الفصل الثالث
القرآن الكريم وأساليب الإقناع
الله تعالى هـو المصدر الأول لكل علم:
( قل الله خالق كل شيء ) (الرعد:16) ،
( والله خلقكم وما تعملون ) (الصافات:96) ،
( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) (البقرة:255) ،
( وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ) (الحجر:21) ،
( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) (النحل:78) ،
( علم الإنسان ما لم يعلم ) (العـلق:5) ،
( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) (الأنعام:38) .
ولأن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، ولا نتلقى منه مباشرة، فقد جعل من دونه مصدرين رئيسين يستقي منهما الإنسان معرفته هـما: القرآن، والكون.
إن المحتوى المعرفي لأي علم من العلوم يعتمد اعتمادا كليا على مصدر تلك المعرفة، ويضطرد معها اطرادا مباشرا؛ بمعنى أن المصدر إذا كان مدركا لكل صغيرة وكبيرة، وملما بكل جزئية في علم ما من
[ ص: 71 ] العلوم، فإنه يترتب على ذلك علو قدر تلك المعرفة المستقاة من ذلك المصدر. وبما أن مصدر المعرفة في المنهجية الإسلامية هـو الله سبحانه وتعالى ، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، فإن من إيجابيات هـذا المصدر المباشر أن المتلقي للمعرفة يشعر بأمن واطمئنان في أنه سيجد الإجابة من هـذا المصدر عن كل سؤال يخطر على باله؛ كالظمآن الذي يبحث عن قطرة ماء فيجد أمامه نهرا عذبا ليرتوي منه
>[1] .
فالقرآن الكريـم وهو كلام الله تعالى المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، بلفظه ومعناه، المتعبد بتلاوته، قد احتفى حفاوة كبيرة بالعلم والعلماء، وأشاد بهما، ورفع من أقدارهما، بل عد العلم من صفات الكمال لله،
قال تعالى:
( نبأني العليم الخبير ) (التحريم:3) ،
وقال تعـالى:
( وسع كل شيء علما ) (طه:98) .
وبعد أن من الحق عز وجل على
سيدنا آدم -أبي البشرية- بنعمة الإيجاد من العدم،
من عليه بنعمة العلم:
( وعلم آدم الأسماء كلها ) (البقرة:31) ، وبه فضله. وكذلك من الله تعالى على الأنبياء
[ ص: 72 ] والمرسلين بنعمة العلم والحكمة:
( ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما ) (يوسف:22) ،
وقال عن
داود وابنه
سليمان عليهما السلام:
( وكلا آتينا حكما وعلما ) (الأنبياء:79) ،
واعتبر العلماء أشد الناس خشية لله:
( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر:28) ،
وجعل معجزة رسالته الخاتمة كتابا خاتما، هـو كتاب القرآن، وأول كلمة فيه:
( اقرأ ) (العلق:1) ،
وأقسم بأداة الكتابة:
( ن والقلم وما يسطرون ) (القلم:1) ،
وهو يدعو عباد الله للعلم والسعي إليه، وتحصيله بالنظر في آفاق الكون والأنفس:
( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض ) (يونس:101) ،
( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) (الذاريات:20-21) ،
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ) (الغاشـية:17-20) ،
وعد المقصرين فيه لا يستوون مع الذين يعلمون... وجعله سبيلا إلى معرفة الخالق حق معرفته، ومن هـنا أحاط القرآن بقضايا العلم، وكانت علومه كافية للناس والحياة
>[2] .
[ ص: 73 ]
والقرآن الكريم كمصدر للمعرفة تجلى إعجازه في أمور كثيرة، إعجاز في نظمه وبلاغـته، وإعجاز في قصصه وأخباره، إعجاز فيما انطوى عليه من الإخبار بالغيبيات التي لم تكن معهودة عند التنـزيل، وإعجاز فيما أشار إليه من حقائق مثبتة في أرجاء الكون الفسيح، تجلت وتبدت في عصرنا الراهن بعد تقـدم العلم وكشوفاته في الأنفـس والآفاق، كيف لا يكون القرآن كذلك وهو منزل من عند الله تعالى؟
يقول
الإمام السيوطي : إن كتاب الله تعالى اشتمل على كل شيء، أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هـي أصل إلا وفي القرآن شرح أفعاله وصفاته، وهذه العلوم لا نهاية لها، وفي القرآن إشارة إلى مجامعـها
>[3] .
بل إن كل ما أشكل فهمه على النظار واختلفت فيه الخلائق -في النظريات والمعقولات- في القرآن رموز إليه ودلالات عليه، يختص أهل الفهم بإدراكها. وقد ظل القرآن منذ نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هـذا معجزة خالدة، نستمد منها كل يوم الدروس والعبر إلى أن
[ ص: 74 ] يرث الله الأرض ومن عليها،
( فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه فقال له: «يا عم، إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال: لم؟ قال: ليعطوه؛ فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله. قال: علمت قريش أني من أكثرهما مالا. قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، لا برجزة ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقولـه شيئا من هـذا، والله إن لقولـه الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه يعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته. قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه... فقال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هـذا سحر يؤثر؛ بأثره عن غيره >[4] . فنـزلت الآيات: ( ... ذرني ومن خلقت وحيدا ... ) (المدثر:1-25 ) >[5] .
وقد ظل القرآن يؤثر على سامعيه منذ القدم، ولعل قصة الوليد بن المغيرة سابقة الذكر تدل على ذلك. وحديثا فقد استعملت أجهزة المراقبة الإلكترونية المزودة بالكمبيوتر لقياس الآثار والتغييرات
[ ص: 75 ] الفسيولوجية عند عدد من المتطوعين الأصحاء أثناء استماعهم لتلاوات قرآنية، وقد تم تسجيل وقياس أثر القرآن عند عدد من المسلمين المتحدثين بالعربية، وبالنسبة لغير المتحدثين باللغة العربية، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، فقد تليت عليهم مقاطع من القرآن الكريم باللغة العربية، ثم تليت عليهم ترجمة هـذه المقاطع باللغة الإنجليزية، وفي كل هـذه المجموعات أثبتت التجارب المبدئية وجود أثر مهدىء للقرآن بنسبة 97%، وهذا الأثر ظهر في شكل تغييرات فسيولوجية تشير إلى مستوى تأثر الجهاز العصبي التلقائي.
وتفاصيل هـذه النتائج المبدئية عرضت على المؤتمر السنوي السابع عشر للجمعية الطبية الإسلامية بأمريكا الشمالية، الذي عقد في
مدينة سانت لويس ، في أغسطس 1984م، ولقد ظهر من الدراسات المبدئية أن تأثير القرآن على التوتر يمكن أن يعزى لعاملين
>[6] :
الأول: هـو صوت القرآن الكريم في كلمات عربية، بغض النظر عما إذا كان المستمع قد فهمها، وبغض النظر عن إيمان المستمع.
الثاني: هـو معاني المقاطع القرآنية التي تليت، حتى ولو كانت مقتصرة على الترجمة الإنجليزية بدون الاستماع للكلمات القرآنية باللغة العربية.
[ ص: 76 ]
وإذا كانت النظرية الإعلامية البشرية تقول: إن الرسالة الإعلامية ينبغي أن تتجانس مع مستقبلها، وإنها تؤثر على مستقبل معين دون أن تؤثر على مستقبل آخر ذي خصائص مختلفة. فإن الإعجاز الإعلامي للقرآن يقدم إطارا من نوع آخر، فالقرآن يخاطب كل البشر؛ الغني والفقير، والمتعلم وغير المتعلم، كما يخاطب كل الأجناس، فالمؤمن غير المستقر لظرف ما إذا سمع القرآن عاد إلى حالة ملائمة، وكذلك الحال للمتعلم وغير المتعلم، والرجل والمرأة، والعجوز والشاب... إلخ؛ أي: أنهم يتأثرون بشدة رغم اختلاف الثقافة والبيئة واللغة والحالة النفسية، أي أن القرآن يخاطب في البشر ما لا يعلمه البشر بدقة، ويعلمه الله، فالله يخاطب في النفس ملكات يعلمها، وتتأثر به، ونحن نفسر هـذه الأمور وفقا لعلمنا المحدود
>[7] .
من كل ما تقدم يمكننا القول: إن القرآن الكريم يعتبر رسالة إقناعية، خاطبت العقل البشري من خلال استراتيجيات محددة وأساليب إقناعية معروفة في عالم اليوم. وبهذا فإنه مثلما سبق القرآن الكريم الاكتشافات العلمية الحديثة بعشرات القرون فهو أيضا يسبق مرتكزات النظرية الإعلامية بذات القدر.
[ ص: 77 ]