المطلب الثاني: دراسة ظاهرة التقليد
لما كان منطلق الشوكاني في الإصلاح والتجديد مراجعة المنظومة المعرفية التي سادت عصور الانحطاط، ومن ثم إعادة صياغة العقلية الإسلامية التي ستتولى مسئولية تجديد منهج ومحتوى العملية الاجتهادية في
[ ص: 107 ] شتى فروع المعرفة، درس ظاهرة التقليد دراسة متكاملة شملت أبعادا مختلفة. وفي الآتي تفاصيل هـذه الأبعاد:
- البعد الفقهي
لقد درس
الإمام الشوكاني التقليد بوصفه ظاهرة فقهية تحتاج إلى حكم شرعي واضح يلتزم به المكلف. ولأهمية هـذا الجانب من الدراسة ومحوريته لم ير الإمام الشوكاني بدا من بحث هـذا الموضوع بحثا مستفيضا معتمدا على منهجية واضحة ودقيقة تمثلت في الخطوات الآتية:
1 - تحديد الآراء المستقرة في المسألة:
لقد حصر
الإمام الشوكاني اختلاف العلماء في التكييف الشرعي للتقليد في مذاهب ثلاثة
>[1] : مذهب الجمهور وهو المنع من التقليد. ومذهب بعض الحشوية وهو وجوب التقليد مطلقا وحرمة النظر. ومذهب كثير من أتباع الأئمة الأربعة وهو وجوبه على العامي وحرمته على المجتهد. ووافق الشوكاني مذهب الجمهور؛ لأن المذهب الثاني فيه إيجاب للجهل على الناس، والمذهب الثالث أول أصحابه كلام أئمتهم الأربعـة بالمنع بالتفريق بين العامي والمجتهد.
2 - مناقشة أدلة المجوزين للتقليد:
لما كان القائل بعدم التقليد قائما في مقام المنع، وكان القائل بالجواز قائما في مقام الإثبات، كان الدليل في نظر الشوكاني على مدعي الجواز،
[ ص: 108 ] من هـنا قدم في دراسته الفقهية للتقليد حجج المجوزين له على الأدلة المثبتة للمنع
>[2] ، كما حرص على حصر أدلة المجوزين ومناقشتها بإسهاب، وتبيين أنها في الجملة إما خارجة عن محل النـزاع، وإما أنها دليل علـى المـقلدة لا لهم، وإما أنها ضعيفة لا تثبت بها الحجة. ومن أبرز هـذه الأدلة:
- احتجاجهم من القرآن الكريم بقوله تعالى:
( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (الأنبياء: 7)
على أن الله تعالى أمر من لا علم له بسؤال من له علم. وقد رد
الشوكاني على هـذا الاستدلال بأن الآية واردة في سؤال خاص خارج عن محل النـزاع كما يفيده سياقها:
( وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ، فأكثر المفسرين على أن الآية نزلت ردا على المشركين لما أنكروا كون الرسول صلى الله عليه وسلم بشرا.
وعلى فرض أن المراد هـو السؤال العام فالمأمور بسؤالهم هـم أهل الذكر، والذكر هـو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالسؤال إذن يكون عما فيهما، من هـنا كانت هـذه الآية حجة على المقلدة وليست لهم؛ لأن مفادها السؤال عن الدليل، وهم استدلوا بها على جواز الأخذ بأقوال الرجال من دون سؤال عن الدليل، وهذا هـو التقليد
>[3] .
[ ص: 109 ]
- واحتجاجهم أيضا بقوله تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (النساء:59)
على أن أولي الأمر هـم العلماء، وطاعتهم تكون فيما يفتون به
>[4] . ولم ير
الإمام الشوكاني لهذه الآية أية دلالة على مـراد المقلدين؛ لأنه لا طاعة للعلماء إلا إذا أمروا بطاعة الله، وإلا فقد
( ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ) >[5]
وأن العلماء وعلى رأسهم الأئمة الأربعة أرشدوا غيرهم إلى ترك تقليدهم، فطاعتهم ترك تقليدهم، وأنه لا يبعد أن تكون الطاعة المرادة لأولي الأمر في الآية هـي في الأمور التي ليست من الشريعة، كتدبير الحروب وأمور المعاش؛ لأنه لو كان المراد طاعتهم في الأمور التي شرعها الله ورسوله لكان ذلك داخلا تحت طاعة الله وطاعة الرسول، كما لا يبعد أن تكون الطاعة لهم في الأمور الشرعية في مثل: الواجبات المخيرة، وواجبات الكفاية.
- كما استدلوا على جواز التقليد من السنة بأحاديث كثيرة أهمها: تلك الآمرة بالاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم
[ ص: 110 ] ( كحديث: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. ) >[6] الذي نفى
الشوكاني قيام الحجة به؛ لأنه روي مـن طرق صرح أئمة الجـرح والتعديل أنه لم يصح شيء منها
>[7] ، وحديث:
( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بـعدي... ) >[8] الذي لا دلالة فيه -في نظر الشوكاني- على مراد المقلدة، وهو تقليد إمام من الأئمة دون المطالبة بالدليل. ذلك أن الأخـذ بما سنه الخلفاء الراشدون ليس إلا امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو في المقابل لم يأمرنا بالاستنان بسنة عالم من علماء الأمة، فكيف يسوغ الاستدلال بهذا الذي ورد فيه نص على ما لم يرد فيه نص؟
وأمر آخر، أن قياس أئمة المذاهب على الخلفاء الراشـدين لا يصح؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل سنتهم كسـنته فـي اتباعها لأمر يختص بـهم ولا يتعداهم إلى غيرهم، ولو كان الإلحاق بالخلفاء الراشدين سائغا لكان إلحاق المشاركين لهم في الصحبة والعلم مقدما على من لم يشاركهم في مزية من المزايا. ثم إن سلوك المقلدين العملي يثبت أنهم لم يقلدوا الخلفاء الراشدين لهذا الدليل، بل يردون ما جاء عنهم إذا خالف آراء أئمتهم.
[ ص: 111 ]
ولم يبرح
الإمام الشوكاني مقام الكلام عن أحاديث الاقتداء بالصحابة حتى بين أن المراد بالاستنان والاقتداء بهم: هـو أن يأتي المستن والمقتدي بمثل ما أتوا به، وهم لا يأتون بفعل ولا بقول إلا وفق فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وقوله، فالاقتداء بهم هـو اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما أرشد الناس إلى ذلك لأنهم المبلغون عنه، الناقلون شريعته إلى من بعده من أمته، فالفعل وإن كان لهم فهو على طريقة الرواية لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم
>[9] .
- كما استدلوا على جواز التقليد بأقوال بعض الصحـابة رضي الله عنهم وأفعالهم؛ مثل ما " ثبت عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في موضوع الكلالة: «إني لأستحي من الله أن أخالف
أبا بكر » " " وقـوله
لأبي بكر رضي الله عنه في موضع آخر «رأينا تبع لرأيك.» "
>[10] .
فقد رد
الإمام الشوكاني على هـذا الاستدلال بما وقع من مخالفة
عمر لأبي بكر في غير مسألة؛ كمخالفته له في سبي أهل الردة، وفي الأرض المغنومة... إلخ، فإن قالوا: خالفه في هـذه المسائل لأن اجتهاده كان على خلاف اجتهاد أبي بكر. فيجاب عنهم: ووافقه في المسألة لأن اجتهاده كان موافقا لاجتهاده، وليس هـذا من التقليد في شيء.
ورد على استدلالهم " بقول
عمر لأبي بكر : «رأينا تبع لرأيك.» " بأن هـذه المقالة واردة في قصة طويلة، وأن المقلدة قد اجتزءوا منها الجزء الذي يسند دعـواهم، ولو نظروا في القصة كلها لكانت حجة عليهم لا لهم؛
[ ص: 112 ] لأن وقائعها تثبت أن
عمر رضي الله عنه قرر بعض ما رآه
أبو بكر ورد بعضه الآخر، وأن متابعته في بعض ما رآه ليس من التقليد، بل هـو من الاستصواب لما جاء به من الآراء
>[11] .
- ومن جملة ما استدلوا به أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وهذا تقليدهم. ويجيب
الشوكاني : أنهم «كانوا يفتون بالنصوص من الكتاب والسنة وذلك رواية منهم، ولا شك أن قبول الرواية ليس بتقليد، بل هـو قبول للحجة، والتقليد إنما هـو قبول للرأي من دون حجة»
>[12] .
- كما استدلوا على جواز التقليد بدعوى الإجماع على عدم الإنكار على المقلدين، ولقد أبطل
الشوكاني هـذه الدعوى التي أثارها بعض المتأخرين ممن صنف في الأصول لاعتراضات منها: أنهم إن أرادوا إجماع خير القرون، فتلك دعوى باطلة؛ لأن التقليد لم يحدث إلا بعد انقراض هـذه القرون. وإن أرادوا إجماع الأئمة الأربعة، فقد قالوا بالمنع من التقليد، ولم يزل في عصرهم من ينكر ذلك. وإن أرادوا إجماع من بعدهم، فوجود المنكرين لذلك من ذلك الوقت إلى هـذه الغاية معلوم لكل من يعرف أقوال أهل العلم. وإن أرادوا إجماع المقلدين للأئمة الأربعة خاصة، فقد تقرر في الأصول أن المعتبر في الإجماع إنما هـم المجتهدون دون غيرهم
>[13] .
[ ص: 113 ]
بل إن
الشوكاني أكد أن كبار العلماء بين منكر للتقليد، وساكت عنه سكوت تقية، مخافة ضرر، أو فوات نفع
>[14] .
ومما سبق يتضح أن الإمام الشوكاني في مناقشته لأدلة المجوزين للتقليد بذل جهدا علميا فائقا في تحديد حقيقة التقليد والمقلد، وذلك من خلال التفريق بينه وبين بعض المصطلحات والمفاهيم التي يظن أنها تشترك معه في المعنى؛ كالاتباع، وقبول الرواية، والاقتداء، والاستصواب، والموافقة.
فالاتباع كما قال: هـو أن تتبع القائل على ما بان لك من فضل قـوله، وصحة مذهبه. أما التقليد : فهو أن تقول بقوله وأنت لا تعرفه؛ أي: القول.
>[15]
ولهذا عد قوله تعالى:
( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) (الأنبياء: 7)
دليلا على الاتباع لا التقليد
>[16] .
وقبول الرواية هـو قبول للحجة، والتقليد هـو قبول الرأي المجرد عن الحجة.
والاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم هـو اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنـهم المبلغون عنه، في حين أن التقليد هـو قبول قول من لا تقوم به حجة دون مطالبته بدليل.
والاستصواب : هـو أن يظهر لك صواب قول فتوافق صاحبه فيه، والتقليد هـو أن تأخذ القول دون علم بصحته أو بطلانه.
[ ص: 114 ]
ومما تصدى له
الإمام الشوكاني في مناقشته لدعاة التقليد الشبهات التي أثاروها تبريرا لتمسكهم بالتقليد، وعزوفهم عن الاجتهاد. ومن هـذه الشبه قولهم: لو أن التقليد غير جائز لكان الاجتهاد واجبا على كل فرد من أفراد العباد، وهو تكليف بما لا يطاق لسببين:
الأول: إن الطباع البشرية متفاوتة، فمنها ما هـو قابل للعلوم الاجتهادية، ومنها ما هـو قاصر عن ذلك، وهو غالب الطباع.
الثاني: إنه على فرض أنها قابلة له جميعها، فوجوب تحصيله على كل فرد يؤدي إلى تعطيل المعـايش التي لا يتم بقاء النوع الإنسـاني بدونها، فإذا ما اشتغل أصحاب الحرف بالعلم تعطلت حرفهم، وأفضـى ذلك إلـى انخرام نظام الحياة، وفي هـذا ضرر ومشقة مخالفة لمقصود الشارع
>[17] .
وأجاب
الشوكاني عن هـذه الشبهة: أنه ليس المطلوب من كل إنسان أن يبلغ رتبة الاجتهاد، بل المطلوب أن يكون القاصرون إدراكا وفهما كما كان عليه أمثالـهم فـي أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم، إذ أنهم لم يكونوا مقلدين ولا منتسبين إلى فرد بعينه، بل كان الجاهل منهم يسأل العالم عن الحكم الشرعي الثابت في الكتاب والسنة، فيفتيه به، ويرويه له لفظا أو معنى فيعمل بذلك من باب العمل بالرواية لا بالرأي
>[18] .
[ ص: 115 ]
ومن شبههم أيضا أن العلم كان ميسرا لمن كان قبلهم، ولكنه الآن أصبح تحصيله صعبا عليهم وعلى أهل عصورهم المتأخرة. وقد نقض
الشوكاني هـذه الشبهة مبينا أن الاجتهاد قد يسره الله تعالى للمتأخرين تيسيرا لم يكن للسابقين؛ لتوفر تفاسير القرآن، ومجامع السنة المطهرة، ولتصنيف العلماء في علوم كل منهما
>[19] .
3 - الاستدلال على منع التقليد بأدلة إضافية:
لم يكتف الشوكاني في دراسته الفقهية لموضوع التقليد بمناقشة أدلة وشبه المجوزين له، بل عمـد إلـى التدليل على رأيه الذي تبناه -وهو عدم جواز التقليد على غير المجتهد، وأنه لا بد أن يسأل أهل الذكر عن الأحكام، وأدلتها- بأدلة مستقلة أهمها:
1 - أن الخطاب القرآني لم يأمرنا برد شرائع الله سبحانه إلـى آراء الرجال، بل إلى كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم :
( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) (النساء 59)
>[20] .
2 - أن الآيات القرآنية الواردة فـي ذم تقـليد الآباء؛
مـثل قولـه:
( وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون ) (الزخرف:23-24) ،
[ ص: 116 ] وإن كان موردها في الكفار، فالمراد بها ذم من أعرض عما أنزله الله تعالـى، وأخـذ بقول سلفه. من هـنا صح تأويلها فـي المقلدين لاتحاد العلة؛ ولأن العبرة بعـموم اللفظ لا بخصوص السبب
>[21] .
3 - أنه قد انعقد الإجماع على عدم جواز تقليد الأموات، وعلى أن عمل المجتهد برأيه إنما هـو رخصة له عند عدم الدليل، ولا يجوز لغيره أن يعمل به، فهذان الإجماعان يجتثان التقليد من أصله
>[22] .
4 - أن وقوع الاجتهاد في المذاهب الأربعة وكذا المذهب الزيدي والهادوي حجة على المقلدة
>[23] .
والخلاصة المستفادة من دراسة الشوكاني للتقليد بوصفه ظاهرة فقهية هـي تصنيفه للمسلم: إلى مسلم قادر على فهم الكتاب والسنة، ومالك لأدوات الاجتهاد، فهذا يجب في حقه الاجتهاد ويحرم عليه التقليد، ومسلم غير قادر على الفهم ومفتقد لأدواته، فهذا يحرم عليه التقليد أيضا، ويجب عليه السؤال لمن يثق به ليصل إلى الدليل.
- البعد العقدي
من الأبعاد التي وظفها
الشوكاني كذلك في دراسة موضوع التقليد البعد العقدي، فقد أقام الدليل والحجة على أن التقليد ينافي مقتضيات
[ ص: 117 ] الإيمان والعبودية لله تعالى لاعتبارات منها:
- أن الله تعالى أمر المسلمين برد الأمور المتنازع فيها إلى الله ورسوله فقال:
( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) وجعل ذلك من موجبات الإيمان به؛
إذ قال تعالى:
( إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) (النساء:59) فإذا انتفى الرد انتفى الإيمان.
- ومنها أن الحامل للمقلدة على التقليد هـو الغلو في تعظيم أئمتهم، وامتثال آرائهم، فصاروا بهذا التعظيم المبالغ وما استوجبه من طاعة مطلقة أربابا من دون الله تعالـى،
فصدق فيهم قوله تعالـى:
( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) (التوبة:31) .
ومنها أن الله تعالى إنما بعث إلى عباده رسولا واحدا، وأنزل إليهم كتابا واحدا، وجميع الأمم أولها وآخرها متعبدون بما شرعه الله سبحانه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن جملة من هـو متعبد بهذه الشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكيف بالأئمة المتبعين، الذين هـم أفراد من العالم؟
وعليه فلا مسوغ للمقلدة في تقليد أحد العلماء في جميع أقواله، وإيثارها على قول غيره، بل على الكتاب والسنة
>[24] .
[ ص: 118 ] - البعد المعرفي
من مقتضيات الدراسة الشمولية لظاهرة التقليد عند الشوكاني تحديد موقع هـذا السلوك الفكري فـي ميزان العلم والمعرفة، وهو ما جعله يحرص في مواضع متفرقة وبأساليب ومضامين مختلفة على بيان ماهية التقليد في نظر العلم والمعرفة. ولا شك أن محاولة جمع وترتيب هـذه المتفرقات ترتيبا منهجيا سيعطي صورة متكاملة عن التقليد كظاهرة معرفية، كما رسمها الإمام الشوكاني.
وقد كانت أولى خطواته في هـذا النوع من البحث هـو تحديد مفهوم العلم، فبين أن حد العلم -عند أهل العلم والنظر- هـو: التبين وإدراك المعلوم على ما هـو به، فمن بان له الشيء فقد علمه...
>[25] وحده عند العلماء والمتكلمين -كما قال
ابن عبد البر - هـو: «ما استيقنته وتبينته، وكل من استيقن شيئا وتبينه فقد علمه.»
وهذا التحديد الدقيق لمفهوم العلم جعل الإمام الشوكاني يخلص إلى قاعدتين اثنتين:
أولهما: أن العلم هـو معرفة الحق بدليله.
ثانيهما: أن الرأي الذي لا يستند إلى دليل ليس من العلم.
وقد استأنس فـي ذلك بقول
ابن عبد البر : «ولا أعلم بين متقدمي علماء هـذه الأمة وسلفها خلافا أن الرأي ليس بعلم حقـيقة، وأما أصول العلم فالكتاب والسـنة» ؛ أي الدليل
>[26] .
[ ص: 119 ]
فعلى هـاتين المقدمتين أسس الإمام الشوكاني إجابته عن السؤال المحوري في الموضوع، وهو: هـل التقليد علم؟ وهل المقلد عالم؟ فأثبت أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد ليس معدودا من أهل العلم، وأكد صحة هـذه النتيجة بأدلة منها:
قوله تعالى:
( ولا تقف ما ليس لك به علم ) (الإسراء:36 ) .
ومنها الإجماع الذي نقله
ابن عبد البر حين قال: «أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم»
>[27] .
ومنها أن التقليد قائم على فكرة توقف العلم؛ إذ ادعى المقلدة أن الله تعالى قد رفع ما تفضل به عن من قبلهم من الأئمة من كمال الفهم، وقوة الإدراك، والاستعداد للمعارف. وهي دعوى في نظر الشوكاني من أبطل الباطلات، بل هـي جهالة من الجهالات؛ لأن نهاية العلم كما يؤكد ليست كبدايته، بل هـو سائر في طريق التطور والكمال والنضج العقلي عن طريق ازدياد المعارف وتطورها
>[28] . وهي قناعة ألف على أساسها
الإمام الشوكاني كتابه: البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع. حيث ذكر فيه أصنافا من المجتهدين كدليل عملـي وواقـعي على أن باب الاجتهاد لم ينسد، وأن الأمة لن تعدم أبدا من يقوم فيها بالحجة
>[29] .
[ ص: 120 ]
إن إجابة الشوكاني عن السؤال السابق بالنفي، وضعته أمام سؤال آخر وهو: إن لم يكن التقليد علما فما هـو؟ فكان جوابه أن المقلد إذا تكلم فيما لا يعرفه فهو جاهل من جهتين: كونه لا يعرف ذلك الشيء، وكونه تكلم فيما لا يعرفه
>[30] .
وإذا كان التقليد جهلا، فهو بالضرورة في مسائل الشرع تقول على الله عز وجل بما لم يقل؛ بصريح قوله تعالى:
( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) (الأعراف:33)
>[31] .
والشوكاني في بحثه عن التقليد كظاهرة معرفية لم يقف عند حد إثبات أن التقليد جهل وليس بعلم، بل تعداه إلى التأكيد على مبدأين هـامين هـما:
أولا: أهمية ومحورية الدليل في المنظومة المعرفية الإسلامية
وهذه نقطة جوهرية في إعادة صياغة العقلية الإسلامية عموما، والفقهية على وجه الخصوص، هـذه العقلية التي أصبحت في عصور التقليد والجمود تتعامل مع أقوال العلماء تخريجا وقياسا دون النص الشرعي. من هـنا أكد الإمام الشوكاني ارتباط العلم بالدليل، وأن الرجوع إلى الكتاب والسنة في مسائل الدين من مقتضيات المنهج العلمي السليم
>[32] .
[ ص: 121 ] ثانيا: اختلال منهج المقلدة
وقد اعتمد في بيان ذلك طريقة الحوار المنطقي، متدرجا معهم بما يسلمون به للوصول إلى نقطة الخلاف فلا يسعهم إلا التسليم. وكثيرا ما كشفت هـذه الحوارات أن تفكير المقلد لا يقوم على منهج سليم تتفق مقدماته مع نتائجه، بل يقوم عل التناقض، من جانبين:
- تناقض في منهج تفكيرهم ذاته: يتجلى في اعتراف المقلد أنه التزم التقليد -أخذ رأي الغير دون دليل- لأنه لا يعقل الحجة، ولكن إذا سئل عن سبب تقليده لعالم بعينه من جملة علماء الأمة في كل أمور دينه أجاب: لأنه أعـلم من غيره. والسؤال المثار: من أين له معرفة العالم والأعلم؟ وهو مقر على نفسه أنه لا يطالب بالحجة، ولا يعقلها إذا جاءته. فهو يشهد بجوابه هـذا على بطلان دعواه الأولى.
- وأمر آخر، أن المقلد يعترف في كل مسألة من مسائل الفروع الذي هـو مقلد فيها أنه لا يدري ما هـو الحق فيها، لكن إذا أرشده «البعض» إلى أن: التقليد غير جائز في دين الله. أخذ في المخاصمة والاستدلال بجواز التقليد، فهلا أنزل نفسه -كما قال الشوكاني- في هـذه المسألة الأصولية المتشعبة تلك المـنزلة التي كان ينـزلها في مسائل الفروع
>[33] .
[ ص: 122 ]
- تناقض قناعتهم الفكرية مع سلوكهم العملي: يتجلى ذلك في قبولهم ممن ينتسب إلى مذهبهم الترجيح بين روايتين لإمامهم، وإن كان ذلك المرجح مقلدا غير مجتهد ولا قريب مـن رتبة الاجتهاد، ولا يقبلون ممن هـو في رتبة إمامهم، أو أكثر مثل ذلك، ولو عضد ترجيحه بالآيات المحكمة والأحاديث المتواترة. بل إنهم يقبلون من موافقيهم مجرد التخريج على مذهب إمامهم والقياس على ما ذهب إليه ويجعلونه دينا، ويحلون به ويحرمون، ولا يقبلون من مخالفهم مجرد الترجيح بين روايتين لإمامهم
>[34] .
وخلاصة تحليل الشوكاني لشخصـية المقلد العلمـية: أنه لا منهج له ولا منطق، وأن هـذه المذاهب الفقهية كما قال: «قد صار كل واحد منها كالشريعة عند أهله، يذودون عنه كتاب الله وسنة رسوله، ويجعلونه جسرا يدفعون به كل ما يخالفه كائنا ما كان»
>[35] .
- البعد الاجتماعي
درس الإمام الشوكاني التقليد كظاهرة اجتماعية، وحاول من خلالها الإجابة عن جملة من الأسئلة؛ مثل: متى وكيف نشأ؟ ما أسباب انتشاره في المجتمع الإسلامي عموما، وفي أوساط المشتغلين بالعلم على وجه
[ ص: 123 ] الخصوص؟ وما هـي آثاره على بنية المجتمع النفسية والاجتماعية والعلمية، وكيان الأمة عموما؟
وقد أكدت أجوبة الشوكاني وتحقيقاته أن التقليد لم يحدث إلا بعد انقراض القرون الثلاثة الخيرة، وأن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة إنما كان من بعد انقراض الأئمة الأربعة
>[36] ، وهذا يدل على أن ظاهرة التقليد مستحدثة، ولم تنشأ مع نشأة التفكير الفقهي، بل ولا حتى مع نشأة المدارس الفقهية، وإنما ظهرت بعد استقرار المذاهب، فهي إذن دخيلة على النسق المعرفي الإسلامي الأصيل.
وبناء على هـذه المقدمات، سعى الإمام الشوكاني إلى بيان الأسباب الحقيقية لانتشار التقليد في المجتمع الإسلامي، وطغيانه على التفكير الفقهي، فكان من جملة الأسباب التي حررها
>[37] :
أولا: إن طبائع الجاهلين بعلم الشريعة من مقلدة وعامة وسلطان وأعوانه متقاربة، وهم لكلام من يجانسهم في الجهل أكثر قبولا من كلام من يخالفهم في ذلك من أهل العلم، ولهذا طبقت هـذه البدعة جميع البلاد الإسلامية، وصارت شاملة لكل فرد من أفراد المسلمين.
[ ص: 124 ] ثانيا: إن النشأة على آراء مذاهب معينة -وهو حال سائر أمة الإسلام- تجعل المنتمين إليها يستنكرون بطبعهم ما خالف مذاهبهم؛ لاعتقادهم أنها هـي الشريعة، وأن من خرج عنها خارج عن الدين.
ثالثا: إن إهمال المنهج العلمي في دراسة آراء العلماء، وتقديسهم وخشية تصويبهم كان سببا آخر في انتشار التقليد.
وإضافة إلى هـذه الأسباب التي ساقها الشوكاني فقد شاركت أهم الأطراف المكونة للمجتمع الإسلامي-وهم: علماء التقليد، العامة، الملوك، وكثير من علماء الاجتهاد- في ترسيخ بدعة التقليد حتى أصبحت هـي الأصل الحاكم، والمبدأ المهيمن على التفكير والسلوك.
أما علماء التقليد، فقد كان لهم الدور الأكبر في تجذير التقليد في عقلية المجتمع الإسلامي من خلال إصرارهم على بدعة التقليد، وتحسينهم لها في عيون أهل الجهل، وانتقاصهم من شأن العلماء المجتهدين، ونسبتهم إلى الابتداع ومخالفة الأئمة المتبعين. ومما قوى نفوذهم توليهم لجميع المناصب الدينية في المجتمع؛ كالتدريس والإفتاء والقضاء، واتخاذها منابر لنصرة التقليد، وإشاعة روح التعصب، ومقاطعتهم لكبار العلماء؛ لاشتغالهم بعلوم الاجتهاد، وهي عند هـؤلاء المقلدة ليست من العلوم النافعة؛ لعدم عدها من شروط التأهل لممارسة الوظائف الدينية، وتنصيبهم لأنفسهم حماة للدين، ولمذاهب الأئمة المتبوعين ضد اجتهادات العلماء
[ ص: 125 ] المحققين المخالفة لما استقر في المذهب، فنالوا بذلك المصداقية من العامة، والمشروعية في تمثيل الزعامة العلمية من السلطة، فأصبحوا بذلك من صناع الرأي العام
>[38] .
أما العامة فقد شاركوا في ترسيخ التقليد بسبب افتقادهم القدرة على التمييز بين العالم وغيره، واستدلالهم على العلم بالمناصب والقرب من السلطان وكثرة الأتباع، إضافة إلى أن طباعهم مجبولة على سرعة الانقياد. والسبب في ذلك أنهم ضموا إلى فقدان العلم فقدان العقل لا سيما في أمور الدين، ولهذا لم يكتشفوا بطلان دعوى المقلدة أن العمل بنص مـن الكتاب أو السنة يستلزم الانحراف عن إمام المذهب المتبع.
إن فقدان العامة لهذه المؤهلات والقدرات جعلت منهم أداة ضغط في يد علماء التقليد، يصنعون بهم الرأي العام بعد أن صيروهم حكاما على العلماء، فانقلبت بذلك موازين الحياة العلمية والاجتماعية في المجتمع الإسلامي
>[39] .
أما الحكام فقد شارك أغلبهم في انتشار التقليد؛ لاشتراكهم مع العامة في استدلالهم على العلم بكثرة الأتباع، فإذا نظروا إلى حلقات علماء التقليد ووجدوها كثيرة العدد، لم يبق عندهم شك أن شيوخ تلك الحلقات أعلم الناس، فيقبلون قولهم في كل أمر يتعلق بالدين. وفـي المقابل يلحظ الحكام أن العلماء المجتهدين إذا درسوا فـي علم من علوم الاجتـهاد لا يجتمع
[ ص: 126 ] عليهم إلا النفر القليل، فيكون مقام هـؤلاء العلماء عند الحكام وأعوانهم أقل من مقام ذلك المقلد، الذي اجتمع عليه المقلدون
>[40] .
أما علماء الاجتهاد فقد ساهم كثير منهم بطريق غير مباشر في استحكام بدعة التقليد بسبب زهدهم في إنكار هـذه البدعة، ومداهنة ومداراة العامة وعلماء المقلدة؛ اتقاء لشـرهم، وخوفا من تعرضـهم للتبديع والتجهيل والتضليل، وهذه السياسة زادت أنصار التقليد تجرؤا على ما هـم فيه
>[41] .
ولم يقف
الإمام الشوكاني في دراسته الاجتماعية لظاهرة التقليد عند حد بيان تاريخ ظهورها وأسباب انتشارها، بل أضاف إلى ذلك حلقة دراسية أخرى، وهي تتبع الآثار المترتبة على التقليد ، فبين أن هـذه البدعة بدأت باعتقاد جواز أخذ رأي «الغير» دون حجة، ثم تدرجت إلى الاقتصار على تقليد واحد من العلماء دون غيره، ثم إلى اعتقاد الصواب في كل آرائه، والخطأ في آراء غيره، ثم إلى تبرير عدم عمله بدليل من الأدلة بأنه تركه لما هـو أرجح منه عنده، ثم تدرجت ببعضهم إلـى وصف بعض الأحـاديث التي لم يعمل بها إمامهم بالكذب والبطلان، ثم إلى نشوب عداوة ضارية بين أهل المذاهب المختلفة؛ لاعتقاد أنصار كل مذهب أن إمامهم هـو الأعلم.
[ ص: 127 ]
من هـنا، اتخذ التقليد كظاهرة اجتماعية أبعادا كثيرة شكلت خطرا على كيان الأمة ووحدتها
>[42] ، ولما كانت مآلات الأفعال معتبرة في استنباط الأحكام، صرح
الشوكاني أنه: «لو لم يكن من شؤم هـذه التقليدات والمذاهب المبتدعات إلا مجرد هـذه الفرقة بين أهل الإسلام مع كونهم أهل ملة واحدة، ونبي واحد، وكتاب واحد، لكان ذلك كافيا في كونها غير جائزة»
>[43] .