المطلب الأول: تجديد مناهج التدريس الفقهي
لقد أثر المفهوم المذهبي للتربية الذي نشأ في عصور التقليد على المناهج التربوية ومؤسسات التعليم، الأمر الذي جعل الفكر التربوي الفقهي يقوم على الخصائص الآتية:
- ابتناء مؤسسات التعليم على مناهج مذهبية الطابع: تلتزم بتعليم مذهب معين، رافضة أي تفاعل مـع المذاهب الأخـرى. وهو ما جعل كل مذهب يحدد تصورا جزئيا للتربية الفقهية، لا يتعدى حدود الإطار المذهبي الذي حصر نفسه فيه.
- ضعف صلة الفقه بالعلوم الشرعية الأخرى: كأصول الفقه، والحديث، وعلم الكلام، وغيرها، مما أفرز التعامل مع القضايا المطروحة.
[ ص: 223 ] بتصور جزئي، أوقع الفكر التربوي الإسلامي عموما في إشكالية التمزق المعرفي الذي كان أحد أسباب جموده.
- قطع الصلة بين الفقه والعلوم العقلية: بسبب رد الفعل السلبي تجاه طغيان التيارات الفلسفية والعقدية، مما أفرز فقدان التوازن بين العلوم الدينية والعلوم الطبيعية، إذ اقتصرت المدارس القائمة على علوم الدين واللغة، ونظرت بارتياب إلى العلوم الطبيعية والدراسات الاجتماعية. ولقد تبنى هـذا المفهوم الضيق لمنهاج التعليم الفقهي الكثير من ممثلي النظرية التربوية الفقهية بعد
الإمام أبي حامد الغزالي وعلى رأسهم
الإمام ابن جماعة في كتابه: تذكرة السامع والمتكلم، إذ حصر التكوين الفقهي في طلب العلوم الشرعية دون غيرها
>[1] .
- عدم تصنيف طلبة العلم إلى طبقات، وتحديد برنامج كل طبقة: وهو ما تسبب في غياب التحديد العلمي لأهداف العملية التعليمية في مراحل الطلب المختلفة، والاقتصار على بيان الهدف العام للتعلم، وهو إرادة الخير للنفس والناس، والتعلم من أجل العمل، والتحذير من المقاصد الجانبية التي تصرف طالب العلم عن غايته الأساسية: كجمع المال، والرغبة في الرياسة.
إن هـذه الخصائص مجتمعة جعلت الفكر التربوي الفقهي بعد
أبي حامد الغزالي يتناول الإنسان الفقيه الذي ينحصر دوره في نشر المذهب،
[ ص: 224 ] وفي الانحصار داخل بعض العلوم والتفقه فيها
>[2] .
ولقد أحسن
الإمام الشوكاني التعبير عن هـذه النقائص التي أصابت مناهج التربية الفقهية في عصور التقليد من خلال وصفه لخريجي هـذه المناهج حيث قال: «...عاطل عن كل معقول ومنقول، لم تحظ من علم الفقه الذي ألفه أهل مذهبك إلا بمختصر من المختصرات، فضلا عن مؤلفات غير أهل مذهبك في الفقه، فضلا عن المؤلفات في سائر العلوم، فأنت من علامة القيامة، ومن دلائل رفع العلم»
>[3] .
وقد سعى الإمام جهده في تجديد مناهج التدريس الذي أقامه على أساسين مهمين: التصنيف الطبقي للطلبة مع ضبط برنامج لكل طبقة، وشمولية المنهج الدراسي.
الأساس الأول: التصنيف الطبقي للطلبة وضبط برنامج لكل طبقة
لقد أقام
الإمام الشوكاني العملية التربوية على أساس تصنيف طلبة العلم إلى أربع طبقات بحسب تفاوت هـممهم، وتباين مقاصدهم، ثم حدد الأهداف العلمية لكل طبقة، وخص الطبقات الثلاث الأولى لدراسة العلم الشرعي
>[4] وهي:
[ ص: 225 ] أولا: من قصد «البلوغ إلى مرتبة في الطلب لعلم الشرع، يكون عند تحصيلها إماما مرجوعا إليه، مستفادا منه، مأخوذا بقوله، مدرسا، مفتيا، مصنفا»
>[5] .
ثانيا: من قصد معرفة «ما طلبه منه الشارع من أحكام التكليف، والوضع على وجه يستقل فيه بنفسه، ولا يحتاج إلى غيره، من دون أن يتصور البلوغ إلى ما تصوره أهل الطبقة الأولى من تعدي فوائد معارفهم إلى غيرهم، والقيام في مقام أكابر الأئمة»
>[6] .
ثالثا: من «يرغبون إلى إصلاح ألسنتهم، وتقويم أفهامهم بما يقتدرون به على فهم معاني ما يحتاجون إليه من الشرع... من دون قصد منهم إلى الاستقلال، بل يعزمون على التعويل على السؤال عند عروض التعارض، والاحتياج إلى الترجيح»
>[7] .
وبناء على هـذا التقسيم الثلاثي لطلبة العلم الشرعي حدد
الإمام الشوكاني البرنامج الدراسي لكل طبقة، ووسائل تنفيذه، فرتب العلوم حسب التدرج في الطلب، كما عين مراجع كل علم، ورتبها حسب مراحل الطلب، مبينا القيمة العلمية لكل مرجع، وما يتميز به عن غيره. كما أوضح الأساليب التعليمية المتبعة في تلقي كل علم من العلوم، فقال
[ ص: 226 ] فيما يخص تلقي علم الحديث ومستويات الأخذ به: «ينبغي لطالب العلم بعد أن يقيم لسانه بما يحتاج إليه من النحو أن يقبل على سماع الكتب التي جمع فيها أهل العلم متون الأحاديث مقطوعة الأسانيد؛ كجامع الأصول، والمشارق، وكنـز العمال، والمنتقى لابن تيمية، وبلوغ المرام لابن حجر، والعمدة. ثم يسمع الكتب التي فيها الأسانيد؛ كالأمهات الست، ومسند أحمد، وصحيح ابن خزيمة، وابن حبان، وابن الجارود، وسنن الدارقطني، والبيهقي... فإذا قضى وطره من سماع كتب المتن والإسناد، اشتغل بشروح هـذه المؤلفات، فيسـمع منها ما تيسر له سماعه، ويطالع ما لم يتيسر له سماعه، ويستكثر من النظر في المؤلفات في علم الجرح والتعديل، بل يتوسع في هـذا العلم بكل ممكن وأنفع ما ينتفع به مثل: النبلاء، وتاريخ الإسلام، وتذكرة الحفاظ، والميزان، فإنه يجد في هـذه المؤلفات من الاخـتلاف في المترجم له، وذكر أسـباب الجرح والتعـديل ما لا يجده في غيرها كتهذيب الكمال وفروعه»
>[8] .
الأساس الثاني: شمولية المنهج الدراسي
لقد حصر التقليد حركة العقل الفقهي في أقوال أئمة المذهب المتبع، الأمر الذي أفضى إلى تضييق مساحة المعطيات التي تتأسس عليها المعرفة الفقهية، فأصيب العقل الفقهي بالنظرة الجزئية؛ لإقصائه من مجال البحث والنظر المعطيات النصية من الكتاب والسنة، وآراء أئمة المذاهب الأخرى،
[ ص: 227 ] والعلوم العقلية. وقد انعكس هـذا على المنهج الدراسي الذي قام على نوع من الحجر ضرب على عقول طلبة العلم، فحرموا من حقهم الطبيعي في حرية الاطلاع على مختلف المعطيات المعرفية المفيدة في تكوينهم العلمي.
من هـنا كان من أهداف الإمام الشوكاني في تجديد مناهج التدريس الفقهي تربية العقل الفقهي على مبدأ الشمولية في سعيه المعرفي، من خلال منهج دراسي، يضمن انفتاح الطالب على التراث الفقهي بأكمله، وعلى العلوم العقلية والأدبية.
أما الانفتاح على التراث الفقهي: فقد أكد فيه
الإمام الشوكاني على العناصر الآتية:
- الاطلاع على فقه المذاهب كلها: ذلك أن التفقه على مذهب واحد يثبت للطالب الفقاهة الصورية دون الفقاهة الحقيقية
>[9] .
- الاطلاع على كتب المحققين الجامعة لآراء وأدلة المذاهب؛ كمؤلفات ابن المنذر، وابن قدامة، وابن حزم، وابن تيمية، ومن سلك مسالكهم
>[10] ، فإن مثل هـذه المؤلفات توسع أفق الطالب العلمي، وتقوي ملكة الاستدلال عنده.
- دراسة مؤلفات أهل الإنصاف: الذين لا يتعصـبون لمذهب من المذاهب، ولا يقصـدون إلا تقرير الحـق؛ لأنـها تنمي ملكة النقد، والقدرة على المقارنة لدى الطالب. أكد
الشوكاني هـذا المعنى في قولـه:
[ ص: 228 ] «... ينتفع بها، ويستعين بأهلها، فينظر فيما قد حرروه من الأدلة، وقدروه من المباحث، ويعمل فكره في ذلك، فيأخذ ما يرتضيه ويزيد عليه ما بلغت إليه قدرته، ووصلت إليه ملكته، غير تارك البحث عن تصحيح ما قد صححوه، وتضعيف ما قد ضعفوه على الوجه المعتبر»
>[11] .
أما الانفتاح على العلوم العقلية والأدبية: فقد أكد
الإمام الشوكاني ضرورة اطلاع أهل الطبقة الأولى من الطلبة -على وجه الخصوص- على العلوم العقلية والأدبية، إذ المتصور منهم الإلمام بمختلف العلوم العامة بعد رسوخهم في علوم الشريعة، فقال: «فإذا قدمت العلم بما قدمنا لك من العلوم الشرعية فاشتغل بما شئت، واستكثر من الفنون ما أردت، وتبحر في الدقائق ما استطعت»
>[12] . ولم يحصر هـذه العلوم في عدد معين أو أنواع معينة، بل اعتبر أن «العلم بكل فن خير من الجهل به بكثير، ولا سيما من رشح نفسه للطبقة العلية والمنزلة الرفيعة»
>[13] .
ومن العلوم العقلية التي أرشد إلى تعلمها:
- علم المنطق: لأن «العلم بهذا الفن على الوجه الذي ينبغي، يستفيد به الطالب مزيد إدراك، وكمال استعداد عند ورود الحجج العقلية عليه»
>[14] .
[ ص: 229 ] - العلوم التطبيقية: لأنها في نظر الشوكاني «من أعظم ما يصقل الأفكار، ويصفي القرائح، ويزيد القلب سرورا، والنفس انشراحا؛ كالعلم الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب»
>[15] .
وفي إطار دعوته إلى دراسة هـذه العلوم، انتقد ظاهرة أفرزها تقوقع المنهج التربوي الفقهي على العلوم الشرعية دون غيرها، وهي التشنيع على بعض العلوم العقلية دون معرفة حقيقتها، معتبرا هـذا السلوك مخالفا لمبدأ الإنصاف، وحطا من قدر العلم والمعرفة، فقال: «وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم، ويجري على لسانه الطعن في علم من العلوم لا يدري به، ولا يعرفه، ولا يعـرف موضوعه، ولا غايته، ولا فائدته، ولا يتصوره بوجه من الوجوه. وقد رأينا كثيرا ممن عاصرنا، ورأيناه يشتغل بالعلم، ويصنف في مسائل الشرع، ويقتدي به بالدليل، فإذا سمع مسألة من فن من الفنون التي لا يعرفها؛ كعلم المنطق، والكلام، والهيئة، ونحو ذلك، نفر منه طبعه، ونفر عنه غيره، وهو لا يدري ما تلك المسألة ولا يعقلها قط، ولا يفهم شيئا منها»
>[16] .
وأكد
الشوكاني أن السلوك العلمي يقتضي السكوت أو الكف عن ذم أو مدح أي علم من العلوم حتى يتم الوقوف على حقيقته، قـائلا:
[ ص: 230 ] «...فما أحق من كان هـكذا بالسكوت، والاعتراف بالقصور، والوقوف حيث أوقفه الله، والتمسك في الجواب إذا سئل عن ذلك بقوله: لا أدري. فإن كان ولا بد متكلما، ومادحا أو قادحا، فلا يكون متكلما بالجهل، وعائبا لما لا يفهمه، بل يقدم بين يدي ذلك الاشتغال بذلك الفن حتى يعرفه حق المعرفة، ثم يقول بعد ذلك ما شاء»
>[17] .
ولقد اعتبر
الشوكاني هـذه العلوم أدوات مفيدة للدفاع عن الحق ولإيصاله للآخرين فقال: «ولقد وجدنا لكثير من العلوم التي ليست من علم الشرع نفعا عظيما، وفائدة جليلة في دفع المبطلين والمتعصبين وأهل الرأي البحت، ومن لا اشتغال له بالدليل»
>[18] .
وضرب على ذلك مثالا بعلم المنطق، وكيف أنه يسهل إمكانية الدخول في حوار علمي مع أصحاب التخصصات العقلية، ويمكن من مناقشتهم وإقناعهم بمقتضى منطق تفكيرهم فقال: «فإنه إذا اشتغل من يشتغل منهم بفن من الفنون؛ كالمشتغلين بعلم المنطق، جعلوا كلامهم ومذكراتهم في قواعد فنهم، ويعتقدون لعدم اشتغالهم بغيره أن من لا يجاريهم في مباحثه ليس من أهل العلم ولا هـو معدود منهم، وإن كان بالمحل العالي من علوم الشرع، فحينئذ لا يبالون بمقاله، ويوردون عليه ما لا يدري ما هـو، ويسخرون
[ ص: 231 ] منه، فيكون فـي ذلك من المهانة على علماء الشريعة ما لا يقدر قدره. وأما إذا كان العالم المتشرع المتصدر للهداية إلى المسالك الشرعية والمناهج الإنصافية عالما بذلك، فإنه يجري معهم في فنهم فيكبر في عيونهم، ثم يعطف عليهم، فيبين لهم بطلان ما يعتقدونه بمسلك من المسالك التي يعرفونها، فإن ذلك لا يصعب على مثله. ثم بعد ذلك يوضح لهم أدلة الشرع، فيقبلون منه أحسن قبول، ويقتدون به أتم قدوة»
>[19] .
وبين الشوكاني أن الجهل بهذه العلوم يقطع طريق الصلة بين عالم الشريعة وعلماء التخصصات الأخرى، كما يفوت على هـؤلاء فرص الاطلاع على العلم الشرعي، وهو ما لخصه في قولـه: «وأما العالـم الذي لا يعرف ما يقولون، فغاية ما يجري بينه وبينهم خصام وسباب ومشاتمة، فهو يرميهم بالاشتغال بالعلـوم الكفرية، ولا يدري ما هـي تلك العلوم، وهم يرمونه بالبلادة وعـدم الفهم، والجهل بعلم العقـل، ولا يدرون ما لديه من علم الشرع»
>[20] .
وإضافة إلى العلوم العقلية فقد أكد
الشوكاني ضرورة اطلاع أهل الطبقة الأولى خاصة على أشعار فحول الشعراء، واستخراج لطائف المعاني منها، فإنه يقتدر بذلك على النظم والتصرف في فنونه؛ لأن من كان بهذه
[ ص: 232 ] المنـزلة الرفيعة من العلم ولا يقتدر على النظم كان ذلك خدشة في وجه محاسنه، ونقصا في كماله
>[21] .
كما حث الشوكاني أصحاب هـذه الطبقة على النظر في بلاغات أهل الإنشاء المشهورين بالبيان، وفصاحة اللسان لاكتساب القدرة على حسن الإنشاء، والسبب في ذلك كما قال: «...أنه ينبغي أن يكون كلامه -أي: المجتهد- على قدر علمه، وهو إذا لم يمارس جيد النظم والنثر كان كلامه ساقطا عن درجة الاعتبار عند أهل البلاغة، والعلم شجرة ثمرتها الألفاظ»
>[22] .
كما أن عدم تمكنه من حسن الإنشاء والتعبير يجعله في نظر الشوكاني ضحية من يتقنون التلاعب بالألفاظ والمصطلحات، وهذا ما عبر عنه قائلا: «وما أقبح بالعالم المتبحر في كل فن أن يتلاعب به فـي النظم والنثر من لا يجاريه في علم من علومه، ويتضاحك منه من له أدنى إلمام بمستحسن الكلام ورائق النظام»
>[23] .
إن المستفاد من دعوة الشوكاني إلى التفتح على العلوم العقلية والأدبية أنها أدوات تمكن الفقيه من اقتحام الساحة الثقافية، والعلمية العامة، وإيصال الخطاب الإسلامي إلى جميع فئات المجتمع، والخروج من دائرة الحديث مع الذات.
[ ص: 233 ]