البعد الرسالي
في هـجرة العقول المسلمة إلى الغرب
أ.د/ عبد المجيد النجار
1- تمهيد
هجرة الإنسان من موقع إلى موقع على وجه الأرض، ومن بيئة اجتماعية إلى بيئة اجتماعية أخرى ظاهرة فردية وجماعية عرفت في التاريخ القديم والحديث، وستظل ظاهرة سارية ما وجد الإنسان؛ وذلك بما هـي سـنة من سنن الاجتماع البشري ، وقانون من قوانينه لا يتخلف مهما تغايرت الأسباب وتعددت الدوافع، بل لعلها بما هـي ظاهرة مندرجة ضمن قانون كوني عام يتمثل في الحركة الدائبة التي تشمل كل ما في الكون، فتنتقل بها الموجودات باطراد من مواقعها حتى لتبدو أنها على غير قرار ثابت.
وبالنسبة إلى الإنسان ذي الإلف والحساسية، قد يبدو في هـجرته الفردية أو الجماعية ضرب من المعاناة متمثلة في آلام الفرقة ومشاكل الاغتراب، سواء بالنسبة إلى البيئة الطبيعية أو بالنسبة إلى
[ ص: 39 ] البيئة الاجتماعية، وهو ما حفلت بتصاويره وأوصافه آداب الشعوب وفنونها على مر الزمن، إلا أن الهجرة مع ذلك لعلها تعتبر أحد العوامل الهامة في التقدم الإنساني العام، وفي التطور الحضاري بمختلف وجوهه؛ ذلك أنها تمثل عاملا مهما من عوامل التلاقح الفكري بين الناس، وسبيلا من سبل تفاعل الخبرات والتجارب بينهم، وهو أحد أهم أسباب النمو في الحضارة الإنسانية بوجه عام.
وللهجرة في التاريخ الإسلامي معنى خاص وآثار متميزة، بحيث اتخذت فيه وضعا لم يكن لها في أي دين أو مذهب آخر، فقد جاءت النصوص الدينية تبارك الهجرة في سبيل الدين، وتحث عليها، وتعتبرها إحدى وسائل النضال من أجله، والجهاد في سبيله،
ومن ذلك قوله تعالـى:
( قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهـاجروا فيها ) (النساء:97) ، وكانت هـجرة النبي صلى الله عليه وسلم من
مكة إلى
المدينة عاملا حاسما في انتصار الإسلام ورسوخ قدمه، كما كانت بعد ذلك هـجرات المسلمين إلى أصقاع الأرض سببا في انتشاره بين الناس، وسببا في تلاقح حضاري اعتبر أحد الأسباب المهمة في نشأة الحضارة الغربية الراهنة.
ومن هـذا الوضع المتميز للهجرة في الإسلام وتاريخه أصبح في المخزون الثقافي للمسلمين ما يمكن أن يسمى بثقافة الهجرة، وهي
[ ص: 40 ] ثقافة أصبح بها المسلم يعتبر أن الهجرة لئن كان فيها من الشدة والمعاناة ما يلقاه عموم الناس منها إلا أنها بالنسبة إليه تعتبر وسيلة من وسائل الدعوة إلى الدين، وضربا من ضروب الجهاد في سبيل الله، فاكتست بذلك في نفس المسلم بعدا رساليا اختلفت به عن موقعها في نفوس غير المسلمين من سائر أهل المذاهب والأديان الأخرى.
وإذا كان هـذا البعد الرسالي للهجرة المترسب في ثقافة المسلم قد يخفت أحيانا في نفوس بعض الأفراد أو الجماعات فـي ظروف معينة، أو في أحقاب زمنية محددة، لسبب أو لآخر من الأسباب، إلا أن التأصل العميق لثقافة الهجرة في النفسية الإسلامية يظل محافظا على ذلك البعد الرسالي فيها مهما أتى عليه من عـوامل الخـفوت، وهو ما يبدو فيما يلحظ من استفاقة ذلك البعد وفعاليته بأقل جهود تبذل في إحيائه واستنهاضه، وذلك ما يعتبر رصيدا بالغ الأهمية من أرصدة الدعوة التي يمكن استثمارها في سبيل التعريف بالإسلام ونشره بين الناس.
وقد شهد نصف القرن الأخير هـجرة أعداد كبيرة من المسلمين إلى العالم الغربي لأسباب متعددة اقتصادية وسياسية واجتماعية، حتى أصبح عدد المهاجرين فيه يعد بالملايين، ولئن كان البعد الرسالي في هـذه الهجرة خافتا عند أكثر المهاجرين، لأسباب يعود بعضها إليهم
[ ص: 41 ] متعلقة بضعف وعيهم الثقافي العام، ويعود بعضها إلى المناخ الحضاري الذي هـاجروا إليه متمثلة في السطوة الحضارية الغالبة في الحضارة الغربية، إلا أن التطورات التي حدثت في نوعية المسلمين المهاجرين وفي مجمل الوجود الإسلامي بالديار الغربية، مضافا إليه ذلك الرصيد من البعد الرسالي المخزون مستكنا في النفسية الإسلامية يمكن أن يكونا عاملين مهمين من العوامل التي يمكن استثمارها في الدفع بالهجرة الإسلامية إلى الديار الغربية إلى آفاق رسالية واسعة يمكن أن تكون لها آثار نوعية في الدعوة الإسلامية.
وفي هـذا الإطار يتنـزل ما يثار اليوم من حجاج واسع في هـجرة العقول من البلاد الإسلامية إلى الديار الغربية، فقد كثرت حول هـذه الهجرة التساؤلات فيما إذا كانت تمثل عاملا سلبيا بالنسبة إلى المسلمين يضعف من أسباب نهضتهم وتقدمهم، أو هـي تنطوي على عناصر من القوة بالنسبة لمجمل الوضع الإسلامي العام في جانبه الدعوي على وجه الخصوص، وكيف يمكن لتلك العناصر، من القوة، إذا ثبتت أن تفعل لتحدث آثارها المطـلوبة فيـربو ما تنطوي عليه من خير على ما يمكن أن تكون منطوية عليه من ضرر؟
وسنحاول فيما يلي المشاركة في الإجابة على هـذه التساؤلات، متخذين منطلقا لهذه المشاركة ما رسمناه آنفا من إطار لموقع الهجرة في
[ ص: 42 ] الثقافة الإسلامية، وما ينطوي عليه ذلك الموقع من بعد رسالي أثبتته النصوص الدينية عقديا، ورسخته التجربة التاريخية على مدى زمن طويل، فهل في هـجرة العقول من البلاد الإسلامية إلى ديار الغرب ما يمكن أن يعتبر خيرا للإسلام والمسلمين، أم هـي ظاهرة سلبية محض؟ وإذا كانت تنطوي على خير ففيم تبدو عناصر ذلك الخير؟ وكيف يمكن تفعيلها لتؤتي ثمارها في خدمة الإسلام والمسلمين؟