المحدد الأول: بيان مفهوم تجديد المنهج الأصولي
لا شك أن أهم إشكالية أثارتها قضية تجديد الفقه الإسلامي هـي تجديد علم أصول الفقه؛ والسبب في ذلك العلاقة التلازمية بين العلمين. وبما أن قضية تجديد أصول الفقه تعد عند الكثيرين الخطوة الأولية للكلام عن تجديد الفقه، فقد تناولها كثير من الباحثين بالدراسة والتحليل. وقد أفرزت هـذه الدراسة وذلك التحليل إشكاليات فرعية، بعضها يمس مبدأ التجديد في حد ذاته، وبعضها يمس منهج التجديد وتطبيقاته. لكن أهم خطوة منهجية يجب على الباحثين الفصل فيها هـي المشروعية التاريخية لتجديد علم أصول الفقه؛ لأن هـذه القضية تمثل المقدمة المنهجية الأولى لبحث الموضوع؛ وذلك لأن حصول أي اتفاق على مسـتواها سيجنب
[ ص: 250 ] الباحثين الكثيـر من الاختلافات اللفظية الخارجة عن محل النـزاع، والذي يكون فيها مورد الإثبات غير مورد النفي. كما ستمكن هـذه الخطوة الباحث في الموضوع أن ينظر إليه نظرة موضوعية مجردة عن ردود الأفعال التي تفرزها الأطروحات المختلفة في الموضوع.
والحقيقة أن الدراسة لتاريخ علم أصول الفقه تبين أنه مر بمراحل تاريخية مختلفة، عالج في كل مرحلة منها إشكاليات وأبعادا جديدة اختلفت عن تلك التي عالجها في المرحلة السابقة لها؛ وذلك بغية تحقيق الاستجابة المطلوبة للتحديات الفكرية والواقعية التي واجهته في كل مرحلة، والذي يؤكد هـذه الحقيقة التاريخية محطات بارزة في حركية الفكر الأصولي. فإذا اعتبرنا
الإمام الشافعي المحطة الأولى، نجد أن جهده في كتابه: الرسالة، تمثل في ضبط مسيرة الاجتهاد بجمع أشتات مناهج الاستنباط التي كانت في عصره، وعرضها في صورة منظمة، وجعلها علما متناسق الأجزاء، إلا أن تدوين الإمام الشافعي لعلم أصـول الفقه لا يعنى اكتمال هـذا العلم بحيث لم يبق مجالا لمن بعده، بل إن الفكر الأصـولي شهـد بعد
الإمام الشافعي تطورا في الشكل والمضمون؛ بسبب تـنوع مدارك وتخصصات العلماء الذين بحثوا في هـذا العلم -محـدثون، ولغويـون، وعلماء كلام، وغيرهم- وكذلك بسبب دخول فن التصنيف والترتيب على كل العلوم، بما فيها علم أصول الفقه.
[ ص: 251 ] ولعل أهم محطة في التجديد الأصولي بعد الإمام الشافعي هـو
الإمام الرازي الجصاص (370هـ) فـي كتابه: الفصول فـي الأصول،
>[1] ، الذي تضمن إضافات على مستوى المضمون والشكل:
فعلى مستوى المضمون: أكمل المباحث اللغوية، ومدلولات الألفاظ، والموضوعات المشتركة بين الكتاب والسنة، والمباحث التي تستقل بها السنة عن الكتاب، كما طور البحث في دليل الإجماع، والقياس، والاستحسان، ومبحث الاجتهاد.
أما على مستوى الشـكل والصياغة: فقد تجاوز العرض المتفرق لمباحث الأصول الذي شهده كتاب: الرسالة للشافعي، وذلك بترتيبه للأبواب والفصول ترتيبا منطقيا، وعرضه لمباحث الكتاب عرضا علميا منظما.
كما مثل كتاب: المستصفى، لأبى حامد الغزالي (م 505هـ) محطة مهمة في تجديد علم أصول الفقه، إذ تضمن إضافة نوعية على مستوى المضمون تمثلت في مقدمة في مدارك العقول، واحتوت مباحث كلامية ولغوية هـي من صميم علم المنطق. واعتبر
الإمام الغزالي هـذه المقدمة مدخلا ضروريا لجميع العلوم بما فيها علم أصول الفقه، وأن من لم يحط بها فلا ثقة بعلومه أصلا. كما بحث بمنهجية جديدة موضوع القياس ، وباقي
[ ص: 252 ] الأدلة المختلف فيها.
أما على مستوى الصياغة: فقد رتب
الغزالي في كتابه: المستصفى، المادة الأصولية في إطار هـيكلة لم يسبق إليها، حيث قسم الموضوعات الأصولية على أربعة محاور، المحور الأول: الحكم، والثاني: أدلة الأحكام، والثالث: كيفية استثمار الأحكام، والرابع: حكم المستثمر.
وقد تبنى الأصوليون بعد الإمام الغزالي هـذه الهيكلة، الأمر الذي جعل كتاب: المستصفى، نقطة الاستقرار لكل من المضمون والشكل في مجال أصول الفقه إلى غاية القرن الثامن الهجري، حيث مثل كتاب: الموافقات للإمام الشاطبي، نقلة نوعية في علم أصول الفقه؛ وذلك لأن الفكر الأصولي بعد القرن الخامس وجد نفسه أمام معضلتين:
المعضلة الأولى: هـي تركيز التأليف الأصولي على الركن الأول من ركني هـذا العلم؛ أي: علوم اللسان العربي، وإهمال الركن الثاني؛ ألا وهو علم أسرار التشريع ومقاصده. وقد سجل
الدكتور عبد الله دراز هـذه الحقيقة في مقدمة كتاب الموافقات حيث قال: «وقد وقف الفن منذ القرن الخامس عند حدود ما تكون منه في مباحث الشطر الأول، وما تجدد من الكتب بعد ذلك دائر بين تلخيص وشرح، ووضع له في قوالب مختلفة، وهكذا بقي علم أصول الفقه فاقدا قسما عظيما، وهو شطر هـذا العلم الباحث عن أحد ركنيه، حتى هـيأ الله سبحانه وتعالى
أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن الهجري لتدارك هـذا
[ ص: 253 ] النقص، وإنشاء هـذه العمارة الكبرى في هـذا الفراغ المترامي الأطراف في نواحي هـذا العلم الجليل»
>[2] .
المعضلة الثانية: تميز واقع الاستدلال الفقهي في معظم أصوله بالظن، وعدم تقارب المدارك فيه بسبب تبعية أصول الفقه لمقتضيات المذاهب الفقهية المختلفة، فاقتضى هـذا الوضع الذي استقر عليه علم أصول الفقه، أن يمس جهد
الشاطبي التجديدي صلب المنهج الأصولي؛ لينعكس بعد ذلك على موضوعاته وهيكله.
فقد بنى الشاطبي المنهج الأصولي على ركيزتين:
الركيزة الأولى: استجلاء مقاصد الشريعة؛ لعظيم أهميتها في عملية استنباط الأحكام.
الركيزة الثانية: بناء علم أصول الفقه على منهج الاستقراء ؛ أي استقراء الفروع الفقهية لاستخلاص قواعد الاستنباط، وذلك عن طريق البحث في جملة من الأصول المقاصدية التشريعية التي من شأنها التقريب بين مدارك الفقهاء، وتوحيد منطلقاتهم النظرية.
مما سبق يتبين أن جهد الشاطبي الأصولي التجديدي جاء لإكمال الشطر الثاني من علم الأصول، وهو العلم بمقاصد الشرع، كما جاء أيضا لتصحيح المنهج الأصولي؛ بتقريب هـوة الاختلاف النظري فيه، وفي ذلك
[ ص: 254 ] إحياء لهذا المنهج، وإعطاؤه دفعة جديدة تجعله منهجا فعالا منتجا، جامعا لا مفرقا.
إن هـذا الهدف الذي وجه
الإمام الشاطبي جهده إليه أنتج إضافات نوعية كانت فتحا لعلم أصول الفقه، ذلك أن اعتبار الشاطبي المقاصد أساس النظر الأصولي، وسعيه لتقعيدها كعلم قائم بذاته جعلته يؤسس لفقه التنزيل، هـذا الجانب الذي كان يمثل البعد الغائب في الفكر الأصولي. وبهذا العمل الجبار انتقل الشاطبي بعلم أصول الفقه من دائرة التنظير للفهم إلى دائرة التنظير للتنزيل، وقد مكنه هـذا المنحى الذي اتخذه من تطوير البحث في بعض الأدلة؛ كالاستحسان ، والمصلحة ، وسد الذرائع ؛ إذ خرج بها من دائرة المناقشة النظرية حول المفهوم والحجية إلى استثمارها كمناهج وآليات لفهم الواقع، واعتبارها عند تنـزيل الأحكام الشرعية.
كما راجع نظرية الاجتهاد، ففرق بين الاجتهاد النظري والاجتهاد التطبيقي الذي عبر عنه بالاجتهاد في تحقيق المناط، وعرفه بقولـه: «أن يثبت الحكم الشرعي بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله»
>[3] .
واقتضى التأصيل لهذا النوع من الاجتهاد من الإمام الشاطبي ضبط أصوله، وهي في نظره ثلاثة: تحقيق المناط، واعتبار مآلات الأفعال، واعتبار المقاصد.
[ ص: 255 ] كما راجع شروط المجتهد؛ إذ عد معرفة الواقع أساس الاجتهاد التطبيقي، وهذا شرط لم يذكره الأصوليون في شروط الاجتهاد بالتنصيص عليه صراحة، وإن كان متضمنا في اجتهاداتهم
>[4] .
لكن الجدير بالذكر في هـذا المقام أن جهد
الإمام الشاطبي لم يكن له أي أثر في التطبيق؛ نظرا للوضعية التي كان يعيشها الفقه الإسلامي في تلك الفترة، ذلك أنه بسبب استفحال دعوى غلق باب الاجتهاد في عصور التقليد المتأخرة لم يبق متداولا من علم أصول الفقه إلا القسم المتعلق بدلالة الألفاظ، مع طغيان المجادلات اللفظية عليه.
وإضافة إلى هـذه المحطات الرئيسة التي تؤكد ملازمة حركة التجديد للفكر الأصولي عموما فقد لازم النظر التجديدي بعض الموضوعات الحساسة لعلم أصول الفقه، كان أهمها مصدر الإجماع، والقياس. فالقول بالإجماع انتقل من القول بحجيته بإطلاق، إلى القول بحجيته عند الصحابة فقط، واستحالة تحققه بعدهم، كما هـو القول عند
ابن حزم الأندلسي ،
والإمام أحمد بن حنبل ،
والشوكاني ، وغيرهم.
والقياس اختلف في مفهومه، ثـم فـي حجيته. فهو عند
الشافعي رديف الاجتهاد، وهو عند غيـره ليس كذلك، وهو عند بعضهم حجة، وهو عند بعضهم الآخر ليس بحجة؛
[ ص: 256 ] كابن حزم ،
وداود الظـاهري ،
والشوكاني ، كما تردد فيه آخرون
كالغزالي ، وقد ظهر تردده بوضوح في كتابه: أساس القياس، الذي يفهم منه بقوة عدم اعتباره القياس دليلا مستقلا؛ لأنه فـي الحقيقة مدلول الـنص، أو عموم النص
>[5] .
والمجال في هـذا البحث ليس مجالا للترجيح بين هـذه الآراء أكثر منه لبيان استساغة فقهائنا الأجلاء الاختلاف في مفردات هـذا العلم، واقتراح آراء متباينة في شأنها؛ لأنها ليست مفردات معصومة، بل هـي اجتهادات بشر مستقاة من نصوص الكتاب والسنة، واجتهادات البشر قد تزل أحيانا وتصيب أحيانا أخرى، فلا ضير من التعليق عليها، ومخالفتها؛ شريطة أن تكون المخالفة مؤسسة على حجج علمية، لا على هـوى.
وإذا تأكد أن التحقيق والتجديد والتطوير قد لازم الفكر الأصولي ومفرداته منذ نشأته، احتاج المقام بعد ذلك إلى تأكيد حقيقة تاريخية أخرى؛ وهي أن توقف حركة الاجتهاد أثرت سلبا في نمو علم أصول الفقه، إذ اقتصر الباحثون فيه في عصر التقليد على شرح الكتب السابقة دون أي إضافة، أو اخـتصارها اختصارا مخلا أحالها إلى ألغاز
>[6] .
من هـنا لم يشهد علم أصول الفقه في عصور التقليد، لا سيما المتأخرة منها نموا نوعيا
[ ص: 257 ] -تستثنى من هـذا نماذج معينة؛
كابن تيمية والشاطبي والشوكاني رحمهم الله تعالى- بل فقد وظيفته؛ لأن باب الاجتهاد قد أقفل، فلم تعد ثمة حاجة إلى بذل مجهود في تنظير قواعد الاستنباط أو التنـزيل.
إن هـذا الأمر يؤكد أن فتح باب الاجتهاد من جديد، والسعي إلى تجديد الفقه الإسلامي يقتضيان بالضرورة تجديد علم أصول الفقه؛ ليستوعب المستجدات، ويحقق الاستجابة المطلوبة للتحديات الفكرية والواقعية والتشريعية التي تواجه المشروع الإسلامي، وهو ما جعل دعوة تجديد علم أصول الفقه تبرز بقوة في الساحة الفقهية، والفكرية المعاصرة.
غير أن المتأمل في الأطروحات النقدية للمنهجية الأصولية يجدها تفتقر إلى إشكالية واضحة وموحدة، الأمر الذي أفرز تيارين رئيسين داخل الحركة النقديـة، لكل منها تصـور خاص للإشـكالية، ولمنهج معالجتها:
التيار الأول: يمثله في الغالب الأعم المتخصصون في الفقه وأصوله، أطروحاتهم تمثل نقدا للمنهجية الأصـولية من داخل المنظومة الأصولية
>[7] .
[ ص: 258 ] وإشكالية علم أصول الفقه في نظر هـذا التيار تتركز في مفرداته، وهيكلة مادته، وهذا لا يمنع من أن يقدم هـذا العلم -إن تمت قراءته قراءة إسلامية واعية- مؤشرات هـامة على طريق معالجة إشكالية المنهج، وذلك من خلال الالتزام بما يأتي:
- تطوير مفهوم هـذه المفردات، وضبطها، وجعلها أقرب إلى الواقع العملي، ومثاله: تطوير مفردة: الإجماع ، بالتنازل عن بعض شـروطه حتى لا يبقى مثالا نظريا. والقياس باعتماد قياس المصلحة، والعدول عن القياس الجزئي؛ والاجتهاد بمراجعة شروطه وأدواته.
- إعادة هـيكلة المادة الأصولية؛ أي بحثها تحت تقسيمات جديدة، ليتولد عنها مفاهيم أعمق، واستعمال أفضل لأدوات الأصول، مما سيؤدي في النهاية إلى فقه متجدد خادم للموضوعات المثارة في عصرنا الحاضر.
ومن مقتضيات إعادة هـيكلة المادة الأصولية إلغاء ما ليس من علم الأصول، وإعطاء الأولوية لمقاصد الشريعة ، وتنمية دراستها، والعمل على وضع قواعد وضوابط لها.
كما أكد هـذا التيار على استخدام علم أصول الفقه لأدوات المنهج التجريبي، والاستفادة منها في معرفة: العرف ، والعادة ، والمصلحة ، والضرر ، والحاجة . فكل هـذه القضايا قواعد أصولية، وجزء من قضايا هـذا المنهج،
[ ص: 259 ] ولا يمكن أن يستغنى فيها عن الوسائل والأدوات المستعملة في المنهج التجريبي
>[8] .
وما يلاحظ على هـذا التيار اتفاق كبير بين ممثليه على موضوع تطوير المفردات الأصولية، في حين يلاحظ اختلاف واضح بينهم في منهج إعادة هـيكلة علم أصول الفقه، كما يلاحظ غموض بعض عناصر منهج تجديد المنهجية الأصولية عند بعضهم.
التيار الثاني: يمثله كثير من المفكرين المهتمين بإشكالية إصلاح مناهج الفكر، وهم في الغالب من خارج دائرة التخصص الشرعي، وأطروحاتهم تمثل نقدا للمنهجية الأصولية من الخارج
>[9] . واعتبروا أن إشكالية المنهج الأصولي في بنيته ومفرداته، فقدموا تصورا لمفهوم التجديد مغايرا لتصور التيار الأول، تمثل هـذا التصور في إعادة بناء منهجية اجتهادية جديدة تقوم على مستويين:
المستوى الأول: تجاوز المفردات الأصولية التي هـي عبارة عن مفاهيم نظرية لا تنتج علما ولا تواكب واقعا؛ مثل القياس والإجماع ، ومبدأ الضرورة .
[ ص: 260 ] المستوى الثاني: العودة مباشرة إلى النظر في النص القرآني لاستلهام الأدوات المعرفية الكفيلة بصياغة منهجية تساعد على فهم قضايانا، وتطوير معارفنا.
ولعل أهم ملاحظة يمكن تقديمها على هـذا التصور لتجديد علم أصول الفقه: هـي أن الدعوة إلـى اجتياز المحك المنهجي التقليدي -المنهجية الأصولية- دون إعطاء بديل منهجي واضح محدد ومضبوط هـو علاج لأزمـة بإثارة أزمة أخرى، ذلك أن مثل هـذه الدعوة تحاول معالجة (الفراغ التشريعي) الذي سببه -كما يقرر هـذا التيار- عجز المنهج الأصولي عن الاستجابة للمستجدات، بـ: فراغ منهجي، عن طريق الدعوة إلى البحث في النص القرآني والواقع الإنساني دون استحداث منهج بحث كامل متكامل.
إن الناظر في المناهج المقترحة في تجديد المنهجية الأصولية -التي مثلها بصفة إجمالية تياران- يجدها تفتقر إلى إشكالية واضحة وموحدة، وهذا الأمر أثر سلبا في مبدأ تجديد علم الأصول؛ إذ شكك بعضهم في مشروعية الدعوة وعلميتها، بينما تخوف بعضهم الآخر من أن تفتح هـذه الدعوة بابا لكثير من الانحرافات المنهجية والفكرية، وإن كان الإنصاف العلمي يقتضي الإقرار بأن عدم اهتمام بعضهم بهذه الدعوة سببه افتقاد القدرة
[ ص: 261 ] على التجديد والمراجعة. وذلك لأن دراسات أصول الفقه الحالية دراسات نظرية لا مجال فيها للدراسة التطبيقية، التي تؤهل المتخصصين في هـذا العلم لاستعمال معاييره وقواعده، واختبارها في معالجة الوقائع المستجدة، الأمر الذي جعل هـذه الأدوات عبارة عن معرفة موروثة، وليس منهج بحث يمكن استخدامه لإنعاش الحياة التشريعية في العصر الحاضر.
وردود الأفعال هـذه تجاه دعوة تجديد أصول الفقه تفرض التأكيد على قضية هـامة؛ وهي ضرورة اهتمام ذوي التخصصات الشرعية بمراجعة المنهجية الأصولية، حتى لا ينتهي الأمر إلى قطيعة بيـن الفكر الديني الذي لا يتأسس على الأصول، والفكر الأصولي الذي لا يتعايش مع الواقع.
ومما يلاحظ أيضا على التيارين الممثلين لدعوة تجديد أصول الفقه عدم تطبيق أطروحاتهما النظرية على قضايا الواقع، واختبار مدى صحة نتائجها، الأمر الذي جعل هـذه الدعوة لا تتجاوز الجدل النظري، بحيث ما قدم إلى الآن أفكار ومبادئ وخطط، لم يتم اختبارها بشكل دقيق كامل في إطار أكاديمي، الأمر الذي أوجد صراعا نظريا يتعلق كثيرا بالألفاظ والمصطلحات.
وهذه المرحلة يفترض أن تتجاوز؛ لأن العلم فـي الحقـيقة لا ينتج بالاكتفاء بالحوار حول كيفية إنتاج معرفة.
[ ص: 262 ] مما سبق يتبين أن المطلوب في موضوع تجديد المنهجية الأصولية هـو: صياغة إشكالية ناظمة موحدة، ووضـع بديل منهجي محـدد ومنضبط. ومما يساعد على ذلك:
1 - دراسة أصول الفقه منهجا: أي دراسة المنهج في ذاته، وليس موضوعاته، ومحاولة التعرف على مكوناته وعناصره من خلال بيان الأسس والمبادئ التي يقوم عليها، والمراحل والخطوات التي يمر بها الأصولي من بداية الاستدلال إلى آخره، والشروط التي ينبغي تحقيقها ليمكن الوفاء بمقتضيات هـذا المنهج ومتطلباته.
فهذا النوع من الدراسة سيكون على النحو الذي يقوم به علماء المناهج في دراستهم لمختلف المناهج (التاريخي، والاستقرائي...إلخ) ، وسيفيد في إعطاء تصور دقيق لعلم أصول الفقه، وللمشكلات التي يمكن أن تواجه الباحث فيه.
2 - صياغة المادة الأصولية في شكل نظريات على غرار النظريات الفقهية، يتم من خلالها معالجة الموضوعات الأصولية في إطار كلي شمولي. وهذا النوع من التصنيف يمكن من فهم أعمق وأشمل للقضايا الأصولية، ويظهر مبنى الخلاف وسببه، كما يبين فائدة بعض الأدلة التي يثار حولها نقاش كبير
>[10] .
[ ص: 263 ]