المطلب الثاني: العوامل الذاتية
إن تفاعل العوامل الأربعة السابقة في ظل الأوضاع السياسية الاجتماعية والدينية الفكرية التي عايشها الشوكاني، واحتك بظروفها ساهمت في تفتيق عقليته الاستقلالية التجديدية. لكن السؤال المثار: ألم ترتبط ظاهرة التجديد عند الإمام الشوكاني بخصائص ذاتية؟
إن الدراسات السابقة التي اهتمت بفهم ظاهرة تميز الشوكاني -يمنيا وعربيا- في حقول المعرفة المختلفة كانت تميل في معظمها إلى تفسير الظاهرة الشوكانية بعوامل اجتماعية موضوعية، ومن ثم سجل الإهمال شبه الكامل للخصائص الذاتية لشخصية الشوكاني، الأمر الذي أنتج قصورا في فهم ظاهرة الإبداع والتجديد في فكر الإمام الشوكاني وفقهه، ذلك أن الفكر الإبداعي التجديدي لا يخضع لنواميس الحتمية الاجتماعية وقوانينها بصفة كاملة.
[ ص: 79 ] فظاهرة التجديد ظاهرة معقدة لا يتحكم فيها نوع واحد من المحددات، بل هـي نتاج لمجموعة من العوامل ينبغي توافرها حتى يمكن لجهد أي عالم أن يتوج بالتميز في دنيا العلم والمعرفة. فالأسرة والمحيط الاجتماعي والبيئة العلمية ما هـي إلا عوامل محدودة من بين عوامل كثيرة تصقل موهبة الفرد، وتساعده على كسب رهان الإبداع والتجديد في ميدانه العلمي. ثم إن تفسير ظاهرة التجديد في إطار البنى الاجتماعية، والظروف السياسية وحدها يطرح إشكالية هـامة وهي: لماذا لم نجد لتلك الظروف ذات التأثير المؤدي إلى التجديد عند معاصريه؟
من هـنا يتبين أن ريادة الشوكاني كانت حصيلة تفاعل جانبه الذاتي، ومحيطه الاجتماعي. ولا نكون مبالغين إذا قلنا: إن الجانب الذاتي للإمام كان له الدور الحاسم في ميلاد عقليته التجديدية. والذي يؤكد هـذه القناعة العوامل الآتية:
أولا: صفاته النفسية
تميز
الإمام الشوكاني بصفات نفسية جعلته ذا أفق معرفي رحب، واهتمامات علمية واسعة حررته من الانغلاق الفكري والاهتمام الجزئي، وأهلته لحمل قضايا أمته الفكرية والاجتماعية، والثبات في ميدان الصراع والتحدي لفرض نـموذج تجـديدي إصلاحي؛ لإعادة تكوين عقلية المسلم وحياته.
[ ص: 80 ]
فإذا كان التفوق في أي مجال من مجالات الحياة -لا سيما المجال العلمي- مرتبطا بالهمة العالية والثقة بالنفس، فلقد ظهر هـذان العنصران في شخصية الشوكاني في سن الطفولة، فقد كان كما حكى عن نفسه: حال صغره يلعب مع الصبيان، وكان يمر به جماعة قد صاروا في السن فوقه، وقد صاروا يطلبون العلم... فيعدلون إليه ويقولون له: أنت ابن القاضي فلان، نحن نطلب العلم وأنت تلعـب مـع الصبيان. فيقول لهم: أنا إن شاء الله أطلب العلم طـلبا لم تطلبوه.
>[1] . ويلاحظ من هـذه الإجابة بروز عنصر التقويم الذاتي لقدراته واستعداداته وهو بعد طفلا. وهذا عنصر هـام في نسقه التعليمي أفرز عناصر أخرى هـامة كالجد فـي طلب العلم، وطـول النفس فـي الدفاع عن قناعاته العلمية.
كما تميز
الشوكاني بقدرة ذكائية تفوق الحد المتصور لعامة الأطفال في سن الشروع في طلب العلم، يبرز ذلك في طبيعة الأسئلة التي كان يطرحها على والده القدوة العلمية الأولى التي تأثر بها. فقد سأله وهو طفل صغير يحفظ القرآن في الكتاب عن أعلم شخص بالديار اليمنية إذ ذاك، فأجـابه والده:
عبد القادر بن أحمد الكوكباني >[2] تلميذ العلامة
محمد بن إسماعيل الأمير . ولقد تتلمذ عليه الإمام الشوكاني فيما بعد،
[ ص: 81 ] وكان هـذا العالم حلقة وصل بين الأمير والشوكاني، وعنصر توريث للخط الإصلاحي التجديدي.
كما وجد الشوكاني نفسه في سن مبكر منساقا بفطرته السليمة إلى التفكير في أسباب اختلاف الفقهاء في مسائل الفقه، ومن هـو الأجدر من أئمة المذاهب باتباع أقواله من غيره كما حكى ذلك عن نفسه حيث قال: «إنـي لما أردت الشروع في طلب العلم، ولم أكن إذ ذاك قد عرفت شيئا منه، حـتى ما يتعلق بالطهارة والصلاة إلا مجرد ما يتلقاه الصغير من تعليم الكبير لكيفية الصلاة والطهارة ونحوهما، فكان أول بحث طالعته بحث كون الفرجين من أعضاء الوضوء في: الأزهار، وشرحه. فلما طالعت هـذا البحث قبل الحضور عند الشيخ رأيت اختلاف الأقـوال فيه، فسـألت والدي رحمه الله عن تلك الأقوال: أيها يكون العمل عليه؟ فقال: يكون العمل على ما في: الأزهار. فقلت: صاحب الأزهار أكثر علما من هـؤلاء؟ قال: لا. قلت: فكيف كان اتباع قوله دون أقوالهم لازما؟ فقال: اصنع كما يصنع الناس، فإذا فتح الله عليك فستعرف ما يؤخذ به وما يترك. فسألت الله عند ذلك أن يفتح علي من معارفه ما يتميز لي به الراجح من المرجوح»
>[3] .
من هـنا كان السؤال الذكي والمناقشة المنطقية للجواب غير المقنع مؤشرا هـاما يدل على استعداد
الشوكاني الذاتي للاجتهاد والتجديد.
[ ص: 82 ] ثانيا: منهجه في طلب العلم
لم يخضع
الإمام الشوكاني حياته التعليمية خضوعا تاما للمنهج التعليمي السائد في مجتمعه، فقد عمد بعد التزامه بما هـو معروف في التقليد التعليمي الإسلامي من حفظ القرآن الكريم ومختصرات علوم اللغة والفقه إلى صياغة منهجية علمية دقيقة في طلب العلم جعلته ينبغ في فنون عديدة في سن مبكرة، كما جعلت منه مفتيا وقاضيا لأهل بلده وللأمصار المجاورة، بل بلغت به مرتبة الاجتهاد المطلق في الأصول والفروع وهو دون الثلاثين.
وقد تمثلت معالم هـذه المنهجية في العناصر الآتية:
1 - حفظ القرآن الكريم
حفظ
الشوكاني القرآن الكريم في سن مبكرة، وجوده على مشايخ القراءات في صنعاء
>[4] . وهذه خطوة بالغة الأهمية في مسيرة طالب العلم الشرعي؛ لأن القرآن الكريم قاعدة ومصدر كل العلوم الشرعية، فحفظه يسهل على الطالب استيعاب الفن المدروس، وربط المسائل بأدلتها، ومن ثم استحضار جزئيات المسألة وفروعها.
2 - حفظ المختصرات في مختلف العلوم
عكف
الشوكاني قبل الشروع في طلب العلم على حفظ المختصرات في مختلف العلوم
>[5] . وحفظه لهذه المادة العلمية المتنوعة ساعده على سرعة
[ ص: 83 ] فهمها، واستيعاب جزئياتها في مرحلة القراءة على الشيوخ. كما سهلت عليه أمر التعلم الذاتي في مراحل عمره التالية بعد أن امتدت جذور محفوظاته في أعماق تربة ذاكرته، كما زودته برصيد معرفي خام استثمره لاحقا في الدرس والتدريس والشرح والتأليف.
3 - مطالعة كتب التواريخ ومجامع الأدب
كان
الشوكاني قبل مباشرته لطلب العلم كثير المطالعة لكتب التواريخ
>[6] . ولقد عوضته هـذه المطالعة المكثفة ولو بشكل جزئي عن الرحلات، وما تفرزه من انفتاح فكري واجتماعي لدى طالب العلم، إذ أنه لم يرحل عن اليمن لطلب العلم لعدم إذن أبويه له.
ولقد مكنته هـذه المطالعة التاريخية من الوقوف على سنن الله تعالى في قيام الأمم والدول والحضارات، فانعكس ذلك على معالجته الفقهية لقضايا المجتمع؛ إذ اتبع منهج استقراء سنن الله الاجتماعية وارتباطها بشكل حتمي بتطبيق شريعة الله والانحراف عنها، كما أهلته سعة اطلاعه على أخبار البلاد والأحداث التاريخية أن يكون علما بارزا في مدرسة كتابة التاريخ، التي أنجبتها حركة التجديد والإصلاح في اليمن، وذلك من خلال كتابه: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع. الذي برز فيه حسه التاريخي، وقدرته على جمع المعلومات وترتيبها وتحليلها ومناقشتها، والخروج عن ظاهرة القطرية في كتابة التاريخ، والاهتمام بتسجيل ومتابعة ما يدور من أحداث في الوطن العربي والعالم الإسلامي.
[ ص: 84 ]
ومن مطالعات الشوكاني أيضا، قبل شروعه في طلب العلم مجامع الأدب
>[7] ، التي منحته القدرة على فهم واستعمال أساليب اللغة العربية المختلفة، كما أورثته ملكة التحرير والتأليف.
4 - دراسة الكتاب الواحد على أكثر من شيخ
إن من منهج الشوكاني في طلب العلم دراسة المتن الواحد في فن من الفنون على أكثر من شـيخ. فقد قرأ على سبيل المثال شرح الناظري لمختصر العصيفري في الفرائض على والده، وعلى: أحـمد بن محمد الحرازي (1158هـ / 1227هـ) ، كما قرأ شرح الأزهار للإمام المهدي على والده، وعلى: أحـمد بن عامر الحدائي (1127هـ/ 1197هـ) ، وعبد الرحمـن بن قاسـم المداني (1121هـ/ 1211هـ) ، والقاسـم بن يحيى الخـولاني (1162هـ / 1209هـ) ، كما قرأ كتاب: الأزهار، نفسه وحواشيه على: أحمد بن محمد الحرازي ثلاث مرات. وعلق الشوكاني على هـذه القراءة قائلا: الدفعتين الأوليين اقتصرنا على ما تدعو إليه الحاجة، والدفعة الثالثة استكملنا الدقيق والجليل من ذلك مع بحث وتحقيق
>[8] .
إن هـذه القراءات المتكررة على عدة شيوخ جعلت الشوكاني فقيها واعيا مستوعبا لأهم مرجع في الفقه الهادوي الزيدي في القطر اليمني «كتاب
[ ص: 85 ] الأزهار»، الأمر الذي أهله لتصنيف آخر دراسة نقدية له بعد سلسلة الدراسات التي أقامها رواد تيار التجديد والإصلاح في اليمن.
لقد جنبت هـذه السياسة التعليمية -تعدد الشيوخ-
الإمام الشوكاني مساوئ التلقي عن أستاذ واحد، والتي أخطرها ذوبان شخصيته في شخصية الشيخ، فيصير له مقلدا، ولآرائه متعصبا؛ ذلك أن تعدد الشيوخ يكسب الطالب العقلية التحليلية النقدية بفضل المقارنة بين دروسهم في منهجي الإلقاء والتحليل.
والحاصل أن كثرة الشيوخ يوجد حوارا مستورا في عقل الطالب ابتداء، ثم حوارا مكشوفا بينه وبين شيوخه، فيتلقى من كل شيخ جوابا على سؤاله مختلفا عن غيره.
ومثل هـذا الحوار والنقاش يفتق ذهن الطالب، ويوسع أفقه، ويثري معرفته، ويكشف عن زوايا النقص عند هـذا، ونقاط القوة عند ذاك. فيتسع عقل الطالب وقـلبه لاتفاق الناس واختلافهم فلا يحجر واسعا، ولا يضيق صدره بمخالفيه ما دام رأيه يرتكز على دليل ناهض تقوم به الحجة.
5 - ممارسة التعليم الذاتي
تعلم
الإمام الشوكاني علوما دقيقة ذاتيا من غير معلم، وعلمها تلاميذه فيما بعد؛ كعلم الحكمة الذي منه العلم الرياضي والطبيعي والإلهي، وكعلم الهيئة، وعلم المناظرة، وعلم الوضع، وغير ذلك
>[9] . وإذا
[ ص: 86 ] حاولنا تفسير هـذا الاختيار التعليمي تفسيرا تربويا أكاديميا، نقرر أن الإمام الشوكاني حرص على استيفاء الفنون التي لا يغطيها المنهج الدراسي المقرر في المؤسسات العلمية في مجتمعه، فالراجح أن هـذه العلوم لم تكن تدرس، إذ لو كانت تدرس لدرسها على المشايخ. ويؤكد هـذا الاستنتاج حديث الشوكاني عن تدريسه لأحد تلاميذه الهنود -وقد كان طبيبا ماهرا- في علم الحكمة الإلهية، وأنه كان يفهم ذلك فهما جيدا مع أن الموضوع في غاية الدقة والخفاء: بحيث كان يحضر جماعة من أعيان العلماء العارفين بعدة فنون فلا يفهمون غالب ذلك
>[10] .
إن ممارسة الشوكاني لمبدأ التعلم الذاتـي جـعل رحلته التعليـمية لا تقتصر على الإعداد العلمي الأكاديمي وحده، بل تمتد إلى الجوانب الثقافية المختلفة، الأمر الذي وسع أفقه المعرفي، ومـكنه من ملاحـقة الجـديد فيما يدرس من علوم.
6 - التدريس لرفقاء التعلم
كان الشوكانـي في فترة قراءته نفسها على الشيوخ يدرس ما تلقى من دروس لرفقاء التعلم
>[11] ، وهذا أسلوب من أساليب مراجعة المادة المدروسة، وطريقة مثلى في تثبيت المعلومات عن طريق إعادة عرضها
[ ص: 87 ] وشرحها لغيره. كما أنه وسيلة من وسائل تقييم الطالب لنفسه والوقوف على درجة استيعابه وفهمه للمادة، ومدى قدرته على توصيفها وتوصيلها ومناقشة الإشكاليات المطروحة حولها.
كما مثل هـذا المعلم (التدريس للرفقاء) أسلوبا من أساليب الإعداد المهني للشوكاني مدرسا. فقد اكتسب مهارات مهنية أهلته لممارسة مهنة التدريـس، بل والتفرغ لها بعد انتهاء مرحـلة الطلب، إذ كان الطلبة يأخذون عنه في كل يوم زيادة على عشرة دروس في فنون متعددة. ومن دلائل نجاح مهمته التعليمية أنه خلف عددا كبيرا من التلاميذ، أسندت إليهم مناصب راقية في مجال القضاء والإفتاء والتدريس والإدارة والعمل السياسي، ونجح في أن يكون منهم تيارا يدعو إلى الاجتهاد، وينبذ التقليد.
7 - ملازمة بعض الأساتذة في تخصص معين
من منهج الشوكاني في طلب العلم ملازمته لشيخ من الشيوخ في تخصص معين مدة طويلة حتى يستوفي ما عنده؛ فقد لازم
أحمـد بن محمد الحرازي (1158هـ / 1227هـ) الذي كان شيخا في الفروع، ومحققا لها ثلاث عشرة سنة وتخرج عليه فيها
>[12] . وهنا تبرز مراعاة الشوكاني لعنصر الكفاءة في اختيار شيوخه، وحرصه على أخذ كل فن من الفنون عن المتخصصين والبارعين فيه، كما تكشف ملازمته لمثل هـذا
[ ص: 88 ] الأستاذ سنوات طويلة عن حرصه على إتقان الفن، وعلى استيفاء كل ما عند شيخه من علم؛ ليصبح بعدها عمدة في هـذا التخصص، ومرجعا معتبرا فيه.
8 - اعتماد أسلوب المناظرة مع كبار العلماء
جلس
الشوكاني للدراسة علـى
الشـيخ عـبد القـادر بن أحـمد (1135هـ / 1207هـ) ، وقد وصف شيخه بأنه: المحدث الحافظ المسند المجتهد المطلق المتبحر في جميع المعارف العلمية. ولقد أقر له بالتفرد في جميع أنواع العلوم بعد موت
العلامة محمد بن إسماعيل الأمير . وكان الإمام الشوكاني حين جلوسه للتلقي عن هـذا الشيخ قد بلغ مكانة علمية مرموقة أهلته لتولي الإفتاء
>[13] ؛ فقد امتلك أدوات العلم، وبنى قاعدة صلبة في شتى العلوم، لذا اختار أن تكون دراسته على هـذا العالم في شكل مناظرات ومطارحات لا شكل إلقاء وتلقين، وقد نمى هـذا الأسلوب التعليمي عند الشوكاني قدرة فائقة على التحليل والنقد، كما شجعه على خوض غمار البحث العلمي والإنتاج الفكري، إذ توجت جل تلك المناظرات برسائل علمية قيمة. ولقد وصف
الشوكاني هـذا المنهج قائلا: «وكانت القراءات جميعها يجري فيها من المباحث الجارية على نمط الاجتهاد في الإصدار والإيراد ما تشد إليه الرحال، وربما انجر البحث إلى تحرير رسائل مطـولة، ووقع من هـذا كثير، وكنت أحرر ما يظهر لي في
[ ص: 89 ] بعض المسائل وأعرضه عليه، فإن وافق ما لديه من اجتهاده في تلك المسألة قرظه تارة بالنظم الفائق وتارة بالنثر الرائق، وإن لم يوافق كتب عليه، ثم أكتب على ما كتبه ثم كذلك، فإن بعض المسائل التي وقعت فيها المباحثة حال القراءة اجتمع ما حررته وحرره فيها إلى سبع رسائل»
>[14] .
وكان هـذا العالم الفاضل من جملة من رغب الشوكاني في تأليف شرح على: المنتقى
>[15] ، الذي سماه: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار.
والخلاصة: أن منهج الشوكاني في طلب العلم قد استجمع الأبعاد الثلاثة للعملية التعليمية النموذجية: البعد العلمي الأكاديمي، البعد الثقافي، البعد المهني. كما تميز بتنوع أسـاليب التعلم: المـلازمة، والمناظرة، والتعلم الذاتـي، التي أسهمت في تفتيق عوامل التفوق والإبداع في شخصيته العلمية.
ثالثا: تذوق العمل الإبداعي
لقد كانت من أولى خطوات الشوكاني الذاتية في طريق الاجتهاد والتجديد تذوقه للعمل الاجتهادي والتجديدي لعلماء أفذاذ، مثلوا منعطفات هـامة في تاريخ الفكر الإسلامي، فقد أشار إلى إعجابه الشديد بقدرات المناظرة والتصنيف للمؤلفات لدى
الإمام الشافعي ،
وابن حزم ،
[ ص: 90 ] وابن تيمية >[16] . قال في ترجمته
لابن تيمية : أنا لا أعلم بعد
ابن حزم مثله، وما أظنه سمح الزمان ما بيـن الرجليـن بمن شابههما، أو يقاربهما
>[17] .
إن القدرة الإدراكية للعمل الإبداعي عند الشوكاني تؤكد أن لديه استعدادات تسمح له بالتمييز بين العمل الإبداعي، وما لا يرتقي إلى ذلك.
رابعا: المعرفة الموسوعية
إن المطلع على ما أورده
الشوكاني من أسماء الكتب التي طلب العلم فيها على يد مشايخه في كتابه: البدر الطالع، والكتب التي تلقاها عن طريق الإجازة التي جمعها في مصنفه: إتحاف الأكابر بإسناد الدفاتر، التي قاربت ثلاثة وسبعين وثلاثمائة مؤلف
>[18] في مختلف العلوم والفنون، يدرك مـدى ما كان عليه هـذا الرجل من تنوع في الثقافة واتساع فـي فنون المعرفة، كما يدرك أثر هـذه المعرفة الموسـوعية في تحريره من التقليد وتفعيل نزعته الاجتهادية.
فالشوكاني رحمه الله لم يسجن نفسه في علم واحد من علوم الشريعة، بل تمكن من كل التخصـصات الشرعية وبلغ فيها مبلغ الاجتهاد والإبداع.
ففي فن التفسير لم يتبن
الشوكاني مناهج المفسرين قبله، التي انحصرت في الغالب فـي مسلكين: إما الاقتـصار على مجرد الرواية،
[ ص: 91 ] وإما الاقتصار على ما تقتضيه اللغة العربية وما تفيده العلوم الآلية
>[19] ، بل صمم منهجا خاصا جمع فيه بين الرواية والدراية، واعتمد فيه أسلوب المقارنة بين التفاسير التي سبقته والترجيح بيـن آرائها
>[20] ، وجعل عنوان تفسيره دالا على منهجـه إذ سماه: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير.
كما ساهم في علم الحديث، الذي اعتبر التضلع فيه شرطا للعالم المجتهد، ولكل من أراد أن يسهم في فن من فنون الشريعة بإنتاج علمي
>[21] ، بمؤلفات كانت برهانا ساطعا على غزارة علمه وعلو كعبه في خصوص هـذا الفن، أهمها كتابه: نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، الذي كان باكورة إنتاجه العلمي.
أما في الفقه فقد اطلع اطلاعا واسعا على فقه الأئمة الأربعة والفقه الزيدي، وألم بمسائل الخلاف بين العلماء ومناهج الاستدلال، وتعامل مع مصادرهم الفقهية تعاملا انتقاديا، بل نجده ينصب نفسه حكما بينه وبين مخالفيه، بل وبينهم أنفسهم إذا اختلفوا، يظهر ذلك جليا في كتابه: السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار
>[22] .
[ ص: 92 ]
وفي كتابه الأصولي: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، تناول المادة الأصولية على نحو جديد قوامه التحقيق والتمحيص؛ إذ التزم فيه توضيح الراجح من المرجوح من الآراء، والسقيم من الصحيح، وما يصلح من هـذا العلم للرد إليه، وما لا يصلح منه للتعويل عليه
>[23] .-
كما استوعب في علم الكلام الرصيد المعرفي للمدارس الكلامية التي عرفها التاريخ الإسلامي، وناقش مناهج علمائها في إثبات الأصول والعقائد والصفات، وسجل موقفه العلمي من مناهج الاستدلال في العقيدة
>[24] .
كما أولى عناية بالغة باللغة العربية، وساهم في علومها بمؤلفات أهمها: نزهة الأحداق في علم الاشتقاق، و: الروض الوسيع في الدليل المنيع على عدم انحصار علم البديع
>[25] .
والسر في بلوغ
الشوكاني مبلغ الاجتهاد والإبداع في مختلف العلوم الشرعية نظرته المعرفية للعلم، إذ يرى أن العلم يتسع ويتطور بإضافة مفردات جديدة تندرج تحت كلياته، وهذا يفسر إضافته إلى علم البديع صورا جديدة لم يعرفها التراث الأدبي العربي في كتابه: الروض الوسيع، السابق ذكره.
[ ص: 93 ]
ومما سبق يمكن القول: إن عقلية الشوكاني الفقهية التجديدية انبثقت أساسا عن تلاقح مختلف العلوم الشرعية، وعدوله عن الإفراط في التخصص المتقوقع في فرع من فروعها، ذلك أن التخصصات الفرعية في أي نوع من أنواع العلوم -مهما كان الاجتهاد فيها- لا تنتج على المستوى العلمي والمعرفي إبداعات كثيرة. لكن التجاوز الجزئي للتخصص الفرعي، والتمكن من سائر التخصصات الفرعية الأخرى التي تندرج ضمن نوع واحد من أنواع العلوم، والتلاقح المعرفي بينها هـو الذي يفتح آفاق الاجتهاد والتجديد.
والجدير بالذكر أن التلاقح المعرفي في فكر الإمام الشوكاني لم ينحصر في دائرة العلوم الشرعية، بل تعداها إلى دوائر معرفية أخرى (اجتماعية، عقلية، فلسفية) ، فالشوكاني طلب مختلف العلوم والفنون، ولم يحصر نفسه في دائرة العلوم ذات الصلة المباشرة بالنص الشرعي، بل تفتح على العلوم الاجتماعية؛ كالتاريخ والتربية، والعلوم العقلية؛ كالعلم الرياضي والإلهي والطبيعي...
>[26] إلخ.
وهذا ما نجده في الحقيقة كما يقول
قاسم الشراجي : في طليعة اهتمامات التربية المعاصرة التي تنادي بالإعداد الثقافي، الذي يخرج الدارس من سجن مادة التخصص، وتطالب بالإعداد الرأسي (التخصصي) والأفقي (الثقافي) في وقت واحد
>[27] .
[ ص: 94 ]
وكانت نتيجة هـذا التفتح على العلوم المختلفة أن صاغ
الشوكاني نظرية في المعرفة، ضبط فيها مصادر المعرفة وهي: الحواس، العقل، القلب أو الوجدان، والخبر؛ وأنواعها وهي: المعرفة العقلية والحسية والنقلية.
كما صنف موضوعات المعرفة إلى صنفين:
- موضوعات عالم الغيب: وهي تدرك بالسمع، وغاية ما يملكه العقل هـو إثباتها.
- وموضوعات عالم الشهادة: ويتعرف عليها من خلال الحس والعقل.
كما أكدت نظريته في المعرفة أن مناهج البحث تختلف باختلاف موضوعات المعرفة، وأن لكل نوع من الموضوعات -وهي في نظره ثلاثة: الغيب، والعلوم الشرعية، والعلوم العقلية- منهجه في البحث الذي يتلاءم مع طبيعته.
كما عد درجات اليقين ستا: الأوليات؛ أي: البدهيات، والنقليات، والعقليات، والكرامات، والمشاهدات، والحسيات. وهي تختلف في نظره باختلاف طبيعة المعرفة. فالمعرفة في عالم الغيب إنما يكون مصدرها الخبر المنزل، ويكون اليقين في الأمور الغيبية يقينا مطلقا لا مجال للعقل فيه. أما في عالم الشهادة فالعقل قادر على إدراك الأمور المشاهدة، لكن إدراكه قاصر ومحدود، ولهذا يختفي اليقين المطلق، ولا تبقى إلا النسبية والاحتمالية
>[28] .
[ ص: 95 ]
كما أثمر تفتحه على العلوم العقلية والفلسفية تحليله ومناقشته لبعض الاتجاهات الفلسفية
>[29] ، وكذا تأليفه في بعض الفنون الدقيقة كعلم المنطق، إذ صنف رسالته: الحد التام والحد الناقص. وقد ناقش فيها آراء أهل المنطق، ورسالة: فتح الخلاق. التي اشتملت على جواب مائة وخمسين سؤالا فـي علم المنطق
>[30] .
وتمثلت خلفية الشوكاني المعرفية التي جعلته ينفتح على مختلف العلوم فيدرسها ويدرسها ويؤلف فيها في نظرته إلى العلوم نظرة شمولية تتسع لكل أنواع المعرفة، لذا نجده يحث على تعلم العلوم العقلية والفلسفية؛ التي منها العلم الرياضي، والطبيعي، والإلهي، والهندسي، والهيئة (علم الفلك) ، والطب
>[31] . كما أكد نظرته الشاملة لسائر العلوم فقال: «وبالجملة فالعلم بكل فن خير من الجهل به بكثير، ولا سيما من رشح نفسه للطبقة العلية والمنزلة الرفيعة.»
>[32] ؛ أي طبقة المجتهدين. فهذه النظرة الشاملة للعلوم مكنته من الإلمام بمختلف الفنون، وسمحت بالتلاقح المعرفي بين تخصصه الدقيق -العلوم الشرعية- والتخصصات الأخرى.
والخلاصة: أن تجاوز الشوكاني حدود تخصصه الأصلي -العلوم الشرعية- واحتكاكه بتخصصات أخرى كان من أهم عوامل تكوين عقليته التجديدية، وتفتيق مواهبه الإبداعية.
[ ص: 96 ]