معالم تجديد المنهج الفقهي (أنموذج الشوكاني)

حليمة بوكروشة

صفحة جزء
المقدمة الأولى: الخلفية التاريخية لواقع الفقه الإسلامي

إن التتبع التاريخي للحركة الفقهية يرسم لنا خطا بيانيا كثير المنحنيات الشاهدة على أدوار البعث والانحسار المتعاقبة على هـذه الحركة، وعلى الوعي الشامل لدورها في الحياة. فلقد مر الفقه الإس-لامي بأدوار مختلفة كان في ذلك أشبه بغيره من العلوم فيما يعرض لها من النهوض والانتعاش حينا، والانكماش والانحسار حينا آخر، وذلك تحت تأثير العوامل التي تحيط برجاله في كل عصر من عصوره. فإذا ما استثنينا [ ص: 29 ] عصر البعثة الذي كان عصر بناء وتأسيس للتشريع الإسلامي، نجد أن الفقه الإسلامي قد تطور في عصر الصحابة بفعل ظهور مشكلات ونوازل جديدة في واقع المسلمين، خاصة بعد انتشار الإسلام في بلاد مختلفة الثقافات والعادات، فاتسع بذلك نطاق الاجتهاد الفقهي ليشمل كثيرا من القضايا السياسية والإدارية والمالية، الأمر الذي وسمه بالواقعية، وأبعده عن الافتراض النظري للمسائل والأحكام >[1] .

أما عصر التابعين، فقد شهد حركة حضارية وعلمية ودعوية أثرت تأثيرا بالغا في تطور الحياة الفقهية. فقد ساعد الاحتكاك الحضاري بين المسلمين والشعوب التي دخلت الإسلام، وتفرق الصحابة في الأمصار، وشيوع رواية الحديث على اتساع دائرة البحث الفقهي، وعلى ظهور اتجاهات فقهية عديدة، شكلت مدارس فقهية في مختلف العواصم الإسلامية؛ كمدرسة الكوفة والمدينة ومكة والشام ومصر واليمن >[2] .

غير أن الملاحظ هـو بروز عامل جديد أثر في طبيعة الإنتاج الفقهي في هـذا العصر، وفي العصور التي تلته تمثل في الصراع بين الفقهاء وحكام بني أمية >[3] ، ومرجع هـذا الصراع هـو تحول نظام الحكم في العالم الإسلامي [ ص: 30 ] من الخلافة إلى الملك، فتقلص دور الفقيه المباشر في إدارة شئون الدولة والمجتمع، الأمر الذي أدى إلى توسع الدراسات الفقهية في جانب العبادات والمعاملات أكثر منه في الجانب السياسي والاقتصادي والإداري... وهذا لا يعني أن التشريع الإسلامي قد أقصي عن إدارة الحياة العامة، فكل المجالات السالفة ذكرا كان يحكمها الإسلام، ولكن البحث الفقهي النظري قد تطور أكثر في المساحات أو الموضوعات التي لم تكن محل صراع بين الفقهاء والحكام >[4] .

والخلاصة أن عصر التابعين شهد تشكل بذور إحدى أزمات الفقه الإسلامي وهي: انكماش الفقه من الناحية الموضوعية.

ثم تلى عصر التابعين عصر نشأة المذاهب الإسلامية الكبرى في أوائل القرن الهجري الثاني، وانتهى في منتصف القرن الرابع، وكان هـذا العصر أزهى عصور الاجتهاد الفقهي بفعل ثلاثة عوامل أساسية >[5] :

- العامل السياسي فقد كانت بداية هـذا العصر بداية قيام الدولة العباسية، هـذه الدولة التي قرب خلفاؤها الفقهاء، وأحضروهم مجالسهم العلمية، وطلب بعضهم من بعضهم وضع قوانين مستمدة من الكتاب [ ص: 31 ] والسنة؛ لتسيير بعض القطاعات العامة، كما فعل هـارون الرشيد ؛ إذ طلب من أبي يوسف وضع كتاب ينظم من خ-لاله الحياة الاقتصادية، فألف رحمه الله كتاب: الخراج. تعرض فيه لكل ما يتعلق بجباية الأموال.

وهذا الاتصال بين مؤسستي الحكام والعلماء ساهم في نمو الفقه ومشاركة الفقيه في وضع اللبنات الأساسية في بعض الدوائر الفقهية التي استأثرت بها السلطة الحاكمة؛ كالاقتصاد أو النظام المالي.

- العامل الاجتماعي امتاز عصر نشأة المذاهب من الناحية الاجتماعية باحتكاك أناس من مختلف الثقافات والحضارات، وكان لهذا التبادل المعرفي والثقافي أثر في إنضاج العقل الفقهي، وتمكينه من استخراج المسائل، ووضع الضوابط العامة للفروع الفقهية المتباينة. كما نتج عن هـذا الاحتكاك الحضاري والتفاعل الاجتماعي كثرة الوقائع وتنوعها، ومن ثم اتساع دائرة الاجتهاد في كل أبواب الفقه.

- العامل العلمي شهد هـذا العصر تدوين العلوم الشرعية المختلفة، ولعل أهم العلوم التي دفع تدوينها حركة الاجتهاد الفقهي هـي علوم الحديث، وعلم أصول الفقه. فقد دونت السنة النبوية في هـذا العصر تدوينا علميا منهجيا يقوم على قواعد دقيقة، وكان من أثر ذلك أن أصبحت أدلة الأحكام من السنة ميسورة للفقهاء. كما دون علم أصول الفقه ليكون قانونا يحكم العملية الاجتهادية.

بتلاحم هـذه العوامل الثلاثة، خلف الاجتهاد الفقهي في هـذا العصر [ ص: 32 ] تراثا ضخما في شتى مجالات الحياة الإنسانية، كما جعلت من فقه الأئمة المجتهدين فقها اجتهاديا واقعيا يقوم على ركيزتين:

الأولى: تقرير الأحكام باستخلاصها من أصول معرفة الوحي.

الثانية: صياغة هـذه الأحكام بما يعالج مجريات الواقع في البيئات التي كانوا يعيشون فيها عن طريق فقه التن-زيل >[6] ، إذ اعتمدوا في سبيله بعض الأصول الاجتهادية ذات الصلة الوثيقة بالواقع مثل: المصالح المرسلة ، الاستحسان ، العرف وغيرها >[7] ، فكان منهج الاستنباط عندهم يقوم على الثنائية التالية:

النص الشرعي (محل استنباط الحكم) ، والواقع العملي (محل تن-زيل الحكم) . ومن هـنا لم يعرف منهجهم الاجتهادي التقرير المجرد للأحكام.

إلا أن إشكالية انكماش الفقه من الناحية الموضوعية التي ظهرت بذورها في عصر التابعين قد تبلورت بشكل أكثر وضوحا في هـذا العصر؛ إذ فضل فقهاء هـذا العصر -الذين قادوا الأمة علميا- عدم الاصطدام المباشر والعنيف بالنظام القائم >[8] ما دام الإسلام حاضرا في المجتمع؛ تشريعا وقضاء. من هـنا عالج العقل الفقهي في هـذه المرحلة جميع [ ص: 33 ] القضايا الفردية والجماعية، وترك ثروة ضخمة في كل أبواب الفقه، لكن إنتاجه في الفقه السياسي والاقتصادي والدولي كان أقل توسعا، بالنسبة إلى فقه العبادات والمعاملات، كما ونوعا.

ولقد لاحظ هـذا الأمر كثير من الباحثين؛ منهم الدكتور عبد الرزاق السنهوري في كتابه: فقه الخلافة. إذ أشار إلى أن القانون العام -الدستوري، المالي، الدولي- في الفقه الإسلامي أقل تطورا من القانون الخاص -المعاملات، شئون الأسرة، القضاء- وأنه لا يزال في مراحله الأولى. وأرجع ذلك إلى قيام أنظمة متعاقبة في التاريخ الإسلامي تقمع أي حركة فقهية تريد إقامة أصول الحكم على أسس من الحرية السياسية. أما القانون الخاص فقد تقدم تقدما كبيرا؛ لأن هـذه الأنظمة لم يكن يضيرها تقدمه

>[9] .

ثم تلى عصر نشأة المذاهب الإسلامية عصر التقليد، فقد جدت في العالم الإسلامي بعد منتصف القرن الرابع الهجري عوامل سياسية وعلمية واجتماعية، جعلت مبدأ التقليد يحل محل الاجتهاد في المنظومة الفقهية؛ إذ ابتعد الفقهاء عن الاستقلال الفكري-على تفاوت بينهم- وانتظموا في المذاهب الفقهية الموروثة، وعكفوا على نشر آرائها والدفاع عنها.

وكان في مقدمة تلك العوامل: انقسام العالم الإسلامي إلى دول [ ص: 34 ] متناحرة، والجهود العملاقة التي بذلها تلامذة الأئمة في دراسة وإذاعة آراء أئمتهم، ومن ثم تأصيل الثقة بهم والتقليد لهم، ودخول ميدان الاجتهاد الفقهي من لم يكتسبوا المؤهلات العلمية لذلك، الأمر الذي دفع ببعض أهل العلم في أواخر القرن الرابع بالحكم بغلق باب الاجتهاد >[10] . ولقد ميز كتاب تاريخ التشريع الإسلامي بين فترتين في عصر التقليد: الفترة الأولى: وهي الفترة التي سبقت سقوط بغداد على يد المغول سنة 656هـ-. وقد انحصر نشاط الفقهاء في هـذه الفترة في خدمة الفقه المذهبي عن طريق تعليل الأحكام التي قال بها الأئمة لتوظيفها في عملية التخريج، التي اعتبرت أهم عناصر المنهج الفقهي في هـذا الدور. والتخريج : تطبيق العلل المستنبطة من الأحكام التي قررها الأئمة المجتهدون على الأفعال الجزئية الحادثة دون حاجة إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة. كما اعتنى الفقهاء في هـذه الفترة بالترجيح بين الآراء في المذهب الواحد، وبدراسة علم الخلاف بين الفقهاء، وبوضع القواعد الكلية التي تندرج تحتها الأحكام الفقهية، كل هـذا في إطار التعصب لأئمة المذاهب والدفاع عن آرائهم >[11] . [ ص: 35 ]

إن الدراسة الموضوعية لهذه الفترة تكشف أن السبب في العزوف عن الاجتهاد المستقل، والتزام المذاهب المعروفة هـو أن التطورات التي حدثت في واقع الناس وأفكارهم في هـذه الحقبة الزمنية، كانت تطورات جزئية وبسيطة بسبب توقف المد الحضاري، ومن ثم مكن تعدد آراء الفقهاء واجتهاداتهم في إطار كل مذهب من تغطية الحوادث المستجدة >[12] . كما تلزمنا النظرة الموضوعية لإنجازات الفقهاء في هـذه الفترة أن نؤكد أن الفقهاء قدموا -رغم غياب الاجتهاد المستقل وشيوع التقليد- خدمة جليلة للفقه المذهبي عن طريق تعليله وتنظيمه وترتيب أبوابه وفصوله، الأمر الذي حفظ لنا تراث الأئمة المجتهدين، ونماه. لكن، وفي المقابل، تكشف لنا الدراسة النقدية للفترة ذاتها عن ظهور خلل جديد في المنظومة الفقهية، إضافة إلى الخلل السابق -انكماش الفقه من الناحية الموضوعية- تمثل في: اختلال منهج الاستنباط والاستدلال، وقد تجلى هـذا الخلل في مظهرين: المظهر الأول: الاستنباط من نصوص أئمة المذاهب

إن اعتماد فقهاء هـذه الفترة مبدأ التخريج جعل مصدرهم الأول في استنباط الأحكام هـي نصوص إمام المذهب المتبع، يقيسون عليها ما يجد من حوادث، وكأن هـذه النصوص هـي الأصول، إذ صار لفظ الإمام، كما قال [ ص: 36 ] القاضي عياض في ترتيب المدارك: ين-زل عند مقلده من-زلة ألفاظ الشارع. >[13] ، وأصبحت مصادر الأحكام هـي نصوص الفقهاء، وأقيم بذلك سد بين الأمة وبين نصوص الكتاب والسنة.

ولا شك أن مقارنة بسيطة بين قول أبي الحسن الكرخي الحنفي : كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مئول أو منسوخ. >[14] ، وبين قول أبي حنيفة إمام المذهب في من سبقه من الفقهاء: هـم رجال ونحن رجال. يظهر الانقلاب الجذري الذي مس المنظومة الاجتهادية في هـذا الدور.

هذا ولقد أثر هـذا الخلل الذي مس منهج الاستنباط في منهج التلقي أو التعليم، يقول محمد علي السايس : فبعد أن كان طالب الفقه يشتغل أولا بدراسة الكتاب ورواية السنة، صار في هـذا الدور يتلقى كتب إمام معين، ويدرس طريقته التي استنبط بها ما دونه من الأحكام، فإذا تم ذلك صار من الفقهاء >[15] كما أثر ذات الخلل في منهج التأليف الفقهي؛ إذ انحصرت حركة التأليف في اختصار كتب الأئمة المجتهدين، أو شرحها، أو جمع ما تفرق في كتب شتى >[16] . [ ص: 37 ]

المظهر الثاني: التقرير المجرد للأحكام

كانت عناية التراث الفقهي في هـذا الدور بتقرير الأحكام المجردة أكثر من عنايته بمنهج تنزيلها على الواقع، فطغى بذلك فقه الفهم على فقه التنزيل؛ سواء بالنسبة إلى الشق التطبيقي في هـذا التراث وهو الفقه، أو الشق التنظيري فيه وهو أصول الفقه. أما الفقه فقد تضخم فيه الجانب التقريري للأحكام المجردة، وضمرت فيه إلى حد بعيد الصلة بالواقع المعيش وملابساته العينية، وهكذا أصبح التقرير المجرد للأحكام منهجا للفقه طيلة القرون اللاحقة.

وأما أصول الفقه فقد توجهت العناية فيه إلى قواعد استنباط الأحكام من أدلتها، وأهمل بحث قواعد تنزيل هـذه الأحكام على الواقع؛ حيث نجد الأبواب التي أشبعت بحثا هـي تلك التي تخص الاستنباط، وأما ما يمكن أن يدفع إلى إنضاج فقه التنزيل فقد كان البحث فيه خفيفا؛ مثل الاستحسان والمصلحة والعرف >[17] ، فلم يعتن فقهاء هـذا الدور بتطوير هـذه الآليات، ولا بإعمال آليات جديدة. كما أن مبحث المقاصد ذا الصلة الوثيقة بفقه تنزيل الأحكام لم يخدم الخدمة الكافية قبل الشاطبي ، كما أنه آل إلى ضمور شديد بعده.

الفترة الثانية: امتدت من سقوط بغداد إلى ظهور مجلة الأحكام [ ص: 38 ] العدلية في أواخر القرن (13هـ) سنة 1293 هـ - 1876 م

>[18] . وكانت مرحلة ذات طابع تقليدي خالص، انقطعت فيها صلة الفقهاء بأمهات الكتب التي خلفها المتقدمون، التي تتعامل مع نصوص الوحي مباشرة في عملية الاستنباط. وتجلى التقليد أكثر ما تجلى في التأليف الفقهي، والتحصيل العلمي، والتقييم الدراسي.

أما التأليف: فقد اتجه الفقهاء نحو كتابة المتون، وتصنيف المختصرات التي تحتاج إلى شروح وحواشي

>[19] افتقدت عنصر الإبداع والتجديد؛ لأنها عاشت في دائرة المذهبية الضيقة، واهتمت بالمباحث الشكلية والمسائل الافتراضية.

ولقد أثر هـذا الأسلوب في التأليف على مستوى التحصيل العلمي؛ إذ انحصرت جهود طلاب الفقه في فهم الأسلوب، وحل العبارات والتراكيب >[20] ، فاشتغلوا بالألفاظ عن لب العلم ومضمونه، الأمر الذي أعدم فيهم مواهب الاجتهاد، وأسرهم في الحفظ الخالي عن الفهم الصحيح.

ومما عاق طالب الفقه عن اكتساب ملكة الاجتهاد انقطاع الصلة بعلماء الأمصار >[21] ؛ إذ حلت المطالعة المجردة محل التلقي المباشر كمنهج في التعليم. [ ص: 39 ]

أما التقييم الدراسي: فقد أصبح بفعل كثرة التصانيف في العلوم وأدواتها يركز على مدى حفظ الطالب للمسائل ولطرق تحصيلها. قال ابن خلدون : «اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم، والوقوف على غاياته كثرة التآليف، واختلاف الاصطلاحات في التعاليم، وتعدد طرقها، ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها، ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها، فيقع القصور ولا بد، دون رتبة التحصيل.» >[22] .

وضرب ابن خلدون لذلك مثلا بالمدونة في مذهب مالك، وما كتب عليها من الشروح التي اختلفت فيها طرق الكاتبين من علماء قرطبة، وبغداد، والقيروان، ومصر، فإن المتعلم كما قال: «لا يصل إلى بغيته من التحصيل، ولا يسلم له منصب الفتيا إلا إذا أحاط بهذه الطرق علما وميز بينها، مع أن أحكام طريقة واحدة منها يستنفد العمر.» >[23] .

أما في العصر الحديث فقد واجه العقل الفقهي أصعب تحد له في تاريخه الطويل؛ وهو استبعاد التشريع الإسلامي عن التطبيق؛ إذ تبنت المحاكم والهيئات التشريعية في الدولة العثمانية عام 1926م القانون المدني [ ص: 40 ] السويسري، فعطلت أحكام الشريعة الإسلامية كلها



>[24] ، وكان هـذا الإقصاء الذي مثل وجها ثالثا للأزمة الفقهية نتيجة لاستيلاء الحضارة الأوربية الغازية على أغلب أنحاء العالم الإسلامي في فترة ضعف الدولة العثمانية، فكان البديل التشريعي الأوربي ضرورة استعمارية مكنت للنفوذ الأجنبي في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ إذ حكم التشريع المستورد كل الواقع، إلا مساحات محدودة تتعلق بأحكام الأسرة وما يرتبط بها. >[25] .

ومما أنجح عملية إقصاء التشريع الإسلامي اختيار المؤسسة السياسية في البلاد الإسلامية أن تكون أداة المستعمر في فرض التبعية القانونية التي تلتها تبعية فقهية في النقل عن موسوعات الفقة الفرنسي في شرح قانون نابليون، وتبعية قضائية في الفهم والتفسير من خلال موسوعات الأحكام الفرنسية >[26] .

وهذا الواقع الجديد المفروض أقصى الفقه الإسلامي عن الحياة إقصاء شبه تام، كما ترك آثارا جد سلبية على العقل الفقهي على مستوى المنهج والإنتاج؛ فعلى مستوى المنهج: أقصي عنصر الواقع من المنظومة الفقهية التي اختزلت مصادرها في المتون والمختصرات.

أما على مستوى الإنتاج: فقد استمر العقل الفقهي في الاحتفاء المجرد [ ص: 41 ] غير الواعي بأقوال المتقدمين، بعد أن أصبح الواقع محكوما بغير التشريع الإسلامي.

والخلاصة هـي أن إقصاء الشريعة عن كثير من جوانب الحياة كان السبب الرئيس في توقف الفقه الإسلامي في هـذه المرحلة عن التجديد؛ ذاتيا وموضوعيا، حيث عجز عن تجديد مناهجه وأبنيته الداخلية ليستعيد فاعليته في الحياة الفكرية والتشريعية، كما عجز عن تجديد الواقع بإصلاحه وتطويره.

لكن؛ وبما أن تاريخ الفقه الإسلامي في عصر التقليد لم يعدم نماذج مستثناة من الخط العام أمثال: ابن تيمية ، وابن القيم ، والشاطبي ، والشوكاني وغيرهم، إذ نبذوا التقليد، ودعوا إلى الاجتهاد، وقادوا حركات تجديدية هـدفها بعث وإحياء الفقه الإسلامي ليحافظ على المكتسبات، ويواكب المستجدات، فقد خلفت دعوتهم هـذه صدى بالغا في العصر الحديث، وذلك بفعل التحول الجذري والتطور السريع الذي مس الواقع البشري، والمعارف الإنسانية، والاحتكاك الحضاري بين الأمم، فظهرت في هـذا العصر نهضة فقهية هـدفها التأكيد على قدرة الفقه الإسلامي على مواجهة الواقع، وامتلاكه نظريات في التشريع تزاحم النظريات الحديثة وتفوقها.

وقد تجلت هـذه النهضة الفقهية المعاصرة في مظاهر ثلاثة:

1 - الدعوة إلى الاجتهاد بسبب تغير أوضاع الحياة تغيرا جذريا، ونبذ التعصب المذهبي؛ لبناء عقلية فقهية تتساوى في نظرها المذاهب حرمة [ ص: 42 ] وتقديرا. فاستحدث في المؤسسات العلمية، مثل مؤسسة الأزهر، علم مقارنة المذاهب الأربعة، بهدف الموازنة بينها في الأدلة ومناهج الاستنباط والترجيح. كما استحدث علم تاريخ التشريع الإسلامي، ليقف الدارس على أطوار الفقه الإسلامي بجملته وما طرأ عليه من أسباب القوة والضعف >[27] .

2 - تقنين أحكام الشريعة الإسلامية الذي عد أول مظهر من مظاهر التجديد. وقد كانت عملية التقنين في هـذا العصر جهدا رسميا لبعض الدول، وجهدا فرديا من بعض الفقهاء أو المؤسسات الإسلامية. وأولى محاولات التقنين جاءت من الدولة العثمانية بإصدراها لمجلة الأحكام العدلية سنة 1293هـ على المذهب الحنفي ، ثم استتبعتها مشاريع أخرى في التقنين اعتمدت على المذاهب الفقهية المختلفة >[28] .

ولقد كانت حركة التقنين هـذه ذات أثر إيجابي في النهضة الفقهية المعاصرة؛ إذ ساعدت على تطوير منهجية جديدة استعان بها المشرع من ناحية، كما وسعت آفاق التعاون العلمي بين المذاهب المختلفة، وأبقت التفكير في تشريع إسلامي كامل أمرا قائما في ذهن الفقهاء >[29] . [ ص: 43 ]

3 - انتعاش حركة التأليف التي من أسبابها اقتحام الاتجاه العقلي المتطرف الساحة الفقهية متخذا من نقد النص الديني (الشرعي) ، أو تأويله -تأويلا منحرفا- سبيلا إلى الحداثة والتنوير.

وقد أثار الإنتاج الفكري لهذا الاتجاه مثل مؤلف: الشعر الجاهلي: لطه حسين، أو للمتأثرين بهذا الاتجاه مثل مؤلف: الإسلام وأصول الحكم: لعلي عبد الرازق، حمية دينية تجسدت في نشاط فقهي مكثف في مواجهة تلك الدراسات. فظهرت مؤلفات جادة في رسم منهج التعامل مع نصوص الشريعة، وفي فقه القانون العام عند المسلمين.

كما اتجه التأليف الفقهي نحو دراسة موضوعات الفقه المختلفة باعتماد منهج الموازنة بين المذاهب الفقهية، أو بين هـذه الأخيرة وبين النظريات القانونية الوضعية، كما اتجه نحو تجلية النظريات القانونية في الفقه الإسلامي مثل نظرية: البطلان، والضمان، والتعسف، وإخراج الموسوعات الفقهية التي تقدم الفقه الإسلامي وفق خطة منهجية دقيقة >[30] .

إن الاعتراف بهذه الجهود التجديدية لا يمنع من تسجيل ملاحظة هـامة على النهج العام للنهضة الفقهية المعاصرة؛ فالمتتبع للإنتاج الفقهي في هـذه المرحلة يلحظ أن هـذه النهضة قد استدرجت إلى معارك جانبية ساخنة، اختيرت فيها موضوعات فقهية شائكة كان الجمود فيها واضحا؛ [ ص: 44 ] كمعركة حرية المرأة، فمثل هـذه المعارك على أهميتها شغلت العقل الفقهي عن معركته الأساسية؛ التنظير الفقهي.

ذلك أن الرد على الشبهات التي أثارها الاتجاه العلماني، والحركة الاستشراقية الهادفة إلى الطعن في صلاحية التشريع الإسلامي للحياة عمل مهم، لكن إذا أخضعناه لفقه أولويات المرحلة، نجد أن الأولى كان صياغة منهج دقيق لتجديد بنية الفقه الإسلامي ومناهجه المختلفة بالتوازي مع خوض معركة الرد على الشبهات. والدليل على ذلك أن الطاقات العلمية التي نشطت على أيديها حركة التأليف الفقهي لم تشكل في الحياة الفقهية تيارا له منهجه وقواعده ورجاله وأنصاره، بل إن الأجيال التالية اهتمت بالإنتاج الكمي على حساب الإنتاج النوعي؛ فكثرت المؤلفات، وبقيت الدراسات الفقهية تعاني أزمة المنهج.

وفي ختام هـذه المقدمة المنهجية الأولى لموضوع البحث لا بد من التأكيد على أن العرض التاريخي والتحليلي لتاريخ الفقه الإسلامي يمكننا من تشخيص أزمة الفقه الإسلامي، التي تتكون من فروع ثلاثة:

1 - انكماش الفقه من الناحية الموضوعية.

2 - اختلال منهج الاستنباط والاستدلال في عصور التقليد.

3 - إقصاء التشريع الإسلامي من الحياة في القرن الأخير. [ ص: 45 ]

كما لا بد من التأكيد أن المنظومة الفقهية عبارة عن حلقات مترابطة، فأي خلل في أي حلقة يتعدى أثره إلى الحلقات الأخرى. وهذا يستدعي أن يكون مشروع تجديد الفقه الإسلامي مشروعا يتصف بالشمول، ويبتعد عن الجزئية، لأن الحل الجزئي قد يعطي نفسا لأي مشروع لكي يتعامل بمرونة مع بعض أجزاء الواقع، لكن لا يمكنه من تجاوز هـذا الواقع إلى واقع آخر يتحقق من خلاله الاستقلال الحضاري، فالتجاوز الحضاري، فالشهود الحضاري.

التالي السابق


الخدمات العلمية