسلام، ممن وقفوا على منابر الإصلاح والتغيير، وحاولوا استرداد إنسانية الإنسان، ورسم سبل العودة للإسلام، وتقديم أنفسهم نماذج لإثارة الاقتداء.
ولعل في مقدمة تلك الإصابات، على وجه الإجمال:
- سـوء التقدير للإمكانات المتـوفرة والظروف المـحيطة، أو لحدود الاستطاعة التي هـي مناط التكليف، الأمر الذي أدى إلى القيام بمجازفات، وهدر للطاقات وممارسة للتضحيات جيرت لصالح العدو، ولم تحقق النتائج المأمولة، إن لم تلحق الأذى والإحباط بالكثير من أهلها.
كما أدى سوء التقدير للإمكانات المتوفرة والظروف المحـيطة أيضا إلى: الإقدام على مواجهات، ودفع أثمان باهظة، والقيام بتضحيات غير مدروسة تماما، ويؤسفنا أن
[ ص: 26 ] نقول: بأنها تحولت لصالح (الآخر) ؛ استخدمها كرصيد للتضحيات، يمكن توظيفها وتحريكها وقت اللزوم، وتصفية الحسابات الداخلية والإقليمية والدولية بها دون أن يكون لأصحابها أي نصيب، هـذا إذا لم يتحولوا من مجاهدين أطهار إلى مجرمين وإرهابيين أشرار.
- التحول عن الممكن المستطاع والتطاول لممـارسة غير الممكن أو المستطاع، وبذلك حاصر العمل نفسه، وتحـول عما يستطيع إلى التعامل مع ما لا يستطيع، فأضاع الكثير من الفرص والمكاسب وإنجاز الممكن، والتهيؤ ليصبح الصعب ممكنا والمستحيل صعبا.
- انقلاب الوسائل إلى غايات؛ ذلك أن من المعلوم أن المؤسسات والمنظمات والأندية وسائر وجوه العمل الجماعي وأشكاله إنما هـي في حقيقة الأمر وسائل لتحقيق كسب أكبر للقضية الإسلامية؛ لما فيه من تجميع الطاقات وتبادل الخبرات والتحاور والتشاور، وما إلى ذلك، إضافة إلى أن مثل هـذه المؤسسات والتنظيمات، وهي أشبه بمدارس للتربية ومراكز للتدريب على المعاني الإسلامية وترجمتها إلى واقع يثير
[ ص: 27 ] الاقتداء على الأصعدة المتعددة، ولسبب أو لآخر تحول الكثير منها إلى غايات وحزبيات وتعصبات أصبحت الغاية منها الحفاظ عليها، الأمر الذي عطل النقد والمراجعة والحوار والشورى والتقويم، وأعجزها عن أداء رسالتها.
- الانفصال عن جسم المجتمع وتشـكيل أجسام خاصة لها رؤيتها وعلاقاتها، بحيث تحولت إلى أشبه ما يكون بالطوائف المغلقة، المعجبة بنفسها وبفكرها، ولا يهمها إلا ذات أمرها، وبدل أن تنفصل عن المجتمع، عندما يصبح الطريق مسدودا؛ لتعيد بناء نفسها وتتزود بالمعاني الإسلامية وتعود إليه مهيأة لكسب أكبر للفعل وفاعلية أكثر، أصبحت أجساما غريبة يمكن محاصرتها والإغراء بضربها، وشل حركتها... إلخ،
قال تعالـى:
( ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ) (الأنفال:16) .
لقد سمح الله بالتولي في حالة إيجاد خطة أفضل وأكثر فاعلية: إلا متحرفا لقتال، أو إعادة تجميع القوى لتكون أكثر عطاء: أو متحيزا إلى فئة؛ لذلك لم تستطع القيام بالكثير من مهامها، وأصبح جل هـمها مدافعة الخصم،
[ ص: 28 ] بل نقول: إنها خلقت عداوات، وجعلت من الخصم عدوا في كثير من الأحيان. وما لم تعد للمجتمع وتتوسع في دوائر الخير فيه، بحسب استطاعاتها، وتكون قادرة على تحريك الخير في نفوس أبنائه، وحمل هـمومه، والتضحية في سبيل أهدافه، فسوف تبقى عاجزة عن أداء مهمتها.
- تضييق وانكماش مفهوم الأخوة الشاملة وحقوقها، والتعصب للجماعة والحزب والطائفة والمذهب.
- شيوع فلسفات عجيبة غريبة، قد تكون له ظروفها الاستثنائية، تدعو للمفاصلة مع المجتمعات، والحكم عليها بشتى الأحكام، ونعتها بشتى الصفات. علما بأن المجتمعات هـي محل الدعوة أصلا، ولعل ذلك كان إحدى الإصابات القاتلة، حيث أدت إلى استعداء الناس بمعظم مواقعهم.
- الترفع عن المجتمع، بدل التواضع له، وإعطاء النفس حق الحكم على الآخرين، تخطيئا وتصويبا وتجريما، ودعوة الآخرين لاحترامنا كضريبة يدفعها المجتمع لتديننا، ويكون المجتمع في خدمتنا بدل أن نكون في خدمته.
[ ص: 29 ] - الخلط بين قيم الدين المعصومة وصور التدين المظنونة القابلة للخطأ والصواب، حتى أصبح يعرف الحق بالرجال، ولا يعرف الرجال بالحق.
- غياب المراجعة والتقويم، وتعطيل الشورى، ولو وجدت أسماؤها فللتفاخر والتباهي لكن مؤسساتها معطلة، حيث أصبح تقديم الولاء للأشخاص على الولاء للقيم والأفكار، والضيق بالمناصحة، وهي سبيل الرشد، والإصرار على بعض الزعامات العاجزة، والتستر على الخطأ بحجة عدم خلخلة الصفوف وتبصير العدو بالعيوب، دون أن ندري أن العدو أعرف بعيوبنا التي يتسلل من خلالها منا، وأن التستر على الخطأ أخطر على الصفوف ووحدتها من مراجعته وتصويبه. وما لم تتحول المؤسسات الإسلامية إلى مراكز للتدريب على الشورى والحوار والتقويـم والمراجعة لأعمالها
تحت شعار:
( قل هـو من عند أنفسكم ) (آل عمران:165) ،
فسوف لا تكون قادرة على إنقاذ نفسها قبل أن تدعي إنقاذ غيرها.
- الاجتهاد وإصدار الفتاوى لتسويغ الإقدام على ممارسات يأباها الدين، وتشكل انتهاكات لأبسط حقوق الإنسان،
[ ص: 30 ] باسم مصلحة الدعوة، فمتى كانت مصلحة الدعوة تقضي بقتل الأطفال والنساء وسفك الدماء واستباحة الحرمات؟ ومهما قيل بأن ذلك إنما هـو ثمرة لاختراق العمل الإسلامي، فإن مجرد القابلية للاختراق، وعدم الإدانة لمثل هـذه الممارسات، والاستنكار لها يشكل مأزقا خطيرا وشللا لحركة الدعوة، ويعني -فيما يعني - أن عدونا نال منا ما يريد.
- التوسع في مفهوم البيعة الشرعية، وما يترتب عليها من سلطات وما يناط بها من مسئوليات؛ بحيث تحولت من مبايعة للإشراف على عمل أو سفر أو القيام بمهمة محددة إلى التوسع إلى إضفاء مفهوم الإمامة العظمى على بعض المسئولين والقيادات في فصائل العمل الإسلامي، دون النظر في الشروط التي تتطلبها الإمامة العظمى، والإمكانات والصلاحيات الممنوحة لها، والمسئوليات المترتبة عليها، وحدود الطاعة المطلوبة من المبايع، الأمر الذي أدى إلى لون من التدين المغشوش والفهوم المعوجة والممارسات الخطيرة، غاب عنها الفقه والعقل، مما أدى بالتالي إلى ممارسات خطيرة شوهت وجه الإسلام، ونفرت منه، وقوت حجج خصومه وأعدائه، باسم الوفاء بالبيعة.
[ ص: 31 ] - التصدي لقيادة العمل الإسلامي من قبل عناصر شبابية متحمسة، علمها محدودة وفقهها ضئيل، وكثيرا ما تفتقر للنضج السياسي والرشد الاجتماعي.
- غلبة الذهنية الذرائعية، ومحاولة الإلقاء بالتبعة على (الآخر) ؛ لإعفاء النفس من مسئولية أي تقصير أو إهمال أو خطأ. وهذا من المخاطر الكبيرة التي لحقت بذهنية العاملين وثقافتهم، وحالت بينهم وبين اكتشاف مواطن التقصير وأسباب القصور لمعالجتها، فاستمرار التردي دون أن نتنبه إلى أننا لو افترضنا أن (الآخر) وراء كل مصائبنا، فذلك يعني من بعض الوجوه أننا دون سوية التعامل مع المرحلة، الأمر الذي يقتضي إفساح المجال لأهل الخبرة والمعرفة.
- التوهم بأن مجرد الانتماء لعمل إسلامي يمنح صاحبه العلم والفقه والقدرات الخارقة، ويغنيه عن الفقه والعلم، الأمر الذي يؤدي بصاحبه إلى التطاول والحكم على قضايا كبيرة دون امتلاك أدواتها، ومن هـنا وقعت أخطاء قاتلة في التعامل مع النصوص الشرعية، والتعرف على مواصفاتها ومحال تنزيلها، وانتهت إلى نوع من العبث في الحكم الشرعي
[ ص: 32 ] واستخدامه كمسوغ للفعل ومادة للخطب؛ سواء أكان ذلك بحسن نية أو غير ذلك، والعياذ بالله، فكثر الفقهاء بغير فقه، وكثر المفتون بدون علم.
- ترك السلاح الفعال، من الدعوة، والحوار، والإقناع، وبناء الأنموذج، ومحاربة الظلم والاستبداد، وتأسيس الحرية، والاختيار لتحقيق: «لا إكراه»، والتوهم بأن التغيير يمكن أن يكون بالقوة، تحت ضغط الظروف، دون اختبار لجدوى هـذا الأسلوب، ومعرفة للإمكانات، ومعرفة لطبيعة الدور المنوط بالمسلم ونوعيته، إضافة إلى أن اللجوء للإجبار والقوة -في كل الأحوال- تنكر لمبدأ «لا إكراه»، فلم نر في تاريخ النبوة من نازل الكبراء والملأ ببناء أهرام أعلى أو ظلم للناس أشد، أو استئثار بالمال أكبر، وإنما حاولت النبوة إعادة الناس إلى الرشد، وتأمين حقوق الإنسان، واسترداد كرامته المهدورة من الملأ والكبراء تحت شعار «لا إكراه»، حيث استرداد إنسانية الإنسان وكرامته المهدورة. وبذلك تركنا السلاح المؤثر ولجأنا إلى السلاح الخاسر.
[ ص: 33 ] - عدم الاستيعاب الكامل لمراحل السيرة، والقدرة على الإحاطة بفقه الواقع، وتحديد موقعه من مسيرة السيرة بما يحقق محال الاقتداء في كل مرحلة يكون عليها الواقع، وحسن التعامل مع المنهج النبوي في بناء المشترك الإنساني، الذي يلتقي مع مقاصد الشريعة وقيم الإسلام وحقوق الإنسان.
فالرسول صلى الله عليه وسلم حضر
حلف الفضول ، الذي تعاهد فيه أهل مكة على رد المظالم ودفع الظلم،
( وقال: لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت ) . والرسول صلى الله عليه وسلم وقع وثيقة المدينة وبين فيها حقوق المواطنة، التي تعتبر الدستور الأول في الإسلام مع الآخرين. والرسول صلى الله عليه وسلم أشاد
بالنجاشي ، ووصفه بأنه الملك الذي لا يظلم الناس عنده، وطلب من أصحابه الهجرة إليه:
( إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فألحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه ) . وهكذا نرى أن الإشكالية اليوم في أننا لسنا بمستوى إسلامنا وعصرنا.
- تعميم فكر الأزمات والإصابات، الذي نشأ لمواجهة أوضاعا خاصة واستثنائية، أو لمواجهة حالة خاصة؛ ليصبح فكرا عاما يصلح لكل المراحل، مهما تبدلت الظروف، بمعنى أننا
[ ص: 34 ] نستخدم نفس الوسائل ونفس الأفكار لكل المراحل وكل التطورات، بحيث تحولنا من فكر أزمة إلى ما يسمى أزمة فكر، ومن وسيلة أزمة إلى أزمة وسيلة.
ولا يتسع المجال هـنا للاستمرار في ذلك، وإنما هـي نماذج أو نوافذ للإطلالة منها على الواقع الإسلامي، ذلك أن المقارنة بين حقوق الإنسان في الإسلام وحقوقه في ظل القوانين الوضعية سوف لا ينفعنا كثيرا ما لم نقم بمقارنة بين واقع حقوق الإنسان في العالم الإسلامي وحقوقه في مجتمعات الحضارات الأخرى، أو بين القيم الإسلامية والواقع الذي عليه الناس، وتحديد مواطن الإصابات، التي حالت دون الارتقاء إلى المستوى الذي شرعه الإسلام لحقوق الإنسان.
وهذا الكتاب يعتبر إلى حد بعيد استمرارا في فتح الملف، واستكمالا للكتاب الذي سبقه، وامتدادا لموضوع «حقوق الإنسان»، التي تشكل المحور الأساس لمقاصد الشريعة؛ ذلك أنه من المفيد أن يستكمل الموضوع بالنظر إلى حقوق الإنسان بين القيم المنـزلة من الله خالق الإنسان العالم بأحواله وحاجاته الأساسية وبين القوانين الوضعية التي لم تخرج عن أن تكون جسرا للتسلط وممارسة الظلم والطغيان من الإنسان لأخيه الإنسان، وبين الواقع الذي عليه المسلمون، والقيام بالمقارنات المطلوبة.
[ ص: 35 ] وكم كنا نود الاستزادة في البحث لما عليه الحال في الواقع الإنساني، أو واقع حقوق الإنسان في العالم الذي يدعي التحضر اليوم، حيث القتل الجماعي، والاغتيال السياسي، وتدمير المدن والدول، بمن فيها من الأطفال والنساء، تحت شعار النصرة لحقوق الإنسان، ومحاربة الشر، ونشر قيم الخير والعدل، لدرجة يمكن أن نقول معها: إن معركة واحدة من معارك من يتباهون بحماية حقوق الإنسان ويرفعون شعارها، ويمتلكون قدرات تكنولوجية هـائلة، يمكن أن توقع من الضحايا بظلم وعدوان ما لم يقع بعضه في تاريخ الإسلام الطويل، وما وقع في تاريخ البشر كله، ومع ذلك يتهم الإسلام والمسلمون بالإرهاب، ويتباهى الآخرون بالمدنية والعدل وحقوق الإنسان.
ونقول والواقع شاهد على ذلك: إن البقية الباقية من العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين، على مستوى الفرد والأمة، ما زالت تحقق لهم الأمن والأمان بأقدار لم يتمتع بها أصحاب الحضارات الأخرى حتى اليوم، حيث يعيشون الرعب، والقلق، والجرائم الاجتماعية، والأزمات النفسية، فكيف لو عاد المسلمون على مستوى الأمة والدولة إلى الهدي الإسلامي، وحملوه لإلحاق الرحمة بالعالمين؟
والله الهادي إلى سواء السبيل.
[ ص: 36 ]