المقدمة
خلق الله تعالى هـذا الوجود على الوجه الأتم بالحق، فكان الإنسان ممن خلق، خلقه معجزة من نطفة، فإذا هـو روح وجسد وعقل، سمع وبصر وفؤاد، خلقه بيديه تشريفا، وأسجد له ملائكته تكريما، وشرع تكريمه وتفضيله على كثير ممن خلق تفضيلا، وجعل تكريمه وتفضيله دينا واجب الاتباع والتطبيق:
( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) (الإسراء:70) ،
وطرد
إبليس من جنته، ولعنه لعن الأبد؛ لأنه لم يلتزم بالأمر الإلهي بالتكريم. وجعل قيمة الإنسان الواحد تساوي قيمة البشرية كلها إحياء وإماتة:
( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) (المائدة:32) .
أنعم الله تعالى على الإنسان ورحمه وشرفه بإرسال الرسل وإنزال الكتب التي ختمها بالقرآن العظيم روحا، ونورا، وهدى، وفرقانا،
[ ص: 37 ] وبصائر؛ ليقيم حياته على نهج الصراط المستقيم:
( قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ) (المائدة:15-16) ،
وجعل كتابه ورسوله فضلا ورحمة تستدعي الشكر والفرح:
( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هـو خير مما يجمعون ) (يونس:58) ،
وضمن كتابه ما به سعادة الإنسان، ليس حقوق الإنسان وحسب، بل سعادة الإنسان في الدارين، وبها تكون حقوق الإنسان أمرا مستوعبا ومفروغا منه.
وأعلمه أنه ربه، وإلهه، ووليه، والمنعم عليه، وراحمه، ومعلمه طريق الحياة الطيبة في الدنيا وطريق السعادة فيها إن هـو اتبع منهج العليم الحكيم الخبير، وأعلمه أنه سيحيه حياة طيبة إن هـو التزم بذلك وطبقه:
( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النحل:97) ،
وأنه لن ينال إلا الحياة النكدة والمعيشة الضنك إن هـو أعرض عن
[ ص: 38 ] ذلك واختار لنفسه طريقا آخر:
( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) (طه:124) .
لكن ناسا كثيرين ركبهم الغرور، واستكبروا على الإسلام، وشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله،
وقالوا:
( سأنزل مثل ما أنزل الله ) (الأنعام:93) ،
وكذبوا:
( قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ) (المائدة:77) ،
يجرون وراء السراب يحسبونه ماء، ولا ماء إلا في شريعة الله، فاستفاقوا فإذا يدهم والحصير، وإذا بالظلم، والبغي، والعدوان، وانتهاك حقوق الإنسان، فـي كل مـكان، وهي النتيـجة الحتمية لمن يـنهى وينأى عن القرآن،
قال تعالى:
( وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ) (الأنعام:26) ،
لعلهم بعد إهلاك أنفسهم في رحـلة العذاب، وحياة التصحر يرجعون إلى منهج الله الذي به وحده الحياة:
( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) (الأنفال:24) .
فمن أجل أن نبصر العالم، ومن أجل أن يستفيق بنو قومنا، كتبنا
[ ص: 39 ] هذا البحث في حقوق الإنسان؛ حيث يحتل البحث في موضوع حقوق الإنسان المقام الأول في الساحة الدولية والداخلية على السواء.
فعلى الساحة الدولية تسعى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان إلى إبراز دورها في خدمة حقوق الإنسان، وتتسابق في ذلك، ولا تكاد تفتر وسائل الإعلام في العالم عن الكلام عن حقوق الإنسان من جهة تعزيزها أو انتهاكها، وتحاول بعض الدول الكبرى تسويق حقوق الإنسان على أنها بضاعتها التي هـي وصية عليها في هـذا العالم.
وعلى المستوى الداخلي تتسابق الدول في بيان أنها ملتزمة بحقوق الإنسان، بعد أن ثبتت تلك الحقوق في دساتيرها، وتحاول السعي لإبراز عناصر الدولة القانونية لديها، والتي هـدفها الأساس حماية حقوق الإنسان، وتتبرأ من كل اتهام لها بانتهاك حقوق الإنسان، الذي أصبح شتيمة العصر.
ومما يستحق الإشارة إليه أن مصطلحات الشريعة التي تقابل « انتهاك حقوق الإنسان »؛ وهي: الظلم، والبغي، والعدوان، والإفساد في الأرض، وغيرها من المنهيات، أوسع كثيرا من مجرد
[ ص: 40 ] انتهاك حقوق منصوص عليها في القانون حصرا يطلب عدم انتهاكها، وكأن المصطلح يوحي باستباحة ما لم ينص عليه، أما في الشريعة فالمصطلحات الشرعية المذكورة تتسم بالشمول والسعة والعمق في حماية حقوق الإنسان.
وما أشرنا إليه للتدليل على أهمية الموضوع يدل على أنه على درجة عالية من اهتمام المجتمع الدولي واهتمام الدول، وكل منها يظهر الاهتمام به لأسبابه الخاصة؛ سواء أكان هـذا الاهتمام حقيقيا أم ظاهريا، يقصد به التغطية على الاستبداد والطغيان، وانتهاك حقوق الإنسان على المستوى الدولي أو الداخلي.
والأهم من كل ما تقدم أن أهمية البحث في هـذا الموضوع تكمن في إزالة خلط الأوراق في هـذا الركام من دعاوى حقوق الإنسان؛ تشريعا وإعلانات وإشادة، والكشف عن حقيقة حقوق الإنسان، والمنهجية المفضية إليها، وتبصير العالم بها، فبدون منهجية تفعيل حقوق الإنسان وضماناتها الحقيقية يصبح السعي وراء حقوق الإنسان:
( كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هـو ببالغه ) (الرعد:14) ، لا ينفع معه الإشادة بإعلانات الحقوق الدولية وتسطير حقوق الإنسان
[ ص: 41 ] وتعدادها في تلك الإعلانات والمواثيق وفي دساتير الدول المختلفة.
ويتناول البحث النظرية العامـة لحقـوق الإنسان فـي القانون، وما يقابلها في الشريعة الإسلامية. وهذا يوجب الكلام عن حقوق الإنسان في القانون الدولي وفي القانون الدستوري، وهما المعنيان أساسا بموضوع حقوق الإنسان، وبقية القوانين الداخلية تبع لهما في ذلك، مع تشخيص مواطن الخلل والمعضلات التي تواجه القانون، والناشئة من أساسه الفكري، وطبيعته التشريعية، والتي يظهر البحث أنها معضلات لا حل لها في القانون الوضعي، إضافة إلى تشخيص فقدان منهجية تفعيل حقوق الإنسان في القانون؛ فكرا وتشريعا. ثم الكلام أيضا على النظرية العامة لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية؛ تأسيسا لحقوق الإنسان ومنهجية متفردة لتفعيلها على صعيد الواقع، مع مقارنة خصائص حقوق الإنسان في كل من الشريعة والقانون، وبيان النتائج المترتبة على كل من النظامين وتقويمها.
وتقتصر الدراسات القانونية -حسب ما اطلعت عليه من مصادر- في فرعي القانون الدولي والدستوري -وهي كثيرة جدا- على عرض حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة، وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقيات الدولية بشأن حقوق الإنسان،
[ ص: 42 ] من غير تقديم نظرية شاملة لحقوق الإنسان بوجه عام من حيث: الأساس الفكري، والخصائص، والنتائج المترتبة على الفكر القانوني والتشريعي من سلبيات وإيجابيات، فكان علي أن أحاول استخلاص هـذه النظرية قدر المستطاع من أجل المقارنة.
أما الدراسات الإسلامية، فالقديم منها لم يتكلم عن حقوق الإنسان بحسبانها نظرية متكاملة مستقلة خاصة بحقوق الإنسان قبل السلطة، تشكل قيدا عليها، فلا يجوز لها المساس بها؛ لأن مسألة حقوق الإنسان لم تكن مثارة أصلا في ظل سيادة الحق والعدل المتمثل بالتشريع الإسلامي في الدولة الإسلامية، وإنما أثيرت في ظل سيادة الظلم والبغي في الأرض في ظل النظم الوضعية.
أما الدراسات الحديثة فقد ركزت غالبا -حسب ما اطلعت عليه من مصادر- على ما هـو موجود في الشريعة بوجه عام من حقوق الإنسان، أو على النظير والمقابل لما هـو موجود في القانون، مع بيان تفوق الشريعة بحق عند مقارنة حقوق معينة، وهي دراسات مهمة وضرورية؛ كحقوق المرأة، أو حقوق الأسرى، أو حقوق الجنين والطفل ونحوها.
[ ص: 43 ] فكان علي أن أحاول استخلاص النظرية العامة لحقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية مع ضماناتها، ومنهجية تفعيلها المتفردة، والتي هـي الأساس والجوهر في نجاحها وتفوقها على القانون، وليس مجرد تقرير الحقوق وتعدادها، وهي منهجية موجودة في الشريعة مفقودة في القانون، وهذا هـو السبب الأساس في الإخفاقات الكثيرة في ميدان حقوق الإنسان في القانون.
وتأسيسا على ما تقدم، فإن هـذا البحث يمكن أن يعتبر محاولة تأصيلية تتسم بالشمول، أرجو أن يشاركني العلماء الأجلاء في تأصيلها، وإثرائها، وتصويبها؛ لأهميتها البالغة في العصر الحديث.
[ ص: 44 ]