الإنكار في مسائل الخلاف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
النص معيار الإنكار، هـو الأساس الذي اعتمده الصحابة رضي الله عنهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، للنظر فيما بينهم من مسائل خلافية، وكان يجري بينهم التذكير والإنكار بالمجادلة والمحاورة مع الخلق الرفيع والأدب العالي، وحمل بعضهم لبعض على أحسن المحامل، حتى وإن غلظت العبارة أحيانا، ثم يفيء منهم من فاء إلى النص، وهذا كثير وافر، ومن أمثلته:
1 -
( عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا. فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله لا أقتل أسيري، ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره. حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يده فقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» مرتين ) >[1] . ونلحظ هـنا أن
ابن عمر ومن معه أبوا طاعة الأمير فيما ظهر لهم أنه يخالف الشرع، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وعرض بخالد أن يفعل ما لا ينبغي، ويأمرهم به، مع أن خالدا هـنا كان الأمير، واجتهد فيم أمرهم به.
[ ص: 92 ] 2 -
( عن علي رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل رجلا من الأنصار، وأمرهم أن يطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى. قال: فاجمعوا لي حطبا. فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا. فأوقدوها، فقال: ادخلوها. فهموا، وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون: فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف ) >[2] . ويظهر هـنا جليا أنه لم يكن عندهم نص بالامتناع عن طاعة الأمير، بل النص الصريح بطاعته: إنما قاسوا الأمر، ورجعوا إلى المقاصد العليا للإسلام، فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم وبين لهم خطورة الطاعة في هـذه الحال، ولم يشفع لهم حسن نيتهم.
3 -
( عن عائذ بن عمرو ، أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر، فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها... قال: فقال أبو بكر : أتقولون هـذا لشيخ قريش وسيدهم. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك». فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي ) >[3] .
[ ص: 93 ] انظر إلى الخلاف بين
أبي بكر وبين أولئك النفر المؤمنين رضي الله عنهم في كيفية توجيه الخطاب
لأبي سفيان ، لم يثر ضغينة بينهم، بل ارتفعت نفسياتهم عن التأثر بالخلاف في معالجة القضية التي أمامهم، على الرغم من اختلاف الأسلوب في محل النـزاع، على أن المرجع في تصحيح الوجهة هـو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أبان للشاكي ضرورة أخذ الصفح ممن اشتكى منه.
4 -
( عن أنس بن مالك قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقي الرجل من أصحابه يقول: تعال نؤمن بربنا ساعة. فقال ذات يوم لرجل، فغضب الرجل، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «يرحم الله ابن رواحة ؛ إنه يحب المجالس التي تباهى بها الملائكة عليه السلام ) >[4] . وواضـح من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الرجل على إنكاره على ابن رواحة لكنه بين له خطأ فحوى الإقرار.
[ ص: 94 ]