أولا: إيجابيات الهجرة في الفضاء الغربي
فلقد صاحبت هـجرة اليد العاملة من البلاد المسلمة إلى البلاد الغربية هـجرة من صنف آخر، تتمثل في هـجرة العقول أو ما يسمى بالكفاءات العلمية والفكرية. وفيهم نسبة من المهاجرين لأسباب سياسية. ويلاحظ أن الهجرة إلى العالم اللاتيني الجرماني (
فرنسا وألمانيا خصوصا) يغلب عليها الطابع الاقتصادي، وأن الهجرة إلى العالم الأنجلوساكسوني (
بريطانيا والولايات المتحدة وكندا ) يغلب عليها الطابع العلمي. أما الهجرة السياسية فهي منشرة في كل البلاد الغربية، بقدر تأزم وضع حقوق الإنسان في البلاد العربية الإسلامية.
والمتأمل في الهجرة السياسية من بلاد المشرق والمغرب يجد أنها وفرت كفاءات متمرسة في العمل النضالي الاجتماعي والنقابي والسياسي في البلاد المضيفة، مع الإشارة إلى التحول الأيديولوجي الذي شهدته هـذه العقول من التيار العلماني اليساري والقومي إلى التيار الإسلامي، خاصة في الثمانينيات والتسعينيات، بعد الحملة على الإسلاميين في بلاد مغاربية ومشرقية.
ومن فوائد الهجرة السياسية أيضا نمو فكرة العمل "الجبهوي"، أي في إطار جبهة واحدة، بين التيارات العلمانية والإسلامية، التي
[ ص: 79 ] كانت تعيش في أجواء الصراع بل الصدام أحيانا في البلاد العربية والإسلامية. وبوجودها وتلاقيها في أجواء جديدة من الحريات، اضطرت إلى إيجاد أقدار من العمل السياسي والحقوقي المشترك بينها حول معارضة كل أشكال الاستبداد في بلادها، والدفاع عن الحريات وحقوق الإنسان.
ومن الانعكاسات الإيجابية على التيارات الإسلامية المهاجرة، قيامها بعملية نقد ذاتـي ومراجعة مسـارها الفكري والسياسي، بما يؤهلها لدور حضاري لا تستفيد منه الجاليات المسلمة فحسب، بل تتعداه إلى المجتمعات الإسلامية والمجتمعات الغربية والبشرية جمعاء.
فكما هـو معلوم، فإن هـذه التيارات صحبت معها تجاربها في العمل والنضال من زوايا فكرية وعملية مختلفة، رغم الاتفاق العام حول المرجعية الدينية الإسلامية. وسجلت خلافات بين العاملين في الحقل الإسلامي بقيت آثارها إلى اليوم، والتي تلمس في الحساسيات القائمة بين المؤسسات الإسلامية التي يشرف عليها قدماء النشطين الإسلاميين.
ولكن بعد تلاقح التجربتين المغاربية والمشرقية في بلاد الغرب، وتحت ضغط التحولات في تركيبة الجاليات المسلمة وتطور اهتماماتها
[ ص: 80 ] من الحفاظ على الهوية إلى المواطنة ، حصلت الكثير من المراجعات وعمليات التقييم أو التقويم الداخلي على المستوى الفكري والسياسي نحو مزيد من الواقعية في التعامل مع الواقع المحلي والعالمي.
ومن أهم القضايا التي حصل حولها حوار ونقاش مسألة التغيير وأساليبه ومقتضياته. وبناء عليه، تم السعي إلى التقريب بين مختلف الحساسيات، ومحاولة تجاوز العقلية الحزبية التي كانت مسيطرة لسنوات عدة. وانطلقت الجهود نحو تجميع الكفاءات السياسية والعلمية المهاجرة من أجل البناء المستقبلي والنهوض الحضاري، وترسخت القناعة أن مستقبل الحضور الإسلامي في الغرب مرتبط بدور الكفاءات الإسلامية المهاجرة، تضاف إليها طاقات جديدة.
البعد الحضاري لهجرة العقول المسلمة
يتجلى البعد الحضاري لهجرة العقول المسلمة في ثلاث توجهات: توجه تصحيحي لمفاهيم وتصورات خاطئة عن الإسلام والمسلمين، ودفاعي عن قضاياهم وحقوقهم؛ وتوجه ثان ترشيدي تأطيري لأبناء الجاليات المسلمة؛ وتوجه ثالث دعوي رسالي ينفتح على بقية المجتمع.
[ ص: 81 ] التوجه الأول: التوجه التصحيحي والدفاعي
إن الحديث عن عملية تصحيح مفاهيم وتصورات ينطلق من اعتبار الإشكال في جوهره ثقافيا، ويتعلق بالعقليات وبالتحديد بالتصورات وبالنظرة للإسلام والمسلمين. ولا شك أن هـذه النظرة محملة بمخلفات تاريخ العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم النصراني التي تأرجحت بين التفاهم والصراع. ولكن العـقل الغربـي يختزل هـذه العلاقة فـي الصراع والصدام، أيام الحروب الصليبية والاستعمار، ويغفل عن الصفحات المشرقة فـي هـذه العلاقـة أو ما يمكن التعبير عنه بالعلاقات العادية التي لا ترقى بالضرورة لتكون ودية. وتوارثت مختلف الأجيال، أبا عن جد، هـذه الصورة السلبية التي تم تلقينها منذ الصغر وكرستها مناهج التعليم، التي امتدت إلى أيامنا بسبب عوامل جديدة.
فمع وجود المسلمين واستقرارهم في أوروبا والبلاد الغربية عموما، بدأت تطفو على السطح مظاهر العنصرية والخوف من الإسلام وكراهية المسلمين، أو ما يطلق عليه مصطلح « إسلاموفوبيا »، التي يمكن تفسيرها بمحاولة تحميل المسلمين مسئولية أزمات الحاضر من البطالة وانتشار العنف والجريمة.. من ناحية، والتخوف من ناحية ثانية من تحول جذري في هـوية المجتمعات الغربية في اتجاه الأسلمة
[ ص: 82 ] المتدرجة بالكلمة والسلوك، بالنظر إلى ما تمتلك الفكرة الإسلامية من جاذبية، وما يمتلك المسلمون من مقومات حضارية وقوة كامنة للفعل والتأثير، إضافة إلى العامل الديمغرافي الذي يسير في صالحهم، بحكم اتجاه المجتمعات الغربية نحو الشيخوخة، والمسلمون بصدد المساهمة في تجدد هـذه المجتمعات.
ويرى
د. زكي بدوي رئيس منتدى ضد «الإسلاموفوبيا» والعنصرية «FAIR» في بريطانيا، أن من أسباب كراهية الإسلام في الغرب وجود «عدد من المهاجرين ينتمون إلى ثقافة ودين مختلفين عما هـو سائد في البلاد الغربية، بل إلى دين ينظر له بشيء من العداوة.. واعتبر أن هـناك خوفا حقيقيا من الطرفين (خوف المسلمين من الغرب، وخوف الغربيين من الإسلام، خاصة عندما كان في أوج قوته) ، وهناك خوف مرضي، وهو ما يعبر عنه بالإسلاموفوبيا، ويظهر من خلال بعـض المواقـف والتصريحات لجهات إعـلامية أو شخصيات سياسية معروفة، والتي تتمحور حول اعتبار الإسلام دخيلا على المجتمعات الغربية، والمسلمين ليست لهم قابلية الاندماج في هـذه المجتمعات»
>[1] .
[ ص: 83 ] من هـنا تأتي الحاجة إلى الكفاءات لتغيير الصورة السلبية عن الإسلام، والتذكير بالعطاء الحضاري للإسلام تاريخيا، وإقامة حوار حضاري مع النخبة المثقفة، والطبقة السياسية، والجهات الإعلامية، والجهات الدينية. ويمكن التوقف عند كل فئة لمعرفة خطورة دور العقول والكفاءات المهاجرة في الحوار الحضاري المنشود.
1- محاورة المثقفين.. صانعي الأفكار
النخبة المثقفة يقصد بها هـنا المفكرون والجامعيون والباحثون المستقلون أو العاملون في مراكز الدراسات والبحوث. ومعلوم أن العديد من هـذه المراكز هـي عبارة عن مخابر لصنع الأفكار وإعداد التقارير التي يعتمد عليها أصحاب القرار في اتخاذ قرارهم. وينظم القائمون على هـذه المراكز ندوات ومحاضرات ويدعون إليها مختصين في هـذا المجال أو ذاك. ويلاحظ تزايد الندوات التي تتناول القضايا المتعلقة بالإسلام والمسلمين وبالجاليات المسلمة.
وهي إحدى المداخل المهمة لربط العلاقة مع الباحثين الغربيين ومحـاولة إقناعهم بوجهة نظر الإسـلام في العديد من المسـائل. كما يمكن أن تساهم الكفاءات المهاجرة في إصدارات هـذه المراكز. وتزداد أهمية هـذا البعد خاصة في ظل المتغيرات والأحداث الطارئة، التي وضعت جهود سنوات طويلة من الحوار ومحاولة تصحيح الرؤى والتصورات في الميزان.
[ ص: 84 ] ويتصل بالنخبة المثقفة عموم المثقفين الذين يقدمون للآخرين علما وفكرا وتصورات، مثل الأساتذة والمعلمين الذين هـم باتصال دائم بالتلامذة والطلبة وأجيال الغد الذين سيقودون سفينة مجتمعاتهم إما إلى النجاة أو إلى الغرق. وصناعة الفكر والتصورات تبدأ من الصغر في البيت وفي المدرسة.
وهناك ظاهرة جديدة جديرة بالاهتمام تتمثل في وجود عدد من المعلمين والأساتذة من أصول إسلامية في المدارس والمعاهد الغربية، بالنظر إلى النقص في الكوادر التعليمية من أصول غربية، بسبب تراجع نسبة الولادات في هـذه المجتمعات. ومثل هـذا الوجود ضمن الطاقم التعليمي الغربي مدخل مهم لتصحيح عدة تصورات ومفاهيم بشرط أن تكون هـذه الكفاءات مستوعبة للتصور الإسـلامي. فكما هـو معلوم، فإن العلوم، سواء ما يتعلق منها بالإنسان أو بالطبيعة، بقيت حبيسة التصورات الوضعية المهيمنة التي تبعدها عن هـذه الروح التكاملية بين السماء والأرض، والتي تشربتها أجيال وأجيال، وظهرت نتائجها السلبية، بل أخطارها، في الواقع اليومي المعيش.
وهنا يأتي دور المثقفين المسلمين في السعي إلى وضع قطار الأفكار والرؤى والتصورات على سكته الصحيحة. ويتمثل دورهم أيضا في الدفع نحو إعادة النظر أو على الأقل مراجعة البرامج التعليمية
[ ص: 85 ] التي تقدم الإسلام والمسلمين بنظرة احتقارية وسلبية، أو التي تتضمن تحريفا وتشويها للحقائق، خاصة في مادة التاريخ.
2- محاورة الإعلاميين.. مصادر التأثير
إن الإعلام سلاح ذو حدين، وأداة مهمة للتأثير في الرأي العام. ولأهميته، فإن التوجه إلى الجهات الإعلامية لتصحيح نظرتها عن الإسلام والمسلمين يتطلب معرفة بخصوصيات الساحة الإعلامية الغربية. فلو أخذنا على سبيل المثال الساحة الإعلامية الأوروبية، فإنها تقوم من حيث الهيكلية على عمل مؤسسي متطور، وعلى تكتلات لمواجهة المنافسة الأمريكية والآسيوية.
وتستمد مصادرها من وكالات أنباء قوية مثل الوكالة الفرنسية للأنباء، ورويتر...؛ ومن صانعي القرار في العالم، باعتبار أوروبا الغربية مركزا مهما للحركة الدبلوماسـية ، حيث إن أغلب هـؤلاء، أو من يمثلهم، يمرون عبر
باريس ولندن وبرلين في طريقهم إلى
الولايات المتحدة ؛ وكذلك من عشرات الندوات والملتقيات السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية المنعقدة في أوروبا؛ ومن عشرات المنظمات الإقليمية والدولية في أوروبا (الحلف الأطلسي، اليونسكو..) ؛ ومن مئات المنظمات والجمعيات الأهلية في أوروبا
[ ص: 86 ] الممثلة لمكونات الطيف الاجتماعي والعرقي والديني في شكل نموذج مصغر لما يوجد في العالم.
ويتضح من خلال هـذا الزخم الإعلامي مدى اتساع وتنوع اهتمامات الساحة الإعلامية الأوروبية. ويفترض أن كل ما يطرح فـي وسائل الإعلام الأوروبية يهم المسلميـن، سواء كانوا مواطنين أو مقيمين. ويمكن التركيز على بعض القضايا الحساسة لتكون المدخل للحوار مع الإعلاميين، مثل قضية الشرق الأوسط، بأبعادها الاقتصادية والعسكرية والأيديولوجية، والموقف من السياسة الأمريكية بخلفياتها وتعقيداتها، والجدل بشأن العولمة والخصوصية الأوروبية، والصحوة الإسلامية في البلاد الإسلامية التي تعالج عادة من منظور سلبي ("الإرهاب"، "الأصولية"..) ، ويتم ربطها بما يجري في المناطق الأوروبية ذات الأغلبية المسلمة (البلقان مثلا) أو الانحرافات السلوكية لدى شباب ينتمي إلى مسلمي أوروبا.
والمتحاور مع الإعلاميين حول هـذه القضايا يجب أن يكون مستوعبا للعوامل الفكرية التي أثرت وتؤثر في الإعلامي الغربي وهو يصنع الخبر أو التحليل المتعلق بالإسلام، مثل الثقافة التي تلقاها في حياته الدراسية، والعقلية الغربية المتأثرة بالتصورات الفكرية والأيديولوجية المسيحية أساسا والعلمانية ، والرصيد التاريخي،
[ ص: 87 ] ومخلفات ثقافة الاستشراق ، والصورة السلبية الناتجة عن الانحرافات السلوكية والفكرية لبعض المسلمين.
3- الدفاع عن حقوق المسلمين لدى السياسيين
إذا كان الاتصال بالإعلام، الذي يوصف بالسلطة الرابعة، يكتسب أهمية كبرى، فإنه من المهم أيضا التدخل لدى أصحاب القرار للدفاع عن حقوق المسلمين الذين يتحولون تدريجيا إلى جزء من كيان المجتمعات الغربية، ومحاولة إقناع السياسيين بضرورة ضمان تساوي الفرص كشرط لتحقيق المواطنة ، وذلك على المستوى الاجتماعي بإيجاد الظروف الضامنة للكرامة الإنسانية، خاصة في مجالات العمل والسكن والتعليم، وتجنب كل أشكال الإقصاء في العمل بسبب الانتماء إلى أصل أجنبي، ومظاهر حشر المسلمين في أحياء سكنية غير لائقة، كما حصل للمسلمين في فرنسا خلال الستينيات، مما فاقم ظاهرة العنف في ضواحي المدن الكبرى.
وعلى المستوى الثقافي، يتطلب تساوي الفرص احترام الخصوصيات الثقافية والدينية، والتصدي للعقليات المثيرة للنعرات العرقية والعنصرية، وظاهرة « الإسلاموفوبيا » فـي وسائل الإعلام ودوائر صناعة الفكر والقرار، وإعطاء حق الرد على تشويه صورة الإسلام والمسلمين.
[ ص: 88 ] وعلى المستوى السياسي، تطرح مسألة المساعدة على المواطنة الإيجابية، عن طريق المشاركة السياسية ، وفتح باب الترشح في وجه المواطنين من أصل أجنبي، وباب الانتخاب للجميع، على الأقل في الانتخابات البلدية، باعتبار أن تحقيق المساواة في الفرص والحصول على حقوق المواطنة كاملة من شأنه أن يجعل من مسلمي أوروبا والغرب عموما جسرا حضاريا بين العالم الإسلامي والعالم الغربي.
4- مجادلة أهل الكتاب
منذ أن بدأت مؤشرات تحول الأقليات المسلمة من الهجرة إلى الاستقرار في المجتمعات الغربية، ارتفعت بعض الأصوات التي تؤكد أن هـذه المجتمعات ذات انتماء مسيحي- يهودي، بقصد إقصاء الوجود الإسلامي في هـذه الديار، أو على الأقل تهميشه حتى لا يكون فاعلا. ولم يمنع ذلك من عقد ندوات واجتماعات بين المسلمين واتباع الديانة المسيحية فيما يسمى بالحوار الإسلامي المسيحي الذي بقي يراوح مكانه. لكن أحداث سبتمبر وتداعياتها دفعت مسئولي المؤسسات الدينية إلى إعادة التفكير في ضرورة التقارب والحوار من جديد، من أجل رفع الكثير من سوء التفاهم، ومنع الفكر المتشدد
[ ص: 89 ] لدى الجانبين من هـدم جسور التواصل. فقد تبين من خلال تجارب حـوارية سابقة أن هـناك فضاء كبيرا للالتقاء حول اهتمامات ومشاغل مشتركة، مثل التصدي للتسيب الخلقي، ولفرض النمط العلماني الإلحادي، وللأفكار الداعية إلى صدام الحضارات ...
وهنا أيضا ينتظر الكفاءات الإسلامية دور هـام في مجادلة أهل الكتاب بالتي أحسن، وبالخطاب الذي يفهمونه. ولا يخفى ما للتبشير المسيحي من دور في تشويه صورة الإسلام والمسلمين في مختلف أنحاء العالم، حيث تنطلق معظم البعثات التبشيرية من أوروبا والغرب عموما. وهذا الأمر يذكرنا بالحملات التبشيرية التي مهدت للاستعمار في البلاد الإسلامية.
وبدون شك، فإن كل نجاح يسجل في التقارب بين الأديان ونزع فتيلة الكراهية والعداء ستكون له انعكاساته الإيجابية المباشرة وغير المباشرة على العلاقات بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي. بل إن فوائده تتعداه إلى الأقليات الإسلامية في الغرب، وذلك بالحد من ظاهرة تصيد نقاط الضعف لدى المسلمين وتوظيفها بطرق ملتوية لأغراض خاصة، حيث تستغل مؤسسات تبشيرية - تعمل تحت غطاء اجتماعي إنساني - ثغرات في سلوكيات بعض أبناء وبنات
[ ص: 90 ] الجاليات المسلمة وفي ثقافتهم الاجتماعية والدينية لاحتـضانهم ومحاولة تنصيرهم.
فقد يلجأ بعض الأولياء إلى طرد أبنائهم المتمردين عليهم نتيجة الإدمان على المخدرات والخمر أو الجنس، أو بسبب إصرار البنت المسلمة على الزواج من شاب غير مسلم، فتكون القطيعة مع الوالدين والأسرة والسقوط في أيدي المتربصين.
وفي حقيقة الأمر، فإن مثل هـذه المسائل يتحمل المسلمون مسئوليتها بالدرجة الأولى. وبناء عليه، فإن الكفاءات الإسلامية في خط المواجهة لرفع هـذه التحديات، وهذا يقودنا إلى أهمية العمل التأطيري والترشيدي في صفوف الأقليات المسلمة.
التوجه الثاني: العمل الترشيدي التأطيري
يقصد به تأطير الأجيال المسلمة الصاعدة عن طريق بث روح الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي لدى الجاليات العربية المسلمة المقيمة في الغرب، التي تتحول يوما بعد يوم إلى جزء من النسيج الاجتماعي للمجتمعات الغربية.
وبالنظر إلى التراكمات الثقافية التي صحبها المهاجرون معهم من بلادهم الأصلية، فإنه من الواضح أن عملية التأهيل هـذه معقدة
[ ص: 91 ] وتحتاج إلى طول نفس. وهي أكثر تعقيدا فـي الفضاء الغربـي خارج الدائرة الأنجلوساكسونية ، حيث الهجرة الاقتصادية هـي السائدة في صفوف الأقليات المسلمة التي تغلب عليها محدودية الثقافـة الاجتماعية والدينية.
ويتطلب هـذا المعطى من أصحاب الكفاءات وضع استراتيجية تتضمن أولويات تأخذ بالاعتبار التحولات الداخلية في تركيبة أبناء الجاليات وفي تصوراتهم وعقلياتهم، وتراعي حاجيات مختلف الأجيال من الأجداد إلى الأحفاد. فهناك العديد من القضايا الملحة المطروحة على الأقليات المسلمة، التي لا يمكن أن يتصدى لها إلا الفاهمون والمستوعبون للواقع الذي يتحركون فيه، الذين يحملون ثقافة تؤهلهم لرفع التحديات الكثيرة. والخطورة أن يتصدى لهذه المهام من يتبنون فكرا على طرفي نقيض من طبيعة الفكر الإسلامي الوسطي والواقعي والمعتدل.
فهناك من يتبنى خطابا وتصورات علمانية تعامل الدين الإسلامي بالنظرة نفسها للدين السائدة في الغرب، وهناك أصحاب الفكر المتشدد أو القراءات السطحية للواقع الغربي. والإشكال ليس في التعدد ولكن في إحداث اضطراب في الرؤية لدى الطرف الغربي
[ ص: 92 ] المقابل إزاء خطاب مزدوج لدى فئة العقول المهاجرة المنتمية للمنظومة الدينية نفسها.
وإذا كان يسهل محاجة أصحاب الفكر العلماني من المسلمين، بحكم المفارقات بين المنظومتين الفكريتين العلمانية والإسلامية، فإن الفكر المتشدد داخل الصف الإسلامي من شأنه أن «يشوش، بل يضر بالإسلام وأهله، ويجهض عقودا من الجهود التي بذلها مسلمون مخلصون داخل العالم الإسلامي، وفي البلاد الغربية من أجل توضيح خصائص الإسلام القائمة على الاعتدال والواقعية بما يتماشى والفطرة الإنسانية، بالإضافة إلى إجهاض جهود التواصل والحوار مع العديد من رجال الفكر والسياسة الغربيين الذين يوجد من بينهم المنصفون في حكمهم على الإسلام وسلوك المسلمين، من خلال معايشتهم للحضور الإسلامي في الغرب».
وتزداد خطورة المسألة «عندما يتعلق الأمر بالشريحة الأساس في بناء المجتمعات ألا وهي الشباب، ذلك أن حاملي هـذا الفكر المتشدد أغلبهم من الشباب الذين وجدوا في هـذا الفكر ملجأ للتعبير عن رفضهم للمادية السائدة، وعن سخطهم على سلسلة الإهانات التي تعيشها الأمة الإسلامية على كل المستويات، واعتمدوا على اجتهادات ينقصها العمق فـي فهم النصوص والواقع، وتبنوا منهجا
[ ص: 93 ] في التغيير يقوم على التشدد، بل يصل أحيانا إلى العنف. ويرتبط بتداعيات هـذا الفكر المتشدد محاولة تقديم الإسلام من منظور أحادي في الفهم والتصور، والتشكيك بل تكفير مبدأ التعددية والمعارضة وحرية الفكر من داخل المنظومة الإسلامية»
>[2] .
ولكل هـذه الأسباب، يتعين على الكفاءات الإسلامية الواعية أن ترشد فكر الأجيال الصاعدة، وتجتهد في إقناعهم بوسطية الإسلام، وذلك باعتماد خطاب يفهمه هـؤلاء الشباب، ويتماشى مع عقليتهم، ويأخذ بالاعتبار مؤثرات البيئة التي يعيشون فيها. ويتطلب هـذا الأمر من المتصدي لهذه المهمة معرفة دقيقة بلغة البلد الأوروبي- الغربي وثقافته، وبنفسية الشاب أو الفتاة، بالإضافة إلى فهم مقاصد الإسلام وطبيعته ومنهجه في التعامل مع الآخر، من أجل كسب ثقة من سيقوم على كاهلهم بناء مستقبل الحضور الإسلامي في الغرب.
فقد أثبتت التجربة أن وجود خلل في أحد هـذه الشروط يترتب عليه فشل العملية التربوية والتأهيلية عموما. إذ لا يغني حث الشباب المسلم على الاهتمام بلغة القرآن -قراءة وحفظا وكتابة- عن
[ ص: 94 ] التحدث إليهم بلغة بلدهم الحاملين لجنسيته والمقيمين فيه بصفة دائمة، حيث يعسر عليهم في مراحل التكوين الأولى استيعاب معاني اللغة العربية الفصحى عندما يتعلق الأمر بالمواضيع التي تتطلب شرحا وتحليلا ونقدا، ومن ثم يكون من الأفضل تبليغ هـذه المعاني بلغة البلد التي تساعد على الفهم وسرعة الاستيعاب.
وليس في هـذا الأمر -كما يرى بعضهم- خطرا على مستقبل لغة القرآن لدى الأقليات المسلمة في الغرب، حيث يلاحظ إقبال الشباب المسلم على المساجد التي تقدم خطبة الجمعة باللغتين العربية والمحلية. ولنا أن نقارن حجم الإفادة من هـذا اللقاء الأسبوعي بين أن تكون الخطبة بالعربية فحسب وأن تكون باللغتين، خاصة إذا نجح الإمام الكفء في تبليغ رسالة الإسلام بمنهجه الوسطي.
ويدعو هـذا الأمر إلى تأهيل كوادر الأئمة والدعاة، وتطوير العملية التربوية والتعليمية، من خلال تطوير مناهج تعليم العربية والقرآن والدين الإسلامي في المدارس الخاصة أو في الجمعيات الإسلامية المنتشرة، بعقلية منفتحة على المجتمع.
ولكي يكون البناء التربوي الديني صلبا، فإن المطلوب هـو التفكير في عملية بناء تصاعدية للفرد في كل مراحل حياته، منذ أن يكون
[ ص: 95 ] طفلا إلى الشيخوخة؛ على عكس ما حصل في تاريخ وجود الجاليات المسلمة في الغرب، حيث تم الاهتمام بالحفاظ على هـوية الجيل الأول ببناء المساجد، ثم التفكير في المدارس لتعليم العربية والإسلام للجيل الثاني من الشباب، الذين لم يسعفهم الحظ في تلقي تكوين إسلامي محكم منذ الصغر، فكانت النتيجة أن تركت هـذه الثغرة بصمات على سلوكهم وتصوراتهم. وبوجود الجيل الثالث والرابع، بدأ التفكير في الطفولة، مثل تكوين رياض إسلامية للأطفال، وقصص وبرامج على الكمبيوتر في مستوى الطفل.
والمطلوب أيضا دمج التأهيل التربوي الديني بالتأهيل الثقافي الفكري السياسي، من أجل الحفاظ على التوازن في بناء الفرد والمجموعة. فتعليم الأجيال الصاعدة اللغة العربية ومبادئ الإسـلام لا يكفي لذاته إذا لم تصحبه متابعة ملف موضوع بالغ الأهمية يتعلق بتمثيل المسلمين لدى السلطات، والذي يحتاج إلى الكفاءات العارفة بمتطلبات هـذا الملف.. وملفا التعليم والتمثيل لا يغنيا بدورهما عن الدور السياسي.
وفي هـذا الصدد، يوجد اتجاهان متناقضان لدى أبناء الاقليات المسلمة في التعامل مع الملف السياسي. فمن ناحية، يلاحظ نوع من
[ ص: 96 ] الزهد في ممارسة حقهم الانتخابي الذي يمر عبر الترسم في القوائم الانتخابية في البلديات من أجل الحصول على البطاقة الانتخابية. ويفسر هـذا الزهد بأسباب عديدة منها ما يعود إلى الفهم الخاطئ في تأويل مصادر التشريع الإسلامي بدون علم بفقه الواقع، وربط الانتخاب بمسـألة الولاء الديني والحديث عن عدم جواز ترشـيح أو اختيار غير المسلمين، إلى جانب ضعف الثقافة السياسية لدى الأجيال الأولى؛ ومنها ما يعود إلى ظاهرة عدم الاكتراث بالحياة السياسية لدى نسبة من الرأي العام الغربي.
ويتأكد دور المثقفين في مثل هـذه المواقف في حث هـؤلاء الشباب على عدم التساهل في هـذا الحق، لما له من فوائد وإيجابيات على الوجود العربي الإسلامي في الغرب. وشهدت السنوات الأخيرة اهتمام المسئولين السياسيين والحزبيين ورؤساء البلديات والمرشحين في القوائم الانتخابية بالعرب والمسلمين في البلاد الغربية، من أجل كسب تعاطفهم وأصواتهم، مع اقتراب كل موعد انتخابي، وذلك لأن الصوت العربي المسلم أصبح يحسب له ألف حساب. ويعتبر المسلمون في
الولايات المتحدة الأمريكية أكثر تقدما في هـذا الشأن مقارنة بالبلاد الأوروبية.
[ ص: 97 ]
في المقابل، نلاحظ قيام تجمعات شبابية مسلمة تسعى إلى الإسراع بتشكيل لوبي إسلامي «Lobbying» بخلفيات سياسية مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية. والفكرة جيدة في حد ذاتها، ولكن هـل تمت دراسة مقتضياتها ومآلاتها ومراحلها؟ أم هـي مجرد رد فعل على حالة التهميش التي يعيشها الشباب المسلم المقيم في الغرب عموما وفي البلاد الأوروبية على وجه الخصوص؟ وهل ستكون ذات طابع شبابي أم ستتم الاستعانة بذوي الخبرة من الجيل الأول وإشراك"أهل الحل والعقد" كما يقال؟
أسئلة كثيرة تحتاج إلى تأمل وتفكير ودراسة عميقة وفقه بمتطلبات الواقع، والدمج بين "حماس الشباب وتجربة الكبار". وهذه المسألة الأخيرة جد مهمة في مسألة التأهيل عموما، وفي اتخاذ المواقف الحساسة مثل النشاط السياسي، لأن واقع الأقليات يطغى عليه نوع من الانفصام بين الطرفين.
وترتبط عملية التأهيل أيضا بترشيد عملية بناء المؤسسات الإسلامية ، للقيام بمشاريع تربوية وثقافية وفكرية ودينية وسياسية وإعلامية واقتصادية. وقد اقترن الحضور الإسلامي في الغرب بقيام
[ ص: 98 ] مؤسسات لتنظيم هـذا الحضور ورعايته والارتقاء بدوره. وتكتسب هـذه المؤسسات أهمية خاصة من حيث وظيفتها الإسلامية في الحفاظ على هـوية الأقليات المسلمة بكل شرائحها، وفي كل القطاعات والمجالات، خاصة مع اتساع الحاجة من الاجتماعي التربوي إلى قضايا التوطين وما يرتبط بها من هـموم المشاركة السياسية والانخراط في الحياة اليومية ومقتضياتها.
وبدون شك، فإن المؤسسات الإسلامية أصبحت المحضن الذي يستأنس به مسلمو الغرب في جميع أحوالهم، ومصدر مرجعيتهم الدينية والشرعية في التفاعل مع البيئة غير الإسلامية. ولكن العمل المؤسسي الإسلامي في حاجة إلى عملية تقويمية من حيث توفر الإمكانات المادية والبشرية الضرورية، وذلك بعد تعثر عدد من المؤسسات بسبب الانطلاقة غير المدروسة، ومن حيث ترتيب الأولويات، والحال أن جل الجهود تصب في إقامة المؤسسات الدينية مثل المساجد، والمؤسسات التعليمية مثل المدارس، على حساب مؤسسات أخرى ذات تأثير كبير مثل المؤسسات الإعلامية والبحثية والفقهية التأصيلية.
[ ص: 99 ]
ومن الحلول التي توصل إليها القائمون على مؤسسات إسلامية بالاستعانة بالخبراء المسلمين، إنشاء وقف خاص بها من أجل تجاوز العائق المالي الذي يعترض الكثير من المشاريع الإسلامية. كما لا تخفى أهمية عامل الاستثمار في النهوض بواقع الأقليات المسلمة. وتكفي المقارنة بين الوجود العربي الإسلامي في بريطانيا والواقع الاقتصادي. وهذا البعد لا يستهان به ولا يقل أهمية عن البعد الثقافي والفكري. فإقامة مشاريع تجارية ومؤسسات استثمارية مدخل مهم لاقتحام الدورة الاقتصادية الغربية وفهم آليات عملها والقوى المؤثرة فيها، وأهم من ذلك تكوين جماعة ضغط «لوبي» اقتصادي مالي ضروري لضمان حقوق الجاليات العربية المسلمة.
وبفضل قيام «كوادر» إسلامية متخصصة بتقديم دورات تدريبية في التسيير والاتصال، بدأ يشهد العمل المؤسسي الإسلامي عملية تطوير في وسائله وأهدافه، حيث ترسخت القناعة بضرورة انفتاح المؤسسات الإسلامية على الواقع الغربي بخلفية رسالية دعوية، في إطار معادلة مدروسة بين التأثر والتأثير، خاصة أن الهدف المنشود هـو الانتقال من «المواطنة» إلى التوطين.
[ ص: 100 ] التوجه الثالث: توجه دعوي رسالي
فإلى جانب التوجهين الأولين، هـناك توجه آخر لا يقل أهمية عنهما، ويتطلب من العقول الإسلامية جهودا كبيرة في اتجاه دعوي رسالي منفتح على المجتمعات الغربية، وذلك من خلال المشاركة بأطروحاتهم وآرائهم في القضايا التي تهم العالم ومصير المجتمعات الغربية التي يقيم بها المسلمون، وتوضيح قدرة الإسلام على معالجة قضايا العصر.
ومن أهم القضايا: العلاقة بين العلم والإيمان، وربط هـذا الأمر بالمسألة الخلقية «Ethic» بتصور يختلف عن الدعوة إلى الأخلاق بالمفهوم العلماني. ويمكن في هـذا الصدد تقديم التصور الإسلامي ذي البعد الإنساني للمعرفة والعلم، من خلال مقاربات إسلامية للعلوم الإنسانية والعلوم الصحيحة، وتصحيح المسار الذي تسير فيه البشرية، وخاصة الغرب، في مجال سباق التسلح، والتسيب الخلقي، وغياب الهدفية في الحياة، واختلال التوازن البيئي، وفرض نمط من السلوك والتفكير والتعامل باسم العولمة .
فبفضل ما يمتلك الباحثون ذوو الالتزام الديني من تصورات وثقافة ذات طابع ديني، يمكنهم المساهمة بأقدار كبيرة في قضايا حيوية
[ ص: 101 ] مثل الحفاظ على البيئة، وهذه قضية جد خطيرة، يدل على ذلك بروز أحزاب في البلاد الغربية تسمى بالخضر، تزداد شعبيتها يوما بعد يوم في ظل الأخطار التي أصبحت تحدق بحياة الإنسان ومحيطه جراء انتشار العقلية الربحية القائمة على الاحتكار والأنانية.
ويمكن للطرح الإسلامي -إذا حسن تقديمه- أن يساهم في دعم الوعي البيئي المتزايد لدى الرأي العام الغربي، بما يساهم في كبح جشع المؤسسات متعددة الجنسيات والأطراف المحتكرة للثروات الطبيعية.
وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى:
( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ) (الـروم:41) ،
بما يتماشى وفلسفة الإسلام للإنسان والكون والطبيعة، والتناغم بين الإنسان ومحيطه، بالنظر إلى وحدة الخلق وتسخير الكون للإنسان، ذي المهمة الاستخلافية في هـذه الأرض التي عليه تعميرها وليس تخريبها.
أما على المستوى الاقتصادي فيمكن الانطلاق مما توصل إليه الناقدون الغربيون أنفسهم من نقد للأبعاد الاقتصادية لكل من الاشتراكية والليبرالية ، والنتائج المترتبة على تطبيق مثل هـذه المبادئ في الواقع. ومن بين السلبيات التي تم التركيز عليها انتشار العقلية
[ ص: 102 ] الاحتكارية الربحية الجشعة التي تكون تارة سمة السلطة المركزية ومؤسساتها في الاشتراكية، وأخرى سمة الشركات الرأسمالية الكبرى في الأنظمة الليبرالية. ولعل مرض "جنون البقر" صورة من هـذه الصور البشعة لهذه العقلية، حيث ثبت علميا أن السبب الرئيس لهذا المرض يعود إلى تقديم دقيق الحيوانات الميتة المطحون كطعام للبقر الذي يصاب فيما بعد بالجنون.
ويكفي هـذا المثال للدلالة على أن النجاح الاقتصادي لا يتوقف على حسن التخطـيط والتسيير والإمـكانات المـادية والبشـرية فحسب، وإنما هـو مرهون أيضا بالمنظومة الخـلقية التي تبنى عليها العملية الاقتصادية.
وعلى الكفاءات الإسلامية المتخصصة في المجال الاقتصادي أن تبرهن على سمو التصور الاقتصادي في الإسلام، الذي يأمر بالقسط والعدل دون أن يكون ذلك على حساب الملكية الفردية ، اعتمادا على مبدأ «كل حسب جهده وبلائه وحاجته»، والتأكيد على قيمة العمل وكراهية العبد البطال، وعلى الروح التضامنية، من خلال اعتبار المال أمانة في أيدينا، للفقير والمحتاج حق فيها عن طريق الزكاة والصدقة، وهذا ما يقودنا إلى البعد الاجتماعي المهم.
[ ص: 103 ] وعلى المستوى الاجتماعي ينتظر المثقفين المسلمين دور كبير فيما يتعلق بموضوع الأسرة، والتعامل بين مختلف الأجيال، والعلاقة بين الرجل والمرأة، وهو موضوع بالغ الأهمية لما له من تأثير في بقاء المجتمع وسلامته. وليس خافيا على أحد ما وصلت إليه هـذه العلاقات من انسداد وتأزم بسبب غياب المرجعية الدينية أو فتورها، وطغيان المادية والفردية، وأزمة القيم، إلى حد أن الإنسان في الغرب لم يعد يشعر بالسعادة رغم ما يمتلك من أموال وثروات ووسائل ترفيهية وتقدم عمراني، الأمر الذي يفسر ارتفاع نسبة الجريمة ولجوء عدد من الشباب في ريعان العمر إما إلى الإدمان على المخدرات والخمر هـروبا من الواقع، أو إلى الانتحار لوضع حد لحياتهم التي لم يعد لها أي هـدف، وهو ما يعد خسارة كبرى لطاقات وموارد بشرية تمثل عدة الغد للمجتمعات الغربية.
وانطلاقا من أن الدين الإسلامي رحمة للعالمين، فإن الواجب الديني-الإنساني يقتضي المساهمة، قدر المستطاع، في إرجاع الثقة والأمل إلى نفوس الناس، وخاصة إلى الشريحة الشبابية التي يتأثر بها أبناء المسلمين. ذلك أن الخلفية التي يجب أن تصاحب المسلم الداعية وهو يرشد الناس إلى الخير، تبنى على النظرة المشفقة على البشر وليس على رغبة في الانتقام والتشفي.
[ ص: 104 ] وبهذه النفسية، يكون الدخول من الباب نفسه الذي ينفذون منه عادة للتهجم على الإسلام، وهو موضوع المرأة، وذلك عبر شرح وتحليل وتفكيك وضع المرأة الغربية الذي لا تحسد عليه، بهدف إجلاء حقيقة الفخ الذي نصب لها بتخطيط محكم حتى تتحول إلى بضاعة للإغراء، وإعادة الاعتبار للمرأة الإنسان التي كرمها الله سبحانه وتعالى في جميع الأحوال، وهي بنت وزوجة وأم وعجوز.
وإذا نجحت الكفاءات الإسلامية في توجيه الرأي العام الغربي نحو هـذا الهدف الأخير فحسب، تكون قد قدمت خدمة حضارية عظيمة للبشرية وللفكرة الإسلامية، ذلك أن تصحيح وضع المرأة يعني إنقاذ المجتمع بأسره، لأنه كما هـو معلوم، تمثل المرأة نصف كل مجتمع، ويتربى النصف الآخر على يديها. وهذه المسألة من التحديات الكبرى التي تطرحها العولمة الثقافية ذات النمط الغربي (الأوروبي-الأمريكي) السائد، أمام العقول الإسلامية.
ويرتبط بموضوع المرأة قضية التفكك الأسري الذي تعاني منه المجتمعات الغربية، وتقلص قيمة قدسية الحياة الزوجية. وبدون شك فإن الطرح الإسلامي الذي يؤمن بقدسية الحياة الزوجية المبنية على عنصري المودة والرحمـة، وما يعني ذلك من غرس قيم الحب
[ ص: 105 ] والتواصل والاحترام في نفوس الأجيال الصاعدة، يمكنه أن يعالج أزمة القيم فيما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وتقديم حلول لقضايا المجتمع المرتبطة أساسا بالمفهوم الشائع الخاطئ للحرية. ويبـرز ذلك في معضلتين تعانـي منهما المجـتمعات الغربية والمجتمعات المقلدة لنمط الحياة الغربية:
المعضلة الأولى: ظاهرة تزايد الجريمة والعنف. وبحجة عدم التعدي على حرية الفرد ومراعاة الظروف القصوى النفسية وغيرها للمجرم، أصبح بإمكان هـذا الأخير التعدي على حقوق المجتمع، لأنه يعلم أن العقاب الذي ينتظره لا يتجاوز السجن ولو لفترة طويلة. فانتشرت ظاهرة المجرمين الذين اعتادوا على الجريمة، لأنهم اعتادوا على السجن. بل إن من المعضلات الاجتماعية في الغرب اليوم، قضية الاعتداء الجنسي على الفتيات والأطفال، المصحوب أحيانا بالقتل العمد الذي لا يمكن وضع حد له إلا بالحزم. وقد ارتفعت أصوات عديدة تطالب بإعدام مرتكبي هـذه الجرائم، والجدل قائم حول مفهوم القصاص وعلاقته بحرية الفرد.
والتصور الإسلامي واضح في هـذه المسألة:
( ولكم في القصاص حياة ) (البقرة:179) ،
واعتبار ذلك شرطا لاستقرار المجتمع وأمنه:
( الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ) (قريش:4) .
[ ص: 106 ] والمسلمون بإمكانهم المساهمة في معالجة الانحراف الذي شاب مفهوم القصاص، عن طريق تصحيح مبدأ الحرية، المرتبط فـي جوهره بالمسألة العقائدية الإيمانية واستشعار الرقابة الدائمة من القوة المتصرفة في هـذا الكون.
المعضلة الثانية: تتمثل في انتشار ظاهرة الإباحية والفوضى الجنسية، وفي الوقت نفسه العمل على تطبيع المجتمعات الغربية مع الشذوذ والزواج بين الشواذ، حيث لم يكتف هـؤلاء بالمطالبة بحقوقهم والاعتراف بهم مثل المتزوجين العاديين، بل إنهم ينظمون المظاهرات الاحتجاجية على محاكمة الشواذ في البلاد العربية - الإسلامية مثلما حصل في مصر. ويبدو من خلال العديد من المؤشرات أن التيار المحافظ السائد لدى الرأي العام الغربي مستاء من ظاهرة الشذوذ.
ويمكن للمسلمين المقيمين في الغرب التحالف مع هـذا التيار بهدف غرس القيم التي تتفق والفطرة البشرية، والإقناع أن ظاهرة الشذوذ مرتبطة بالانحراف في فهم مبدأ الحرية وحدودها. ذلك أن التعريف المتداول هـو أن حدود الحرية شعارها: «حريتك تقف عندما تبدأ حرية الآخرين». وهذا الشعار يتضمن معنى مطاطيا قابلا للتأويل، كل حسب هـواه.
[ ص: 107 ] وبناء عليه، ظهر في هـذه المجتمعات من يدعو إلى الإباحية باسم الحرية، فيقول: «أنا حر في بدني أتصرف فيه كيف أشاء». فانتشرت الفوضى الجنسية، وظهرت أمراض جديدة مثل ( السيدا بالفرنسية/ الأيدز بالإنجليزية) ، الأمر الذي يتطلب تصحيحا مفهوميا لمبدأ الحرية، وضبطا للحقوق والواجبات والحدود، علما بأن القوانين الوضعية نفسها تعطي الحق للدولة أو السلطة التي تمثلها للتدخل من أجل منع الفرد من التصرف بالشكل الذي يكون خطرا على نفسه وعلى المجموعة.
والمسلمون قادرون -من خلال مفكريهم وباحثيهم ومؤسساتهم- أن يدعموا ما يتماشى من القوانين الصادرة عن البرلمانات الغربية مع فلسفة الإسلام في احترام كيان الفرد وحفظ المجتمع وبث قيم الخير والعدل. ويسجل في حالات عديدة مصادقة نواب برلمان هـذا البلد الغربي أو ذاك على قانون مثل منع شرب الخمر عند السياقة، أو منع ضرب النساء من طرف أزواجهن، والتحرش الجنسي فـي العمل، أو احترام الخصوصيات الثقافية للأقليات... وغيرها من القوانين والإجراءات التي تخدم الفكرة الإسلامية بصورة غير مباشرة، وتلتقي مع التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة.
[ ص: 108 ] ومما ييسر هـذا التفاعل طبيعة هـذا الدين وخصائصه، والتي من بينها الواقعية والشمولية والإنسانية.
وفي المقابل، يمكن أن يشكل المسلمون عنصر ضغط لمنع الإجراءات والقوانين الوضعية عندما تكون خاضعة للأهواء ولموازين قوى سياسية وأيديولوجية ، والتي تستهدف القيم الإنسانية، بالتعاون مع الأطراف الجادة الدينية والمثقفة.
وعلى المستوى الثقافي فإن المجتمعات الغربية تعطي أهمية كبيرة للناحية الفنية الجمالية والتعبير عنها بأساليب وفنون عدة مثل المسرح والسينما والموسيقى والأدب.. وفي غياب وضوح الرؤية والمرجعية الفكرية المحددة، اتسمت بعض المحتويات المقدمة بسطحية في الموضوع وفي منهجية تقديمه عبر إثارة الغرائز الحيوانية أو العدوانية لدى الإنسان، مثل النعرات العرقية- العنصرية، وكراهية (الآخر) ، واستعمال وسائل الصخب والتهريج للتعويض عن الخواء الروحي، وتفشت ظاهرة «النجومية» التي تتعلق بها الأجيال الصاعدة إلى حد التقديس، خاصة في مجالي الرياضة والموسيقى.
والباب مفتوح أمام المسلمين لتقديم بدائل في المجال الفني تساهم في الارتقاء بوعي الإنسان، وترسيخ قيم الخير والاستقامة لدى الفرد والمجتمع. وليس بالضرورة أن تحمل كل هـذه البدائل لافتة إسلامية،
[ ص: 109 ] والأهم هـو التعبير عن الفكرة الإسلامية والقيم الإنسانية التي تتضمنها، والخروج من النظرة الضيقة التي تحصر المجال الفني الجمالي في دائرة الحرام والحلال.
فقد بقي الخلاف قائما إلى يومنا بين المسلمين حول هـذا الموضوع، واستغلت التيارات العلمانية الحاقدة على مشروع النهوض الإسلامي هـذا الفراغ، فقامت بتسريب سمومها إلى الشباب، ووجدت الدعم من جهات غربية حريصة على انتشار هـذا الصنف من الفن فـي صفوف أبناء المهاجرين، بل إن صداها وصل إلى البلاد الإسلامية.
و ما تزال المحاولات الفنية الإسلامية في حاجة إلى تطوير بترشيد فقهي تأصيلي، حتى تكون فـي مستوى تطلعات الأجيال الجديدة التي تهوى الفـنون بجميع أشـكالها (القصة، الرواية، السينما، المسرح، الموسيقى..) .
وبفضل ما يملك المسلمون من تراث فني عريق (خاصة في المجال المعماري كما تشهد على ذلك
الأندلس ، والخط العربي الذي يجد اهتماما عالميا) ، يمكن أن تطور الكفاءات المسلمة العطاء الفني الإسلامي ذي البعد الإنساني العالمي، من خلال استراتيجية واضحة تقوم على نظافة الغاية ونظافة الوسيلة.
[ ص: 110 ] أما على المستوى السياسي فإن الكثير من المحللين يتفق على أن الديمقراطية على الطريقة الغربية ليست النظام السياسي المثالي لكل البشر. فقد تكون صالحة للمجتمعات الغربية ولكنها ليست بالضرورة صالحة لمجتمعات أخرى؛ لأنها ثمرة تفاعلات وصراعات وفلسفات من رحم المجتمع الغربي بخصوصياته. ثم إن الواقع أثبت وجود العديد من الثغرات والسلبيات في تطبيق هـذا النظام في البيئة التي نشأ فيها، خاصة في المسائل المتعلقة بالتمثيل النسبي واحترام حقوق الإنسان والأقليات، والأخلاقية السياسية والنظام الحزبي.
وبناء عليه، فإن الطرح الإسلامي يقدم تصورات بإمكانها أن تخرج الديمقراطية على الطريقة الغربية من السلبيات التي تتسبب في إعاقة النشاط السياسي، وزهد نسبة من الرأي العام الغربي في الحياة السياسية. «فإن علاقة الحاكم بالرعية يحكمها فـي الإسـلام مبدأ الشورى، ولا تخضـع لأية علاقة بالمعنى الثيوقراطي ، أي أن الحاكم ظل الله في الأرض، وغيرها من التصورات التي لا يقر بها الإسلام. والشورى ليست شعارا يرفع، وإنما مبدأ للتطبيق على أرض الواقع، بما يعنيه من حق الاختلاف في الرأي والمعارضة وواجب الالتزام برأي الجماعة أو الأغلبية، دون أن تنتهك حقوق الأقلية. أما الشـكل
[ ص: 111 ] الذي تتم به الشورى فليس فيه نص واضح، ومتروك للاجتهاد لترجيح ما يلائم كل عصر»
>[3] . ويحتاج مبدأ الشورى إلى مزيد من التوضيح والتعميق والتأصيل ليكون مقبولا من المجتمعات الغربية.
ثم إنه يلاحظ تزايد دور المجتمع المدني في المجتمعات الغربية من جمعيات ومنظمات ونقابات تهتم بالشأن العام خارج المؤسسة السياسية الرسمية. والتراث السياسي الإسلامي يزخر بهذا الدور نفسه فيما يسمى بـ"المجتمع الأهلي".
كما أن العلاقات الدولية تحتكم في التصور الإسلامي إلى مبادئ وقيم ثابتة في إطار احترام التعدد الثقافي والسياسي، وتقارب الشعوب وتعارفها:
( يا أيها الناس إنا خلقنـاكم من ذكر وأنثى وجعلنـاكم شعوبا وقبائل لتعـارفوا إن أكرمكم عند الله أتقـاكم ) (الحجرات:13) .
من خلال ما تقدم، يتأكد ما قاله بعض الملاحظين الغربيين: إن الإسلام من حظه أن يتفاعل مع الفضاء الغربي، ومن حظ الغرب أن يوجد فيه الإسلام لكي يكون بابا للخير، بما يوفره من قيم ورسالة حضارية؛ وإن الكفاءات المسلمة هـي كالغيث النافع، حيث يمكنها أن تكون مفتاحا للخير حيثما كانت.
[ ص: 112 ]