رابعا: اختلاف
>[1] الآراء طبيعة بشرية وفطرة إلهية:
وأما كون اختلاف الآراء طبيعة بشرية وفطرة إلهية فذلك لطبيعة نقص الإنسان وقصوره. فالاختلاف بين أفراد البشر أمر طبيعي، بل إنه آية من آيات الله تعالى في الخلق:
( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ) (الروم:22) . والاختلاف داخل ضمن
[ ص: 48 ] قسمة رحمة الله بين عباده في الدنيا للابتلاء والاختبار،
( أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ) (الزخرف:32) ،
( ولا يزالون مختلفين ) (هود:118) ،
( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ) (الفرقان:20) .
ومن جملة الاختلاف: اختلاف الآراء والأفهام والاستيعاب للنصوص، الذي ظهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم في عهد الخلفاء الراشدين؛ أي: في عهد خير القرون. ومن صور الاختلاف في الرأي ما يرجع إلى الحفظ، ومنه ما يرجع إلى الفهم
>[2] ، ومنه ما يرجع إلى اختلاف التقدير في مراعاة المقاصد العليا للشريعة، ومن ذلك انقسام الصحابة حول أسرى بدر إلى فرق ثلاث؛ للاختلاف في الفهم والنظر إلى المقاصد الشرعية العليا، فقد كان الاختلاف بين ثلاثة من الصحابة (
أبو بكر ،
وعمر ،
وعبد الله بن رواحة ، رضي الله عنه ) ثم انقسم الصحابة بعدهم إلى فرق ثلاث تبعا لهم، وسبب الاختلاف هـو الفهم والنظر إلى المقاصد العليا للشريعة وتنـزيلها على الواقع. فقد أخرج
الإمام أحمد أنه: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هـؤلاء الأسرى؟ قال: فقال
أبو بكر : يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم واستأن بهم، لعل الله أن يتوب عليهم. قال: وقال
عمر : يا رسول الله،
[ ص: 49 ] ( أخرجوك وكذبوك، قربهم فاضرب أعناقهم. قال: وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله، انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرم عليهم نارا. قال: فقال العباس : قطعت رحمك. قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا. قال: فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر . وقال ناس: يأخذ بقول عمر . وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة . قال: فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ) (إبراهيم:36) ، ومثلك يا أبا بـكر كمثل عيسى قال: ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) (المائدة:118) ، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) (نوح:26) ، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قـال: ( واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ) (يونس:88) ». )
وقد بقي الاختلاف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جاريا بسبب ذلك، كما في حادثة
بني قريظة وصلاة العصر، فإن من صلاها في وقتها نظر إلى النص وإلى فهم مراد النبي صلى الله عليه وسلم من الأمر بصلاتها في بني قريظة وهو الإسراع والتعجيل، ومن أخذ بظاهر أمره نظر إلى ضرورة عدم التقدم بين يدي الله ورسوله وبناء الأمـور على الظاهر؛ كما
( قال النـبي صلى الله عليه وسلم مرة لما استوى يوم الجمعـة: «اجلسوا» فسمع ذلك ابن مسعود فجلس على باب ) [ ص: 50 ] ( المسجد، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تعال يا عبد الله بن مسعود ) >[3] .
كما اختلف المهاجرون والأنصار ومسلمة الفتح إلى فرقتين في الفهم المقاصدي، نظرا لعدم بلوغهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( فعن عبد الله بن عباس : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشأم حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشأم. قال ابن عباس : فقال عمر : ادع لي المهاجرين الأولين. فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشأم فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحـاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نرى أن تقدمهم على هـذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادعوا لي الأنصار. فدعوتهم، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان هـاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عـليه رجلان. فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هـذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح : أفرارا من قدر الله؟ فقـال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كان لك إبل هـبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف ، وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي ) [ ص: 51 ] ( في هــذا علما، سمـعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعـتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه.» قال: فحمد الله عمر ، ثم انصرف ) >[4] .
لقد اجتمع في هـذا الحديث عدة أسباب للاختلاف:
1 - الاختلاف في تنـزيل المقاصد العليا للشريعة على نازلة الطاعون، فبعضهم نظر إلى الحفاظ على رجال المسلمين، وبعضهم رأى عدم الرجوع فيما عزم عليه خليفة المسلمين من أمر خطة سفره بدخول الشام. وهذا الخلاف هـو بين خيرة أهل الأرض بعد الأنبياء؛ بين المهاجرين الأولين والأنصار ثم مسلمة الفتح رضي الله عنهم .
2 - الاختلاف في فهم الصحابيين المبشرين بالجنة:
عمر وأبي عبيدة رضي الله عنهما في مسألة القدر، وتبرير الموقف المتخذ.
3 - الاختلاف كان بسبب الفهم؛ نظرا لفقدان النص من حافظة الجيش كاملا مع من استقبلهم من الصحابة في الشام حتى أخبرهم به واحد هـو
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه .
وهذا يجعلنا نقرر أن الاختلاف طبيعة بشرية، وواقع لا مفر منه
>[5] .
ولعل من أهم دلالات ذلك على الفرد والمجتمع: استيعاب واقعية الخلاف فـي الواقع، فيتم تقبل وجوده كظاهرة، وعـدم أخـذه بعنف أو استفزاز؛ لأنه يدخل ضمن الحكمة الإلهية، وإنما يقابل بما أمر الله به ورسوله بحسب أنواعه، وأسبابه.
[ ص: 52 ] والخلاف إجمالا يمكن تقسيمه إلى: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد. حيث تكاد تتفق نظرات أهل العلم قديما وحديثا على ذلك.
واختلاف التنوع : كثير في المسائل الفقهية، بل في المسائل الدينية عموما، حيث «يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم حتى
( زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «كلاكما محسن ) >[6] ، ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والإقامة، والاستفتاح، ومحل سجود السهو، والتشهد، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، ونحو ذلك مما قد شرع جميعه»
>[7] .
ومن ذلك مثلا:
( ما جاء عن غضيف بن الحارث قال: قلت لعائشة : أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة في أول الليل أو في آخره؟ قالت: ربما اغتـسل في أول الليل، وربـما اغتسل في آخره. قلت: الله أكبر، الحمد لله، الذي جعـل في الأمر سعـة. قلت: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر أول الليل، أم في آخره؟ قالت: ربما أوتر في أول الليل، وربما أوتر في آخره. قلت: الله أكبر، الحمد لله، الذي جعل في الأمر سعـة. قلت: أرأيت رسـول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهـر بالقرآن أم يخفت به؟ قالت: ربما جهر به، وربما خفت. قلت: الله أكبر، الحمد لله، الذي جعل في الأمر سعة ) >[8] .
[ ص: 53 ] لذلك يمكن القول: إن اختلاف وسائل العمل الإسلامي، من اختلاف التنوع ؛ فمن المسلمين من ينهد لإحياء العلم الشرعي، ومنهم من ينهد للجهاد في سبيل الله، ومنهم من ينهد لإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهم من ينهد لنفع الناس وقضاء حوائجهم والتخفيف من كرباتهم. ومما يعبر عن ذلك أصدق التعبير أن الله تعالى قال:
( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم ) (التوبة:122)
فذكر قوما نفروا للجهاد في سبيل الله، وبين أن المؤمنين لن ينفروا له كافة وما كان لهم ذلك؛ شرعا وقدرا، وأنه ينبغي أن تنفر فئة منهم لطلب العلم وبثه بين الناس، واستحداث الوسائل المساعدة على تحقيق ذلك الهدف.
وأما اختلاف التضاد : فينقسم إلى سائغ، وغير سائغ. وهو ليس مذموما على إطلاقه، ولكن المحرم منه نوعان:
أحدهما: «كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم منصوصا بينا لم يحل الاختلاف فـيه لمن علمه»
>[9] ،
فإن الله تعالى يقول:
( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) (البينة:4) ،
وقال جل ثناؤه:
( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) (آل عمران:105)
«فذم الاختلاف فيما جاءتهم به البينات»
>[10] .
[ ص: 54 ] وثانيهما: كل بغي ينشأ عن اختلاف لا بد منه كاخـتلاف التنوع أو اختلاف الاجتهاد فيما يجوز فيه الاجتهاد. فالمنع هـنا للنتيجة، وإن كانت المقدمة صحيحة، وذلك لقطعية الأخوة الإسلامية في مقابل الظنون التي تنشأ عن الاجتهادات.
ويمكن إزالة بعض الخلاف بزوال أسبابه، يمكن تحويل عدد كبير من مسائل الاختلاف إلى مسائل اتفاق؛ إذ أن سبب الخلاف فيها عائد إلى الطبيعة البشرية في عدم الإحاطة بالعلم كله، فإذا كان سبب الخلاف غياب النص عن أحد الطرفين، أو أخذه بجزئية في مفهوم نص مع احتماله لغيره، فيمكن إبراز النص لمن علمه فيختفي الاختلاف، وهذا ما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه، فيحيلون كثيرا من مسائل الخلاف إلى مسائل اتفاق بعد وضوح النص عند من حفظه، كما في حادثة الطاعون المتقدمة، وأشـار
الشافعي إلى هـذين الأمرين فقال: «الناس مختلفون في هـذه الأشياء، وفي كل واحد منها كتاب أو كتاب وسنة. قال: ومن أين ترى ذلك؟ فقلت: تحتمل الآية المعنيين فيقـول أهل اللسـان بأحدهما، ويقول غيرهم بالمعنى الآخر الذي يخالفه، والآية محتملة لقولهما معا؛ لاتساع لسان العرب. وأما السنة فتذهب على بعضهم وكل من ثبتت عنده السنة قال بها إن شاء الله ولم يخالفها؛ لأن كثيرا منها يأتي واضحا ليس فيه تأويل»
>[11] .
[ ص: 55 ] وعلى الرغم من عدم إمكانية زوال الخلاف في الرأي مطلقا، إلا أنه قد يوجد في الاختلاف المنضبط مقاصد شرعية؛ فالخلاف في الرأي لم يزل منذ خير القرون، لذلك فتصور بعضهم أنه يمكن إزالة هـذا الخلاف هـو مما ينافي الشرع والطبيعة والواقع والعقل.
أما الشرع: فظاهر أن الله سبحانه وتعالى شرع بعض الأحكام التي تختلف فيها اجتهادات البشر، كما تختلف في استنباط دلالات نصوصها؛ وهي غير المحكمات الشرعية القطعية، وهذا بحد ذاته دال على جواز الاختلاف
>[12] لا على جواز إرادة الخلاف.
وأما الطبيعة: فلأن الله تعالى جعل الاختلاف في الأرزاق من آياته في طبيعة الناس؛ ومنها رزق الذكاء والذاكرة وقوة الفهم والحفظ.
وأما الواقع: فإن واقع الصحابة -وهم خير القرون- يقول: بأنهم اختلفوا، فكيف غيرهم؟
وأما العقل: فإن كل ما سبق يطبع العقل على وجود الخلاف، حتى أن الشخص الواحد قد يخالف رأيا ارتآه بالأمس في دليل شرعي، وقد " قال
عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة ( المشركة ) حيث اختلف قضاؤه فيها عنه قبل عام: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي "
>[13] .
واستقرار حقيقة عدم زوال الخلاف بين الناس يوسع صدور المسلمين
[ ص: 56 ] لاحتماله
>[14] خاصة ما كان سائغا، وينبغي أن تقوم مناهج التربية على تطبيع المسلمين على هـذه الحقيقة وتقبلها، والتعامل معها وفق الشرع بمختلف أقسامها.
ويظهر من كلام من تشدد في ذم الخلاف مطلقا أنه يعني: النـزاع والفرقة، وليس مجرد الاختلاف في الرأي مع بقاء عصمة الأخوة وحقوقها
>[15] ، بل إن الاختلاف قد يكون نعمة في ذاته ما دام في حدوده المنضبطة لم يخرج إلى نزاع أو اقتتال، ولذا ألف
السيوطي كتابه: (جزيل المواهب في اختلاف المذاهب) .
والنفسية السوية يسهل عليها أن تستوعب وقوع الخلاف في المجتمع الواحد، خاصة إذا كان اختلاف تنوع، بل يعد ذلك من ضرورات قيام الحياة وإعمارها، ومن ضرورات كون الخلـق خلقا كما قال الله
عز وجل :
( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) (الذاريات:49) ،
ولذا فإن الذم في ذلك يكون واقعا على من بغى على أخيه الآخر، لا على الاخـتلاف من حيث هـو اختلاف، «وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل ذلك؛ إذا لم يحصل بغي،
كما في قولـه تعالى:
( ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله ) (الحشر:5) ،
وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار، فقطع قوم وترك آخرون ،
[ ص: 57 ] وكما في قوله تعالى:
( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما ) (الأنبياء:78-79) ،
فخص
سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعـلم؛ وكما في إقرار الـنبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرها إلى أن وصـل إلى
بني قريظة . وكما في قولـه:
( إذا اجتهد الحاكم فأصاب... ) >[16] .
وعليه فإن سلف الأمة وجميع الأئمة لم يختلفوا ليخالف بعضهم بعضا، أو يخطئ بعضهم بعضا، وإنما اختلفوا في سبيل الوصول إلى الحق وتحقيق مقاصد الشرع، بما يتوصلون إليه من فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
>[17] .
وقد استوعب الفقه الإسلامي وجود الاختلاف؛ لأن كثيرا من النصوص «يحتمل التأويل ويدرك قياسا»
>[18] ، فذهاب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس اجتهاد يؤجر عليه ولو أخطأ، ما دام قد سلك سبيل الاجتهاد، وإن خالفه فيه غيره.
وإذا كان الخلاف أمرا واقعا، وضرورة خلقية، فإنه لا يحدث الفرقة ما دام منضبطا بميزان الشرع، بل إن الذي يحدث الفرقة هـو بطر الحق، والتعصب للرأي، والاستعلاء على الآخرين، وقد تنازع بعض التابعين
[ ص: 58 ] تنازعا شديدا في القراءات مع أنها جميعا مشروعة حتى قام
عثمان رضي الله عنه بالعمل العظيم في تعميم المصاحف، وذكرهم بمشروعية القراءة على الأحرف المنـزلة.
وعلى الرغم مما يلحظ في زماننا هـذا من أن أكثر أعمال الحركات والاتجاهات الإسلامية هـي أعمال تكاملية؛ إذ أن معظم الأعمال التي يبرز فيها هـذا الاتجاه أو ذاك هـي أعمال نوعية تعود إلى اختلاف التنوع، إلا أن النـزاع والتنافس ونبذ استيعاب هـذا النوع من الاختلاف هـي السمة الطاغية، وقد يجمع كل طرف من أطراف الاختلاف حقا وباطلا، فتحل العصبية الذميمة، وتصادر من كل طرف حقه وباطله، ثـم يضيع الهدى نتيجة لهذا التنازع الذميم، ويترتب على ذلك التقاطع والتدابر والمكر ببعضهم.
وقد يكون سبب ذلك إما عدم استيعاب وقـوع الخلاف فـكريا أو نفسيا أو عمليا، وإما الإصرار على تثبيت الخطأ والصواب من كل ذي انتماء على أنه صواب محض من حزبه وفئته، وقد يستدل على ذلك بأدلة منها قاعدة: ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) ، «إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس، وهو من آفات علماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا إليه، ولو جاءوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه، ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم
[ ص: 59 ] وآلتهم، وسموه ذبا عن الدين ونضالا عن المسلمين، وفيه على التحقيق هـلاك الخلق، ورسوخ البدعة»
>[19] .
فإذا عرف أن الاختلاف حقيقة واقعية، بل إن الاختلاف فى الأحكام أكثر من أن ينضبط سهل تربية النفس على الموقف الصحيح منه، نابذا ابتداء كل تقطيع لعرى الأخوة لمجرد وقوع الخلاف بينهما، «ولو كان كل ما اختلف مسلمان فى شىء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة»
>[20] .
إن وقوع الاختلاف يفترض أن يؤدي إلى أخذ الصواب من كل طرف، ولا تمنع هـيبة المخطئ من الإنكار عليه، لكن دون حط أو تفريط في حقوق الأخوة الإسلامية؛ كما قال
الذهبي : «وبين الأئمة اختلاف كبير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلقات، ومفردات منكرة، وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صوابا، ونجزم بأن غرضهم ليس إلا اتباع الكتاب والسنة، وكل ما خالفوا فيه لقياس أو تأويل، وإذا رأيت فقيها خالف حديثا أو رد حديثا أو حرف معناه فلا تبادر لتغليطه... وإنما وضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأذكى العلم لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف»
>[21]
وقد يكون مع كل طرف شيء من الصواب وشيء من الخطأ فيؤخذ الصواب من كل طرف مع التماس العذر في وقوع الخطأ.
[ ص: 60 ]