تقديم بقلم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان،
( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة:31) ،
وجعل المعرفة والقراءة وتنمية التفكير مفتاح الإيمان وسبيل النهوض الحضاري.. كرم الإنسان بحرية الاختيار، ومنحه قابلية التعلم، وبين له، عن طريق معرفة الوحي، معالم طريق الخيـر، وغوائل طريق الشر،
فقال تعالى:
( وهديناه النجدين ) (البلد:10) ،
وجعل الترقي، وسلوك طريق الاستقامة، والتغيير، والتنمية، من الأمور الكسبية، المنوطة بتكليف الإنسان، ومسئوليته، وحرر العقل الإنساني من الخوارق والخرافات، وعتق نفسه من الخوف والقنوط، وحماه من السقوط والعبودية لغير الله، بضمان رزقه وأجله، وشرع له السنن والقوانين في الأنفس والآفاق، ودعاه للتعامل معها وتسخيرها، وقدم له نماذج الاقتداء.
وجعل سبحانه المسئولية فرع الحرية، وعمم المسئولية والتبعة في المجالات كلها، ورتبها بحسب أهميتها، فبدأ بمسئولية الأسرة والبيت بالنسبة للمرأة والرجل على حد سواء، وسوى بين الأسرة والإمامة
[ ص: 5 ] العظمى؛ لأنها الأساس لكل المسئوليات، كما جعلها اللبنة الأولى في بناء المجتمع المدني، وأساس علاقاته الاجتماعية، والمحضن الأول للرعاية والتنمية والتربية والتعلم،
( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها» ) (أخرجه
البخاري ) .
والصلاة والسلام على الرسول القدوة، الذي خضع في حياته كلها، حمله وولادته، وطفولته، ويتمه، وزواجه، وأبوته، وطعامه، وشرابه، ومرضه، وصحته، ووفاته، للسنن والقوانين الطبيعية، ليكون أنموذجا يمكن للإنسان الاقتداء به، في أبعاد حياته كلها وظروفه جميعا، فكانت أقواله وأفعاله وحياته مصدرا لكل خير واعتبر المسئولية عن الأسرة، تبدأ من قبل الزواج، وذلك بوضع معايير لاختيار المرأة والرجل، حتى يكونا مؤهلين لرعاية الأطفال، وبناء الأسرة؛ كما وضع من الآداب والضوابط والحقـوق والواجبات ما يضمن سلامة الأسرة، وحسن سيرها واستمرارها، وأذن بإيقافها عندما تتحول إلى بؤرة للمخاطر والإصابات.
وبذلك أصبحت الأسرة المسلمة تمثل الترسانة الفكرية والتربوية والثقافية لامتداد المجتمع الإسلامي وحمايته.
[ ص: 6 ]
وبعد:
فهذا كتاب الأمة، الثاني والتسعون: «الطفولة: ومسئولية بناء المستقبل»، للأستاذ الدكتور نبيل سليم ، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة
قطر ، مساهمة في تجديد الفهم بقيم الدين، ومحاولة لإعادة التشكيل الثقافي، وإزالة الحواجز النفسية والثقافية من ساحات الحوار، والنقاش، والتشاور، والتفاكر، والمدارسة، على مستوى الذات و (الآخر) ، وفك قيود التقليد والتعصب والتحزب وعلل التدين التي تسربت لواقع الأمة المسلمة، وشحذ الهمم للتوغل في التاريخ العام واكتشاف قوانين السقوط والنهوض الحضاري، وأخذ العبرة والخبرة من تجارب الذات و (الآخر) ، وتحقيق الوقاية الحضارية، وإحياء المنهج السنني، والتدريب على كيفية التعامل معه من خلال النماذج التي عرض لها القرآن والسنة، والعبر التي قدمها التاريخ انطلاقا من قولـه تعالى:
( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران:137-138) .
ولعل من أهم وسائل التسديد والتقويم والارتقاء، محاولة تقديم دراسات ونماذج من حركات الإصلاح والتغيير والتجديد للإفادة منها، وتحديد مواطن القصور وأسباب التقصير، والعودة بالأمة إلى الينابيع الأولى
[ ص: 7 ] في الكتاب والسـنة، والتدريب الذهني والميداني على تقويم الرجال بالحق لا تقويم الحق بالرجال، تحت عنوان: «اعرف الحق تعرف أهله»، وكشف علل تدين الأمم السابقة التي بدأت تتسرب إلى عالم المسلمين وتقيم فيهم كهانات دينية، وكيانات وهمية، وطقوس وإقطاعات بشرية منفصلة عن جسم الأمة، وطوائف مفتونة بفكرها وذاتها، يسيطر على تصورها ومسـاكنها قول الشـاعر: «السيف أصدق إنباء من الكتب»، فتندفع إلى الخوض في مواجهات ومعارك قد تساق إليها، وتقدم تضحيات غالبا ما يسـيطر عليها سوء التقدير والتبصر بالعواقب، وبذلك يغيب عنها قول الحكيم:
الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المكان الثاني
وتنكمش القيم الدينية عن واقع الحياة، وتعيش معزولة في بعض جوانبها أو بعض قطاعاتها أو مؤسساتها التقليدية، لتصبح هـي المعبر والعنوان على الإسلام.
ولعل الإشكالية التي وقع فيها الكثير من العاملين للإسلام، في الظروف المتنوعة، أنهم لم يبصروا الفضاء الواسع للعمل الإسلامي، حيث ميدان الدين هـو الحياة بكل جوانبها وآفاقها، وتمركزوا في مواقع محددة ومتوارثة، وتعاملوا مع وسائل محددة، وأصروا عليها، حتى في المراحل التي قد تصاب هـذه الوسائل بالعقم وعدم الجدوى، أو يستبين خطؤها، وكأنها
[ ص: 8 ] أصبحت جزءا عضويا، وبذلك عطلت المجالات المتنوعة والمتاحة بحيث أصبحت ثغورا مفتوحة في الحياة الإسلامية، يلج فيها (الآخر) ، ويسكنها بثقافته وقيمه وعاداته، ويبقى نصيبنا منها البكاء على الأطلال.
وقد نقول : بأن العقل المسلم قد أصيب بالعجز عن إبصار دوائر الخير في الأمة والمجتمع، وافتقد القدرة على إبداع الوسائل المناسبة، للدخول إليها والتوسع فيها، وبسط القيم والأخلاق الإسلامية على حياة الأمة، واعتبار الحياة ساحة جهاد متنوع الوسائل تقتضي باستمرار التحرف لقتال، والتحيز إلى فئة، حيثما تعجز الوسائل المستخدمة عن تحقيق الأهداف.
ولعل من الإصابات الكبيرة، أو الانعكاسات الخطيرة لهذه العقلية، أن المجال الفكري أو الخارطة الفكرية للعقل المسلم، الفكري والفقهي على حد سواء، محددة بمجموعة قضايا ومسائل، نبدي ونعيد، نشرح ونختصر، نحقق وندقق، ونقيم عليها مجموعة من الدراسات العليا، والحلقات العلمية، ومعظم موضوعات المجلات المحكمة والكتب العلمية والأكاديمية والسمنارات، وعلى أحسن الأحوال فعملنا يمكن أن يصنف تحت عنوان: «إعادة الإنتاج»، وبذلك نظل نراوح في مكاننا، لدرجة أن هـذه القضايا أصبحت تملكنا وتحكمنا ولا نملكها، إضافة إلى أن اهتماماتنا وقضايانا ووسائلنا أصبحت معلومة لخصومنا، وحتى أعدائنا، إن لم نقل بأنهم
[ ص: 9 ] يساهمون بصناعتها، بشكل مباشر أو غير مباشر، دون أن يخطر ببالنا التحول والتجاوز إلى مواقع وفضاءات كثيرة نملـكها ولا تملكنا، نحكمها ولا تحكمنا.
إن انكماش الفهم الإسلامي واقتصاره على مجالات محدودة ووسائل محددة أغرى بعض المتخصصين في الشعب المعرفية المتنوعة، من الذين عجزوا عن إبصار القيم الإسلامية من خلالها، أن يغادروا اختصاصاتهم إلى منابر الإرشاد.
وما أكثر القضايا والمشكلات والأزمات الإنسانية اليوم التي تتطلب بحثا ودراسة واجتهادا وحلولا تقدمها قيم هـادية، وتجسدها في نماذج تغري بالاتباع، وتبين أن حياة الضنك الذي يعيشها العالم، بشقيه الغني والفقير، إنما هـي بسبب تأله الإنسان الذي أدى إلى تسلط الإنسان على الإنسان.
إن مشـكلات انتهاك حقوق الإنسان وغيابها، وقضايا الصحة، والبيئة، والتنمية، والأسرة، والمياه، والتضخم ، والخلل في توزيع الثروات، وارتفاع نسـب الإعاقة، وانتـشار الأمـراض التي لم تكن في الأسلاف، هـي ظواهر ونذر خطر تشكل لنا فرصة ولحظة تاريخية يمكن التقاطها، ليس بالتمني، وإنما بتقديم دراسات وبحوث موضوعية عن الأسباب والفلسفة الحقيقية والمناخ الثقافي الذي شكل الرحم لولادتها.
[ ص: 10 ]
وفي اعتقادي أن عصر العولمة والإعلام وانفتاح العالم على بعضه، ثقافة وحضارة، إنتاجا واستهلاكا، وتدفقا للمعلومات، والإغراق الإعلاني، والتحول صوب الاستهلاك، ومحاولات الهيمنة الثقافية والإعلامية والتعليمية والعسكرية، والتحول عن العلوم الإنسانية التي تحاول الارتقاء بخصائص وأفكار الإنسان إلى العلوم التقنية التي تهتم بوسـائل وأشياء الإنسان، على حساب خصائصه وصفاته، لا لشيء إلا لأنها تؤمن الغلبة والهيمنة والسطوة والتسلط، يضع المسلم، وريث النبوة الخاتمة، صاحب الرسالة العالمية الخالدة، أمام مسؤوليات كبيرة وفضاءات واسعة ومشكلات إنسانية وعالمية وأمانة كبرى تنوء بحملها السموات والأرض والجبال، لتقديم الرؤية الإسلامية، والحلول الإسلامية المقنعة، المستمدة من معرفة الوحي في الكتاب والسنة، بعيدا عن عبث الإنسان وأهوائه، التي انتهت بالعالم إلى ما صار إليه، وهذا لا يتأتى إلا بالجهد، والجهاد، والاجتهاد، والتخصص، والإحاطة بعلوم العصر.
إن نعي الحضارة المعاصرة، والاكتفاء بذكر مفاسدها وآثامها، ومحاولة الإيواء من طوفانها إلى جبل يعصم من المفاسد، والانسحاب إلى غرفة الانتظار، دون التفكير بالمشـاركة في بناء سفينة النجاة، مؤذن بالهلاك والغرق في ثقافة (الآخر) التي هـي أشبه بالطوفان، واستهلاك
[ ص: 11 ] (الآخر) وعادات وتقاليد (الآخر) التي تزحف في الأرض ويحتل إعلامها الهواء وتنـزل من السماء كالصواعق تصب من فوق الرءوس.
فالارتهان اليوم ثقافي وحضاري وصناعي وعسكري واستهلاكي... إلخ، الأمر الذي انتهى بعقلية بعضنا إلى ذهنية الاستحالة والانسحاب والاستسلام، كما انتهى ببعضنا الآخر إلى ذهنية الاستسهال، حيث أخطأ في التقويم، وأخطأ في التقدير، وأخطأ في الوسيلة، فعمد إلى المواجهة والارتطام، ومحاولة إتيان البيوت من ظهورها، دون أن يمتلك المفتاح الصحيح للدخول إلى الساحة العالمية وتقديم رؤية معرفة الوحي في الكتاب والسنة وقدرتها على الإجابة عن الإشكاليات المطروحة، وقدرتها على الإنقاذ وإلحاق الرحمة بالعالمين، وخلوصها من العنصرية والتمييز والشخصانية، ودورها المطلوب في استرداد إنسانية الإنسان، وإحلالها للتعارف والتعاون والتكامل والحوار محل الصراع والتقاتل والتظالم.
إن شمولية الإسلام وعالميته وتجربته التاريخية، وقيمه الخالدة، المجردة عن حدود الزمان والمكان، وعطائه الإنساني، وتأكيده على الأخوة الإنسانية ووحدة الأصل البشري، وبنائه للمشترك الإنساني، واعترافه (بالآخر) ، يؤهله، عندما يصبح المسلمون في مستوى إسلامهم، لانتشال البشـرية من أزمتها، لكن المشكلة عندما يكون المسلمون أنفسهم في
[ ص: 12 ] أزمة، ويسيطر عليهم فكر الأزمة، فينتهي بهم إلى أزمة الفكر التي تورث العجز والعطالة.
ولعل من الأهمية بمكان التفكير بكيفية التعامل مع هـذا العصر، الذي بدأ يتسـم بالعالمية بعد إزالة السدود والحدود واحتلال الهواء والفضاء، ولم يعد الدخول في حقبة العولمة خيارا بقدر ما هـو قدرا أشبه بعقود الإذعان، وما يقتضيه ذلك من التفكير الدائم بكيفية التعامل معها والإفادة من آفاقها وعطائها من خلال رؤية تنطلق من القيم والمعايير في الكتاب والسنة، وتستصحب المخزون التراثي، وترتقي نحو عالمية رسالة الإسلام.
وقد يكون المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى تخليص القيم الإسلامية مما لحق بها وترسب عليها من تصورات البشر وتقاليدهم، والخروج بها من حكر الكهانات البشرية والصناعات الدينية والحدود الجغرافية وأسر الألوان والأجناس، والتأكيد بتقديم النماذج على أن الإسلام خطاب إنساني لجميع البشر، ليس أحد بأحق به من أحد، الأحق هـو الأكثر التزاما بقيمه وتطبيقا لتعاليمه، مهما كان جنسه ولونه وجغرافيته وطبيعته.
فالأكرم هـو الأتقى، والإسلام مجتمع مفتوح لكل الداخلين، لذلك لابد من تفكيك القيود التي صنعها البشر حول قيمه، والعودة به إلى الرحابة والرحمة، إلى الساحة الإنسانية العالمية، فالإسلام ينأى بطبيعته عن
[ ص: 13 ] التعصب والتمييز والتسلط؛ والحضارة الإسلامية تاريخيا تنقلت بين أجناس وألوان وجغرافيا، وجاء عطاؤها مشتركا إنسانيا، لذلك فمن الصعب نسبتها إلى لون أو جنس أو جغرافيا.
وهنا قضية، لا نعتقد من التكرار ديمومة التأكيد عليها، وهي أن القيم المستمدة من معرفة الوحي في الكتاب والسنة هـي قيم ومنطلقات ومرجعيات وأسس واستراتيجيات ضابطة لمسيرة الحياة في مجالاتها المختلفة، وليست برامج وخطط تفصيلية؛ لأن ذلك منوط بمعرفة العقل وكسبه ونظره وعطائه ضمن الإطار المرجعي لمعرفة الوحي، فإذا توقف العقل أو عجز لسبب أو لآخر، أو سقط في حمـأة التقليد فعانى غربة الزمان والمكان، وتوقف عن الاجتهاد والتجديد، فقد وقع في محاصرة القيم وعزلها عن واقع الحياة، وعطل عطاءها، مهما ادعي خلودها وقدرتها على العطاء والإجابة عن الأسئلة الحياتية.
إن التوهم بأن القيم الواردة في الكتاب والسنة، الضابطة لمسيرة الحياة، المشكلة لفلسفتها، هـي برامج وخطط تفصيلية قادرة على تنظيم أمور الحياة بمجالاتها المختلفة دون فعل العقل، بحجة قدسيتها وخلودها وعصمتها وقدرتها التاريخية، وأن تعامل العقل معها اجتهادا وتجديدا، نيل منها وإساءة لها، يعتبر من الإصابات البالغة للعقل المسلم المعاصر، بل لعلها إشكالية العقل المسلم اليوم.
[ ص: 14 ]
وبالإمكان القول: إن هـذا التوهم يفسر إلى حد بعيد حالة التخلف والعطالة وانعدام الفاعلية، التي نعاني منها على الأصعدة المتعددة برغم وجود قيم الكتاب والسنة كما أنزلت بين ظهرنينا.
إن عطاء قيم الكتاب والسنة التاريخي، وقدرتها على العطاء وإخراج خير أمة للناس، تحمل الهداية والرحمة للعالمين، وتعالج مشكلاتهم في مختلف المجالات، يعتبـر شـاهد إدانة لفهمنا وتعاملنا، حيث أصبحت اليوم أشبه بالحجب والتمائم والتعاويذ التي ينتظر منها الخوارق والمعجزات عند كثير منا.
لقد كان الإنسان، المكلف المستخلف المكرم المسئول، وهو سيلة العمران وهدف الحضارة، هـو المحور الأساس الذي تمحورت حوله القيم الإسلامية في الكتاب والسنة، منذ خطواته الأولى في بدء الخلق، وتعليمه الأسماء، وتأهيله بالقابليات التي تمكنه من القيام بأعباء الاستخلاف، ومنحه الحرية والاختيار، وبيان طريق الهداية بمعالمه ووسائله، وطريق الضلال بنوازعه وعواقبه، والإجابة عن الأسئلة الكاملة عن رحلة الحياة وما بعد الموت حتى ينشئ الله النشأة الأخرى؛ لأن الإنسان هـو صانع الحضارة وهو هـدفها.
فجميع الرسالات السماوية، والقوانين الوضعية، والدراسات النفسية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والعسكرية والسياسية،
[ ص: 15 ] منطلقها الإنسان، وهدفها ومحورها الإنسان، حتى الدراسات التقنية والعلوم التجريبية وعلوم الطبيعة التي تتمحور حول تحقيق الغلبة والتسلط وتعنى بأشياء الإنسان أكثر من عنايتها بالارتقاء بخصائصه وصفاته وتأهيله لحمل رسالة الحضارة والخير، إنما هـي في نهاية المطاف تصب في سـاحة الإنسان والإنسانية، نفعا أو ضررا، تعميـرا أو تدميرا، سـلما وتـنمية أو حربا وتخريبا، إذا لم تتجه صوب تحقيق أهداف خيـرة واضحة، ولم تضبط مسيرتها بقيم إنسانية هـادية ومرشدة إلى الخير والعدل والسلام.
فالإنسان، هـذا المخلوق العجيب، يمتلك من الطاقات والقابليات والإمكانات والقدرات على التفكير والتطور ما الله به عليم، وحسبنا أن ننظر إلى رحلة العلوم والمكتشفات التي هـي من عطاء الإنسان، وحسبنا أن ننظر حتى إلى الإنسان الذي لحقت به بعض الإعاقات الجسدية، وما يأتي به من العجب العجاب عندما يستشعر التحدي ويخرج بـعض القدرات الكامنة في بعض حواسه السليمة التي يتجاوز بها الأسوياء.
إن من يعمل على اكتشاف الإنسان، بما يمتلك من طاقات وقدرات وإمكانات مذخورة في خلقه، وما يمكن أن يضطلع به من المهام ويحقق من الإنجازات، يدرك أهليته لحمل الأمانة التي تجاوزت استطاعة حملها قدرة السموات والأرض والجبال، قال تعالى:
( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها [ ص: 16 ] الإنسان ) (الأحزاب:72) . كما يدرك المخاطر والتداعيات المحتملة عندما ينفلت هـذا المخلوق من قيم السماء وعبودية الإله، وينقلب إلى الشرك أو الكفر ومنازلة الإله:
( أنا ربكم الأعلى ) (النازعات:24) والعياذ بالله.
لقد انطوت قصة الخلق كله في هـذا الإنسان، ولذلك سخر الله له الكون بما فيه؛ وما ذلك إلا لأنه مؤهل بما يمتلك من قابليات لهذه المهام، يقول الشاعر:
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
إن الله الذي جعل الإنسان محل خلقه وهدايته ونبوته ورسالته، وميزه عن الملائكة، أعلم وأخبر بمن هـو هـذا الإنسان، ودوره الممكن في هـذا الكون،
قال تعالى:
( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ) (الملك:14) .
فالإنسان مخلوق عجيب، مركب ومعقد، وقادر على التكيف والتغيير والفعل والاستجابة، لذلك كان ولا يزال عصيا على الدراسات الإنسانية والاجتماعية أن تسبر غوره، وتدرك حقيقته.. ومعظم الدراسات، على أهمية ما قدمت، ما تزال تعيش على شواطئ الحياة الإنسانية، فانتهت إلى مدارس ومذاهب ورؤى كثيرة، وكثيرة جدا، قد تصل في تعدادها إلى عدد المشتغلين فيها، إذ أن لكل مذهبه ووجهته
[ ص: 17 ] ورأيه، والكثير من هـذه الدراسات قائم على النسخ والنقض والإلغاء وادعاء الاكتشاف الجديد.
ونحن هـنا لا نريد أن نبخـس هـذه الرحـلة الفكرية حقها في بعض ما قدمت من ملامح حول النفس والمجتمع، يمكن أن تعتبر مفاتيح للفهم نسبيا، إلا أن معظمها ظنون يلفها الغموض والادعاء والضلال والوهم والجهل، حتى رأى بعضهم فساد المناهج وضرورة تطبيق منهج الدراسات التجريبية والعلوم التجريبية على علوم الإنسان، ظنا منه أن ذلك يمكن أن ينتهي به إلى نتائج مقنعة في مجال علوم الإنسان؛ لأن إشكالية تلك المناهج التائهة -فيما نرى- أنها تفتقد الدليل والبوصلة الحقيقية أو دليل التشغيل والصيانة والإصلاح من المصمم والمخترع والخالق المبدع لهذا الإنسان، وهو الله سبحانه وتعالى .
من هـنا نقول : إن معرفة الوحي من الناحية العلمية والمعرفية وفرت على الإنسان الكثير من الجهود والتجارب وهدر الأوقات والأعمار في رحلة الخطأ والصواب، وحمته من الضلال، وقدمت له دليل التشغيل والتعامل وكيفيات الصيانة ومعالجة الأخطاء، من العصيان والجنوح، وفتحت له باب التوبة والتصويب منذ فجر الخليقة عندما
( وعصى آدم ربه فغوى ) (طه:121) ، ومن ثم تلقيه كلمات الله ومعاودة الاستقامة
( فتاب عليه وهدى ) (طه:122) .
[ ص: 18 ]
وفي تقديري -والله أعلم- لو أننا استطعنا تقديم عطاء معرفة الوحي في إطار الإنسان بشكل سليم وصحيح، وأتينا لذلك على أدلة وبراهين من القصص القرآني، والتاريخ الحضاري العام، والواقع الذي يتخبط الناس فيه، وجاء تخصصنا في العلوم الاجتماعية والإنسانية مؤطرا بمعرفة الوحي، منطلقا وهدفا، وضوابط مسيرة، لكنا من الناحية العلمية والفكرية أولى بالإقناع، وإثارة الاقتداء.
فقد يكون الكثير من العلماء معذورين بموقفهم من الدين وذلك بسـبب ما ترسب في أذهانـهم عن رحلة التدين وممارسات رجال الدين وكهانه، الذين حاولوا إقناع العقول ببعض الأساطيـر والخرافات والخوارق، باسم الدين؛ وما تسرب من علل التدين عند الأمم السابقة لواقع المسلمين، وعجز بعض المتخصصين في العلوم الإنسـانية عن تأطير تخصصاتهم، وإبصار منطلقاتهم، وتحديد أهدافهم من خلال معرفـة الوحي، ومغـادرة هـذه التخصصات، التي تعتبر نوافذ ومفاتيح اجتماعية لتوصيل معرفة الوحي، إلى منابر الوعظ والإرشاد، التي لم يعدوا الزاد الكافـي للاضطلاع بها، ولم يحسنوها، وغاية ما يستطيعون منها الحماس وعلو الأصـوات وسمـاكة الحناجر؛ أو بسبب تطاول بعض المشايخ والمتدينين على الخوض في عـلوم ومعارف لا يمتلكون بعض علمها، إن لم نقل مجرد ثقافتها، فكيف والحال هـذه نكون مقنعين؟
[ ص: 19 ] يضاف إلى ذلك أن الكثير منا، من الذين يدعون العلم، يعيشون على إحصاءات ومكتشفات (الآخرين) لأخطائهم وأزماتهم، ويـكتفون بمجـرد ترديدها كدليل على عظمة الإسلام، فهم أعجز من أن يكتشفوا خطأ أو يتعرفوا على أزمة.. حتى الإصابات نتعلمها من (الآخر) !
في ضوء ذلك كله قد لا يكون غريبا، ولا مستهجنا، المساحات التعبيرية الكبيرة والكثيرة التي خصصها القرآن والسنة لموضوع الإنسان، اعتبارا من بدء الخلق وحتى ينشئ الله النشأة الآخرة، وهذه المساحات الهائلة التي أفردها للأسرة، التي تبقى تمثل بسـفينة نوح المنجـية في طوفان الحياة، فهي مكان نشوء الإنسان ومحضنه ومكان نموه الجسدي والعاطفي والعقلي.
ولئن كان الكثير مما جـاء عن أمـور الحياة في معرفة الوحي مجملا أو عاما أو قيما موجهة ومبادئ عريضة ومسارات عامة، فإن ما جاء في إطار الأسرة من الأمور التفصيلية، حتى أدق الدقائق والخبايا، النفسية والمالية والاجتماعية والاقتصادية، يلفت فعلا النظر إلى أهمية دور الأسرة بكل مكوناتها في وضع الأسس والمنطلقات وزرع بذور مستقبل الحياة السلوكية لمسيرة الإنسان ومصيره، ابتداء من أسس الاختيار لكل من الزوجين، وأحكام الخطبة، والعقد (الميثاق الغليظ) والولي والشهود، وحتى تنظيم الحياة الجنسية، والحمل والولادة، والاسم، والنسب، والرضاع
[ ص: 20 ] والحضانة، والوصـاية والولاية، والتربـية والتعليم، والذكورة والأنوثة، والإرث، والحقوق والواجبات، والجنايات، واليتم، والبنوة والأبوة، والتبني، والنفقة والعدة، والحيض والنفاس، والبنوة والعلاقات بالصغار والكبار والأبوين والأرحام والجيران والمحرمات من النساء.. الخ.
وحسـبنا أن نعلم أن المسـئولية عن الأطـفال ومن ثـم التربية -والتربية هـي التنمية- تبدأ من قبل الزواج، من لحظة الاختيار، وذلك باختيار الزوجة والزوج المؤهلين لهذه المهمة، وتمتد لما بعد الموت:
( إذا مات الإنسان انقطع عنه عـمله إلا من ثلاثة: إلا من صـدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ) (أخرجه
مسلم ) .
ولقد اعتبـر الإسلام للجنين حقوقا منذ لحظـة العلوق للحمل، كما اعتبر الطفل مؤهلا وقادرا على الاكتساب والامتصاص والتعرف على ما حوله ومن حوله، وإن عجز عن التعبير؛ لذلك كان من السنة الأذان في أذن الطفـل، لتكون كلمة التوحـيد ومرتكزات العقيدة أول ما يطرق سمعه.. كما شرع الإسلام ضوابط لحماية استمرار الأسرة بعيدا عن الإصابات النفسية والصحية والاجتماعية، ولم يأذن بتوقفها وانحلالها إلا عندما يبلغ الخطر مداه وتستنفد جميع الوسائل، فيكون جواز ارتكاب الضرر الأخف في سبيل درء الضرر الأعم، على أن يتم الفراق والتسريح بالإحسان، وحتى بعد الفراق نظم الإسلام ذلك، ورتب عليه حقوقا
[ ص: 21 ] وواجبات وآداب، وترك الباب مفتوحا لمراجعة النفس وإعادة ترميم الإصابات ومحاولة استئناف الحياة الأسرية.
وقدم الإسلام نماذج متنوعة من الأسرة في القصص القرآني استوعبت جميع الأشـكال والحالات والإصابات المتعددة، ابتداء من أدق القضايا النفسية وأكثرها خفاء، إلى طبيعة العلاقة الاجتماعية والقانونية، ليكون ذلك دليلا لكيفية التعامل مع الواقع الأسري بكل ظروفه وأشكاله.
قدم أنموذجا للمرأة المؤمنة والزوج الكافر الظالم، وقدم أنموذج المرأة الكافرة تحت الزوج الصالح المؤمن، وقدم أنموذج الابن العاق مع الأب المؤمن الصالح، والابن المؤمن مع الأب الكافر، ولا يتسع المجال لاستيفاء ذلك، فهو قرآن يتلى صباح مساء.
كما قدم نماذج للمرأة ودورها في الحياة، ورسالتها في تغيير المنكر والثبات على الحق، فسيدنا
موسى عليه السلام نبي من أولي العزم، تولت أمره امرأة كتمت أمر ولادته، ووضعته في التابوت، وألقته في اليم، حتى لا يقتله الحاكم الظالم الذي يذبح الرجال ويستبيح النساء، وتتبعت مسيرته:
( وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون ) (القصص:11) ،
وذهبت إليه بكل ثبات واطمئنان في بيت عدوه وعدوها، لترضعه وتطمئن عليه.. صحيح بأن ذلك وحي من وحي الله وقدر من أقداره، إلا أن ذلك في خطواته جميعا خضع للسنن والأسباب
[ ص: 22 ] الطبيعية، ليكون أنموذجا ودليل تعامل خالدا يحتذى، مجردا عن حدود الزمان والمـكان والأشخاص،
( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ) (القصص:8) ، وكانت النتيجة أن الذي قوض الحكم والظلم هـو الذي تربى في القصر. والسيدة
خديجة رضي الله عنها ، في الرسالة الخاتمة، ودورها البالغ الأثر والتأثير في الخطوات الأولى للنبوة، من حيث التثبيت والاستيعاب وحسن التصرف، الأمر الذي لا يحتاج إلى المزيد من الشرح والتفصيل، وإنما يحتاج إلى الفقه والتمثل والتنـزيل. وقد تكون المشكلة اليوم، سواء في إطار الأسرة أو في غيرها من المجالات الاجتماعية والثقافـية، أننا نبني تماثيل من الثلج ومن ثـم نبكي على ذوبانها، ويبقى السؤال المطروح: لماذا لا تنتـج أسـرنا اليوم عباقرة ومفكرين وعلماء وأبطالا وقادة، دون أن ندري ما جنته أيدينا.. إننا ندمر الأسرة كل يوم، إما عن جهل وسذاجة وإما عن كيد ومكر وتآمر. إن ما نراه من المفكرين والعلماء والعباقرة، على مستوى العالم اليوم، ما هـو إلا نتاج مجتمعات وأسر سابقة.. والذي يريد أن يستشرف المستقبل فما عليه إلا أن ينظر إلى واقع الإسرة اليوم، وعلى الأخص في بلاد الحضارة الغربية، التي بدأت تشكو من شيخوخة الشعوب، وزيادة عدد المسنين وقعودهم عن الإنتاج، وضآلة عدد الولادات، ومحاولة استيراد
[ ص: 23 ] البشر من أقاليم أخرى خشية الانقراض، بسبب تلاشي الأسرة تقريبا والعبث بكيانها، والمحاولات الدائبة على استبدالها بأنمـاط اجتماعية أخرى، هـي أشبه بالقيعان لا تمسـك ماء ولا تنبت كلأ، حيث الزواج المثـلي والشذوذ وفوضى العلاقات الجنسية وقضاء الشهوات خارج نطاق الأسرة، بكل الأشكال، للتهرب من المسئولية.
لقد استرجلت النساء وتأنث الرجال، وأصبحت تعقد لذلك المؤتمرات والندوات، حيث أصبحنا ننظر للمرأة في الرجل وللرجل في المرأة، رغم صيحات النذير هـنا وهناك، هـذا عدا عن الإصابات النفسية والعضـوية، وجفاف الأمومة بسـبب تعاطي المرأة أعمالا لا تتناسب مع طبيعتها.. لقد جف حليب الأمهات، وازداد عقم النساء، وتسربت الأمراض المزمنة.
فالحضارة المعاصرة بإصاباتها لم تنتج لنا إلا جنسا ثالثا، يفتقد عناصر الرجولة والأنوثة، وقد يقتصر على غريزة الفحولة.
إنها النتائج والثمرات المرة لفلسفات الجنس والشهوة واللذة والتحليل النفسي الذي قاده
فرويد في المجال النفسي،
ودوركهايم في المجال الاجتماعي، وقرأ العلاقات الأسرية قراءة جنسية، فالطفل يرضع ليمارس لذة الـجنس، والمرأة ترضع لتمارس شهوة الجنس، والبنت تحب أباها بدوافع ورغبة جنسية، والذكر يحب أمه بدوافع وشهوات جنسية (!) بدل
[ ص: 24 ] أن يقرأ ذلك قراءة سليمة، حيث الأسرة هـي مركز التدريب على العلاقات الاجتماعية، فالبنت تتعلق بأبيها لتكون مؤهلة لأن تصبح زوجة ناجحة حسنة العلاقة بزوجها، والذكر يتعلق بأمه ليتدرب ويحسن التعامل مع زوجته في الزواج الناجح.. لكنه انحراف الفطرة والتفسير الجنسي للتاريخ والعلاقات، الذي لم ينج من شروره حتى الأنبياء، وليس مذاهب الاجتماعيين بأقل سوءا...
وقد تكون الإشـكالية حقا أن تلك المشـكلات بدأت تتسـرب إلى الأسرة المسلمة، والمغلوب مولع دائما بتقليد الغالب، والتقلـيد نقل بلا وعي، وببغاء عقلها في آذانها وعيونها، لكن اسـتدرك هـنا لأقـول: إن الغلبة ما تزال عسكرية وسياسية وليست قيمية ثقافية حضارية، فكثيرا ما كانت ثقافة المغلوب أقوى من سواعد الغالب، مما يعطي بعض الأمل والعبرة بالعواقب، فحضارة المغلوب قد تكون أقدر على الهضم والتمثل والتجاوز من جند الغالب، والتاريخ الحضاري شاهد على ذلك.
فالأسرة المسلمة اليوم إذا لم تعتبر وتتعظ فالبلاء كبير، والعاقل الذي يعتبر بغيره، والأحمق من يكون عبرة لغيره.
وقد لا نجد كبير فرق، من حيث النتائج، بين انحلال الأسرة في الغرب، لأسباب لم تعد خافية، والاقتصار على علاقات جنسية إباحية موقوتة قد تتجاوز إلى استخدام الحيوانات تحت عنوان الصداقة، وبين
[ ص: 25 ] أسرة ما تزال ترتبط بعقد شـرعي لكنها تقتصر على علاقات الجـنس، أما مسئولية الأمومة والطفولة والأبوة وما إلى ذلك فهي تسير إلى الضياع على أيدي الخدم أو الأم البديلة، على الرغم مما يترتب على ذلك من مخاطر لغوية ونفسية وصحية واقتصادية وأمنية، لا تدرك بسهولة، وعند ظهورها وإدراكها تصعب معالجتها.
إن الأطفال اليوم في كثير من بيوتنا هـم أيتام، أو هـم الأيتام الجدد، على الرغم من وجود أبوين من الناحية الشكلية لا يدرون عنهم شيئا ويتركونهم للخدم والجيران أو للشوارع.
ولا يزال الكثير منا لا يعتبر عكوف المرأة للأمومة والرضاع والتربية عملا، على خطورة ذلك وأهميته (!) ومن العجب العجاب أن نفتح كليات التربية ونكتب عن أهمية التربية والتنمية واستشراف المستقبل، ونوبخ أنفسنا بمغادرة جيل المستقبل وندعه إلى قدره، ونعتبر الأمومة عطالة وحبسا للمرأة وتعطيلا لطاقاتها، ونعمل على إخراج المرأة للعمل حتى في أبسط الأعمال وأشقها على حساب العمل الأخطر، ويلقى ذلك استجابة عند المرأة؛ لأنها أيضا لا تدرك مهامها ومسئولياتها في الأمومة والتربية وتعتقد -بسبب عطالتها- أنها إذا لم تعمل فسوف تتحول إلى مهمة التنظيف والطهي والاتصالات الفارغة.
[ ص: 26 ]
وقد تكون هـاملة مهملة، تعاني الكثير من الأمراض النفسية وأنواع الاكتئاب لوجود طاقات فائضة تشكل عبئا عليها، خاصة وأن الحضارة الحديثة وفرت لها الكثير من الأدوات والجهود، فبدل أن تتفرغ لعملها الأصلي، التربية، أصبحت هـذه الأدوات عبئا عليها. وقد لا ترى من الأمومة إلا الانحباس في البيت والحرمان من الخروج. لذلك قد تكون المرأة العاملة أقدر على التربية من المرأة الهاملة، وليس الأمومة المطلوبة هـي في عدم الخروج من البيت، فما فائدة القعود في البيت إذا غابت الرسالة والعلم والفهم بالمهمة والمسئولية؟ وما قيمة الأم الجاهلة التي قد لا تغادر البيت وهي لا تدرك مجتمعها ومشكلاته، ومن ثم تعد أبناءها للتعامل معه؟ إن مثل هـذه الأم لو جلست في البيت فقد يكون ضررها أكبر من نفعها. وقد تكون المشكلة أن بعض النساء خضعن في حياتهن لظروف خاصة وغير طبيعية، أو ظروف شاذة -إن صح التعبير- فكان ذلك سببا لتعميم حالاتهن والدعوة إلى التمرد والخروج والانتحار الاجتماعي في مجتمعات الإباحة، دون أن تدري المرأة أنها أولى الضحايا لذلك. والكتاب الذي نقدمه، لا يعتبر -فيما نرى- خروجا عن اهتمام السلسلة والقضايا التي تعرض لها، وإنما يعتبر إلى حد بعيد استدراكا واستدعاء لبعض المواقع التي تعتبر من الثغور المفتوحة في الجسم والعقل المسلم، وفتح ملفها، والدعوة إلى استرداد المعاني الغائبة عن أسرنا،
[ ص: 27 ] والاستشهاد والتدليل على ذلك من واقع الحضارة الغالبة والمعاصرة.. فإذا كانت اهتمامات السلسلة في المسألة الثقافية وإعادة التشكيل في ضوء معطيات الواقع وتجلياته في المجالات كلها، حتى يمكن محاولة تقويمه بقـيم الإسلام، فإن الالتفات صوب الطفولة بكل أبعادها ومحاضنها وغذائها، والعوامل الكامنة وراء إذكاء ذكائها، وحفظ صحتها، هـو عمل مستقبلي، بكل ما تعني هـذه الكلمة من معنى.
وليس من قبيل التكرار أن نعاود القول: إن معرفة الوحي اختصرت لنا الطريق، وجنبتنا الكثير من المعاناة والتجارب الإنسانية الفاشلة التي أضاعت الأجر والعمر، خاصة وأن الكثير من الحقائق العلمية المكتشفة عالميا جاءت لتشكل دلائل وبراهين على صوابية وعصمة معرفة الوحي.. فالهاجس العالمي اليوم: العودة إلى الرضاعة الطبيعية، وأثرها في صحة المرأة، واكتشاف دورها في صحة وذكاء الطفل النفسية والعضوية، وليس ذلك فقط وإنما صحة المرأة وتجنيبها الكثير من الإصابات الصحية والمستعصية كسرطانات الثدي وغيرها؛ فالرضاعة الطبيعية تنمي العواطف، وتربي النفس، وترتقي بالخصائص الإنسانية، وتمتن الروابط الاجتماعية، وتحمي من الأمراض، والعودة إليها عودة إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
والله المستعان.
[ ص: 28 ]