مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سـيئات أعمـالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هـادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاة أزدلف بها إلى مغفرته، وسلم عليه تسليما يحشرني به في زمرة أوليائه. وبعد:
فإن من القواعد الفقهية التي تعبر عن جملة من ضوابط الحياة العلمية والاجتماعية، وتؤصل مسيرة الهدى والرشد في الشريعة المباركة قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) . ولكن استعمالها بإطلاق أوقع لبسا كبيرا عند فئتين: فئة حاولت رفضها إجمالا، وفئة حاولت الاستدلال بها مطلقا.
ولضبط هـذه القاعدة الفقهية -بحيث توضع في حاق موضعها- فقد ألف في شرحها وتفصيل المراد بها عدد من العلماء منهم: الإمام البدر محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني ، الذي ألف رسالة سماها: (نهاية التحرير في رد قولهم: ليس في مختلف فيه نكير) ، وهي رسالة مخطوطة لم تطبع بعد، كما تناولها عدد من المعاصرين بالتفصيل والبيان، في محاولة لفهم النفسية الفقهية الجليلة التي انصبغت بها الحياة الإسلامية العلمية على مر القرون.
ومن هـذه القاعدة استنبطت قواعد أخلاقية وعلمية انصبغ بها المجتمع الفقهي، المتراحم المتحاور، ورواده وطلابه.
وزاد من ضرورة الاهتمام والتناول لهذا الموضوع ارتفاع رايات [ ص: 27 ] الحوار (الهادئ) و (الموضوعي) ، وشيوع مبدأ (الرأي الآخر) . وصارت هـذه الألفاظ أسسا أخلاقية ومبادئ ثقافية عامة في أوساط الاجتماعات الفكرية والفئوية الناضجة التي تجيد فن إدارة الحوار، والجدال بالحسنى، كما أضحت أسسا عقدية تتشدق بعض المنابر العالمية كأنما هـي في حقها صنيعة خاصة لها نالت عليها براءة الاختراع والتقنين، مع أنها حقا نالت وسام القبح إذ استعملتها في باطلها، ونبذتها وراءها ظهريا في حاق موضعها. بيد أن هـذه الألفاظ -نظريا على الأقل- باتت مقياسا يدل على مدى التمتع بالظاهرة الحضارية والنضج الثقافي والإيماني عند الأفراد والجماعات، وبموجبها أصبح كل يعبر عن رأيه، ويحق للآخر أن ينتقده وفق أي قناعة فكرية.
وهذه القاعدة الفقهية: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) تختزل كثيرا من تفاصيل تلك المبادئ، وتعبر عن السبق الإسلامي الفقهي، النظري والتطبيقي، لهذه الدعاوى بضوابطها الشرعية، وأسسها الأخلاقية.
ومما يؤكد أهمـية الموضوع أن المذاهب الإسـلامية الـتي لم تنشأ إلا لتيسير استيعاب الشريعة، والمتانة الفقهية، والتقعيد الأصولي أصابتها عوارض التعصب بعد حين، مما أحدث عند (البعض) ردة فعل إزاءها فتنكر لها، وحاول تكوين مذهب اللامذهب. وفي واقعنا المعاصر نشأت حركات إسلامية باتجاهات معاصرة، ولكن سرت إليها عوارض مذهبية وقبلية مرضية في وقت مبكر نسـبيا عند مقارنتها بالمـذاهب، إذ تكاد هـيمنة التعصب الحزبي، والعصبية القبلية الحركية، وتقديس [ ص: 28 ] نصوص مؤسسيها أو قادتها أن تطمس أنوار الشريعة التي قامت أصلا لنصرتها، ونشر تعاليمها، وجمع المسلمين حولها، قرآنا وسنة. فإذا بها مع طول المدى تحاول جمع المسلمين حول نصوص قياداتها وآرائهم، وفي هـذه الأثناء تضيع معالم بارزة للدين:
أولها: الأخوة الإسلامية العامة؛ حيث تطرد العملة الرديئة العملة الجيدة، فالتعصب للأخوة الخاصة يلغي الأخوة العامة ويقضي على بهائها، وتحل الحالقة، ويتفرق المؤمنون في الدين، وقد أمروا ألا يتفرقوا فيه.
وثانيها: يتلاشى النصح الصادق، ويختفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لما لحق أشخاص قيادات الاتجاه الواحد وأقوالهم وأفعالهم من هـالات التقديس، التي تنغرس مع الزمن في العقل الباطن لأتباعهم، ويحل محل ذلك التأويل لكل فعل يصدر عنهم، أو رأي يتبنونه، ويتحيل باسم الدين للوصول إلى ذلك.
ولذا كان لا بد من دراسة هـذه القاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) دراسة فقهية أصولية ودعوية ليستبين لطلبة الهدى مكامن الآفاق الرفيعة فيها، ولتحد من عبث الأهواء بمدلولها، ولتوقف من يقذف بها حيث شاء بما لم يقصده واضعوها، ولتربط بالتصور الإسلامي الكلي العام، والفقهي الخاص، فتكتمل بذلك جوانب المناقشة العلمية التي تؤدي إلى إخبات من وصله العلم.
ومن ثم فإن هـذا البحث يكشف عن مقدار الاستيعاب الفقهي للخلاف؛ سواء من حيث الاعتراف الواقعي بوجوده، أو من حيث كيفية [ ص: 29 ] التعامل معه، أو الاعتراف بمشروعيته فيما هـو مشروع فيه، أو بالتوقي من شروره حال تأديته إلى ذلك، وذلك كله من خلال قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) ، التي تعكس صورة من صور الانفتاح الفقهي المنضبط على آراء الآخرين واختلافاتهم، وتضبطها بالنصوص الشرعية والمقاصد العامة للتشريع، وتستوعبها ضمن الأخوة الإسلامية، ووحدة جماعة المسلمين.
ويتمحور البحث حول مفهومين أساسين؛ هـما القاعدة الفقهية: (لا إنكار في مسائل الخلاف) ، والإنكار نفيا وإثباتا. اللذان يظهران كأساسين في هـذه القاعدة التي تعبر في عمومها عن كونها قاعدة فقهية، كما تعبر في فحواها عن الإنكار نفيا وإثباتا.
ويهتم البحث ببيان الموقف من الخلاف في المسائل الشرعية، وبيان الموضع الصحيح للاستشهاد بهذه القاعدة، ومدى النسبية والإطلاق فيها مما يستلزم معرفة القول الصحيح في معيار التذكير بالإنكار.
ويمكن القول: إن هـذا البحـث محاولـة لاسـتيفاء شرح قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) ، وبيان المراد من وضعها في الأصل، وضرورة الاستشهاد بها في موضعها، مع بيان الخطأ والصواب في ذلك؛ لتستبين من ثم الآفاق التي أرادها الفقهاء من وضع هـذه القاعدة ورديفاتها من القواعد الفقهية؛ صيانة للدين، واستيعابا لاختلاف الآراء، وضبطا لتعدد الأفكار والرؤى، ووقوفا وسطا بين الغالي في الحق والجافي عنه.
والله المستعان، ومنه يرجى الهدى والرشاد، ويستلهم السداد، وهو حسبنا ونعم الوكيل. [ ص: 30 ]
التالي
السابق