الفصل الرابع
استراتيجيات الإقناع ونشر الدعوة
في العصر الحديث
نشر الدعوة الإسلامية واجب على كل مسلم بالقدر الذي يطيقه، وفي حدود العلم الذي تعلمه، غير أننا يجب أن نعلم أن الدعوة الإسلامية ليست مجرد كلمات تردد، أو خطب تلهب حماس الناس، ولا فلسفة تخاطب العقول فقط، ولكنها دعوة عملية تبعث في اتباعها الحس والحركة، وتؤمن على الناس ما تتطلع إليه نفوسهم وتتشوق إليه عقولهم وقلوبهم من راحة وطمأنينة في النفس وخير ورشاد في واقع الحياة
>[1] . ولنا أن نعلم أن عالـم اليوم مهيأ لهذه الدعوة، فقد اشتكى كثير من المصلحين وعدد من قادة الدول في الغرب من تدهور القيم الأخلاقية والدينية في العالم، خاصة الغربي منه؛ نتيجة لسـيادة الفـكر العلماني ونبذ قيم الإيمان والدين والبعد
[ ص: 103 ] الغيبـي للحياة، ومن هـؤلاء
ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلس الذي قال أمام مركز الدراسات الإسلامية في أكسفورد ببريطانيا: «لقد أصبحت الحضارة الغربية مولعة بالكسب واستغلاله على نحو متزايد بما يتنافى مع مسئولياتنا البيئية. إن هـذا الشعور الهام بالوجدانية والوصاية على الطابع القدسي والروحي للعالم من حولنا شيء مهم يمكن أن نتعلمه من جديد من الإسلام... إنني على ثقة بأن بعض الناس ستسارع في اتـهامي، كما يفعل عادة؛ بأنني أعيش في الماضي، وأنني أرفض التأقـلم مع واقع الحياة العصرية، إن الأمر على عكس ذلك، فما أدعو إليه هـو فهم أوسع وأعمق ومتأن أكثر لعالمنا، إنني أدعو إلى إيجاد بعد غيبـي، بالإضافة إلى البعد المادي لحياتنا؛ بغية استعادة التوازن الذي تخلينا عنه، والذي أعتقد أن غيابه سيثبت أنه مدمر في الأمد الطويل»
>[2] .
وفي السياق ذاته، تحدث الأمير تشارلس في هـيئة الإذاعة البريطانية، في شهر مايو 1997م، مؤكدا أن الحضارة الغربية فقدت إيمانها بالله، وذكر أنه استنتج ذلك من الحرج الذي يلاقيه كلما تحدث عن الدين في المجتمعات البريطانية المستنيرة، وأنه كان يحتاج إلى
[ ص: 104 ] استجماع شجاعته الأدبية في كل مرة يريد الحديث فيها عن الدين، ثم قال: إن عقودا من اتباع النهج العلماني في الحياة عاد بعواقب وخيمة على الغرب، وإن الأمراض والأوبئة ومنها مرض جنون البقر في بريطانيا ما هـي إلا نتيجة للحياة المادية البحتة، التي يعيشها الناس في الغرب، ودعا إلى الاستفادة من منهج الإسلام في تحصيل العلم والمعرفة، وذلك بالعقل والقلب جميعا، ودعا كذلك إلى إفساح المجال لعلماء الإسلام للتدريس في الجامعات الغربية والبريطانية، كما دعا إلى فهم أفضل للإسلام الذي ينظر نظرة شاملة إلى الإنسان وإلى الكون، أساسها التوحيد بالله، الذي له الوصاية على الكون، ولو حدث هـذا لعرف الإنسان الغربي البعد الغيبـي والروحي للحياة
>[3] .
ومعلوم أن الضلال الذي يعيشه العالم الغربي نابع في الأساس من تحـريف اليهود والنصارى لكلمة التوحـيد الخالصة (لا إله إلا الله) والزعم أن:
- المخلوق والخالق شيء واحد وشخص واحد.
- وأن الوالد والمولود شيء واحد وشخص واحد.
[ ص: 105 ]
- وأن الأب إله، والابن إله (فمن هـو الأعلى؟) .
- وأن عزيرا إله، وأن الله عز وجل إله (فمن هـو الأول ومن الآخر؟) .
- وأن لله ولدا (فكيف يكون له ولد ولم يتخذ صاحبة؛ أي زوجة؟) .
ورغم هـذا الانحراف في عقيدة الغرب الفاسدة، يدعو «
فرانسيس فاكوياما » إلى تعميمها على كل العالم، بالترغيب والترهيب، ويتخذ من السلوك الأمريكي نموذجا خاتما يعتبره نهاية الرقي الإنسانـي ونـهاية الثقافة والحضارة
>[4] .
وجدير بالملاحظة أن أفكار «فرانسيس فاكوياما» قوبلت بالنقد حتى عند الغربيين، ففي كتابه: «صدام الحضارات»، يقدم «
صمويل هـانتنغتون » مجموعة من الانتقادات لأطروحات «فاكوياما»، منها:
- أن الحضارة الغربية رائعة وفريدة ولكنها ليست عالمية.
- وأن المستقبل سوف يشهد أفول الحضارة الغربية وقيام تحالف بين
[ ص: 106 ] الحضارتين الإسلامية والصينية.
- وأن الإسلام سوف يقوى على حساب الغرب إذا امـتلك الحـداثة والتقانة ولم يتغرب.
ورغم هـذا الموقف من «صمويل هـانتنغتون» إلا أنه يعود ويحذر من تمكين الإسلام من امتلاك التقانة الغربية؛ لأنه سوف يقوى ماديا، ويظل مع ذلك متمسكا بالتعاليم الإسلامية، وهذا خطر على الغرب
>[5] ،
وصدق الله العظيم القائل:
( نسوا الله فأنساهم أنفسهم ) (الحشر:19) ،
( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ) (الزمر:67) ،
وكيف تسنى لهم ذلك وهم في غمرتهم يعمهون وفي شهواتهم سادرون، ومعظم أهل الغرب اليوم يعيشون مشـكلة في الصحة النفسية، وهي مشكلة أكبر وأعقد؛ لأنها تحتاج إلى معرفة قـوى النفس وملكاتها ونوازعها، وهذه متعددة ومختلفة على حد التضارب في هـذا الإنسـان الذي تكامـلت في طبيعته كل التراكيب.
وقد اجتهد الحكماء القدماء من مختلف الأمم، كما اجتهد أهل الفلسفة العلمية على المستوى الفردي والاجتماعي، وكذلك اجتهد
[ ص: 107 ] علماء النفس المحدثون في إرشاد الإنسان إلى الراحة من آلامه النفسية، وتنوعت آراؤهم بحسب ظروف حياة الأمم ونوع حضارتها، فمنهم من حاول معالجته من داخل ذاته، ومنهم من التمس العلاج من خارجها، وكلهم يحاول تجنب المعاناة والشقاء، رغم اختلافهم في السبل والوسائل.
غير أنه في عصور انحلال الحضارة وسيطرة الترف مع أزمات في الفكر والحياة يظهر من يدعو إلى لذات الجسد ولا يرى غيرها، ومنهم -كما حكى
ابن مسكويه في كتابه (تهذيب الأخلاق) - من دعا إلى استعمال الفكر في تنظيم اللذات، فيجعل أشرف ما في الإنسان خادما لأحط ما فيه.
كل هـذه الآراء تـهدف إلى توفيـر الراحة النفسية، ومنها ما لا ضرورة له، ومنها ما قد يكون مقبولا من الناحية العملية بقدر ما تسمح طبيعة الحياة، لكنها دعوات ليس معها إلزام ولا جزاء من جهة، ولا تحل مشكلة الإنسان من جهة أخرى، ولك أن تشاهد حياة الإنسان الغربـي اليوم، فهي لا تجـيب عن سـؤال لا مفر منه للمفكر الجاد في أثناء معاناته للحياة أن يطرحه وهو: ما معنى
[ ص: 108 ] حياة الإنسان ووجوده في الأرض، بكل ملكاته الرفيعة، واستعداداته للهبوط إلى مسـتوى الحيوان؟ وما هـو قانون حياته، وما هـو مصيره بعدها؟
وتبقى الإجابة الصحيحة عن هـذه التساؤلات في النظرة الدينية الإسلامية فهي وحدها التي تشمل معنى الوجود، بمعناه المطلق، وتقدم تصورا متكاملا للأشياء؛ فالإيمان يقوم على المعرفة والتصديق الجازم -العقلي والنفسي- بوجود صانع لهذا العالم، تام القدرة والحكمة والعناية والرحمة، فالإيمان في الإسلام بالذات ليس نوعا من الإعلام الخبري بوجود الله وسائر أصول العقيدة، ولا هـو مأخوذ من تراث الآباء، بل هـو مبني على التفكير في تلك الأصول، وجعلها مسائل للبحث والدليل والبرهان، باستعمال العقل، وخصوصا التفكير في هـذا العالم وفي الإنسان ومكانه فيه، واتخاذ ذلك نقطة البداية للاستدلال
>[6] ،
قال تعالى:
( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) (يونس:101) ،
وقال تعالى:
( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) [ ص: 109 ] (الذاريات:20-21) ، وقال سبحانه وتعالى :
( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون ) (الجاثيه:3-4)
وقـال تعـالى:
( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء ) (الأعراف:185) .
القرآن الكريم له منهج رشيد في خطاب المدعوين، فالله عز وجل هـو خالقهم، وهو أعلم بهم من أنفسـهم، فخاطب كل صنف منهم بما يناسبه من التأثير والانفعال النفسي وإثارة الوجدان وتحريك العواطف؛ حتى ينتج عن ذلك الاستجابة لما يدعون إليه. لذا يجب أن يتبع الدعاة في نشر الدعـوة كل أسـلوب يوصلها قلوب الناس، ويحقق الغاية المطلـوبة منها، وعليهم أن يطوروا هـذه الأسـاليب حتى لا تتعارض مع دعوتهم ولا تصطدم بقواعد الدين،
قال تعالى:
( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة ) (النحل:125) ،
فالحكمة في الآية هـي الحجج القاطعة الصحيحة، كما ذكر
الشوكاني في: فتح القدير، أو هـي الأدلة اليقـينية الموضحة للحق، المزيحة للشبهة، كما صرح بذلك
البيضاوي في تفسيره. وهذا يمثل أساس الإقناع في الخطاب الدعوي.
[ ص: 110 ]
إن الأمر الذي ينبـغي أن يعيه القائمـون على أمر الدعـوة لله عز وجل أن للعمل الإسلامي المعاصر وظيفتين
>[7] :
1 - وظيفة البناء الإيماني والعقدي، وإحياء ما أماته الناس من شرائع الإسلام. وهو في هـذا يدور في فلك المنهجية العلمية، يدعو إلى أصول هـذا المنهج، وينشئ رجاله على أساسه. وقاعدته في هـذا الإطار هـم الملتزمون بهذا المنهج.
2 - وظيفة الدفاع عن الإسلام في مواجهة الكفر المطبق في هـذه الأيام، وهو في هـذا حركة جهادية عامة، تدور في فلك المذهبية الإسلامية، بالمعنى العام. وتتضمن هـذه الوظيفة -فيما أرى- معنى أن يعمل الدعاة على نشر الإسلام في العالم كافة، وتبصير أهل العقائد الفاسدة، فضلا عن دفع الشبهات والهجوم الذي يشن على الإسلام، وهذا أمر يستدعي استخدام الاسـتراتيجيات الثلاث للإقناع، مما يتطلب من الداعية عدة فكرية، بجوار العدة الروحية والأخـلاقية، فالدعـوة عطاء وإنفاق. ومن لـم يكن عـنده علم ولا ثـقافة كيف يعطي غيره؟
[ ص: 111 ] لقد تبين لكثير من الباحثين في هـذا المجال أن الداعية بحاجة إلى مجموعة من الثـقافات، من أهمها
>[8] :
أ - الثقافة الإسلامية.
ب - الثقافة التاريخية.
ج - الثقافة الأدبية واللغوية.
د - الثقافة الإنسانية.
هـ - الثقافة العلمية.
و - الثقافة الواقعية.
وامتلاك الفرد لهذه الثقافات هـو -فيما نرى- الذي يجعله يعمل على صياغة طابعه الدعوي بطريقة تقنع الآخرين بطرحه. فمعرفة وفهم القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والفقه يمثل جوهر الثقافة الإسلامية، أما التاريخ فهو الذاكرة البشرية، وسجل أحداثها، وديوان عبرها، والشـاهد العـدل لها أو عليها، ويهمـنا في ذلك تاريخ الإسـلام والأمة الإسلامية خاصـة، وتاريخ الإنسانية عامـة، وهذا يمثل أسـاس الثقافة التاريخية.
[ ص: 112 ]
وإذا كانت الثقافة الدينية لازمة للداعية بالدرجة الأولى، فإن الثقافة الأدبية واللغوية لازمة كذلك، ولكن الأولى تلزمه لزوم المقاصد والغايات، والثانية تلزمه لزوم الوسائل والأدوات، فاللغة بمفرداتها ونحوها وصرفها لازمة لسلامة اللسان وصحة الأداء، فضلا عن حسن أثرها في السامع، بل صحة الفهم أيضا، فالأخطاء اللغوية إن لم تحرف المعنى وتشوه المداد يمجها الطبع وينفر منها السمع.
أما الثقافة الإنسانـية، فتعني مدى إلمام الداعية إلماما مناسبا بأصول ما يعرف الآن باسم: (العلوم الإنسانية) ؛ مثل علوم: النفس، والاجتماع، والاقتصاد، والفلسفة، والأخلاق.
والثقافة الخامسة المطلوب توفرها عند الداعية هـي الثقافة العلمية، والعلم هـنا بمفهومه الاصطلاحي الحديث كما شاع عند الغربييـن، فهو ما قام على الملاحظة والتجربة وخضع للقياس والاختبار مثل علوم الفيزياء والكيمياء...إلخ، ولا يقصد هـنا أن يتعمق الداعية في دراسة هـذه العلوم، وإنما عليه أن يطالع بعض الكتب الميسر فهمها، فهي مهمة لفهم الحياة المعاصرة، كما أن هـذه العلوم يتخذها بعضهم للتشكيك في الدين.
[ ص: 113 ]
ومن أهم ما يلزم الداعية: الثقافة الواقعية المستمدة من واقع الحياة الحاضرة، وما يدور به الفلك في دنيا الناس الآن، داخـل العالـم الإسلامي وخارجه.
والملاحظ أن هـذه الثقافات والتسلح بها تعطي الداعية معرفة متكاملة باستخدام استراتيجيات الإقناع؛ سواء كان ذلك في المجال النفسي، أو الثقافي الاجتماعي، أو إنشاء المعاني، ومن هـناك يمكن القول: إن أساسيات الخطاب الدعوي واضحة، وسمات الداعية أوضح.
ويبقى لنا الحديث عن وسائل الدعوة، ونخص منها هـنا وسائل الاتصال الجماهيري، فهي الأمضى سلاحا والأقوى أثرا في عالم اليوم.
فقد استخدم أعداء الإسلام هـذه الوسائل لضرب الأمة الإسلامية في عقر دارها، ولا ينكر أحد الآثار السلبية لمحطات التلفزة والإذاعات الدولية المتمثلة في جوانب الهيمنة الاتصالية، والاستلاب الثقافي، والغزو الفكري، والاستخدام في إطار الصراع وتأجيج نيران الفتن داخل الدول الإسلامية. وهذه الآثار السلبية أثرت في منظومة القيم؛ لأنها سمحت فقط بانتشار قيم معينة تؤثر على العالم بطريقة واحدة، وأحدثت تغييرات اجتماعية عميقة يمكن ملاحظتها في أنماط السلوك السائدة في بلدان العالم الإسلامي، التي تمتلك فضائيات لم تكتمل
[ ص: 114 ] رسالتها، لا من حيث التأثير ولا من حيث الانتشار، فهي ضعيفة المحتوى والشكل. والأشد خطرا هـو أن هـذه القنوات تفرد حيزا كبيرا في خريطتها البرامجية للمنتجات الإعلامية الغربية، وبذا يكون الجمهور عرضة لتأثيرين كليهما آت من الغرب، أحدهما تقوم به الوسائل الغربية والآخر تقوم به وسائلنا، وهذه قمة التبعية.
إن الصحوة الإسلامية لا تصنعها التمنيات وإنما ينهض بها فرسان الثقافة الإسلامية وأصحاب الضمائر الحية والرؤية البعيدة، وأصحاب العزائم والإرادات الذين يعملون وينتجون للفكر الإسلامي الرفيع المبتعدين عن التقليد الأعمى أو الوقوع في شباك التبعية، بالأرض والفضاء، ورحم الله تعالى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الذين عملوا على نشر الدعوة في أرجاء العالم كافة رغم مشقة الأسفار وحواجز اللغة وبدائية الوسائل، منطلقين في كل ذلك من
( حديث النبي صلى الله عليه وسلم : «بلغوا عني ولو آية ) >[9] .
( وقولـه صلى الله عليه وسلم : « نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع، فرب مبلغ أوعى من سامع ) >[10] .
[ ص: 115 ]
وبما أننا نتحدث عن وسائل نشر الدعوة، لماذا لا تكون للأمة الإسلامية قناة تلفزيونية فضائية دولية تبث برامجها بعدد من اللغات إلى أنحاء العالم كافة، يرتكز خطابها الإعلامي على الحجة والإقناع المستمد من القرآن الكريم ونهجه والسنة النبوية المطهرة وفيضها؟
على أن تقوم هـذه القناة بإدارة حوار هـادف خاصة مع الغرب، الذي يعتبر الحوار معه له دواع ومبررات، منها:
- أنه ضرورة شرعية لتبليغ الرسالة، وحمل أمانة الدعوة، فالأصل هـو التفاعل التبليغي وعـدم جواز السكون،
قال تعالى:
( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) (آل عمران:104) .
- وأنه عملية ضرورية يفرضها الواقع العالمي القائم على الاتصال والتفاعل والاعتماد المشترك بين الأمم والشعوب والجماعات،
قال تعالى:
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (الحجرات: 13) .
- وأنه ضرورة لبناء مستقبل الأمة، ذلك أن فهم مقاصد الدين وتجسيد روح التدين الحقيقي يدعو الأمة الإسلامية إلى الانفتاح على
[ ص: 116 ] قواعد تأخذ في الحسبان، خلاصة التجارب الإنسانية والسعي لتأصيلها،
قال تعالى:
( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110) .
ويتناول هـذا الحوار العلاقة النظرية والعلاقات الدولية، إضافة إلى العلاقة الواقعية بصورها المختلفة ومراحلها ونماذجها عبر عدة محاور؛ أولها: الخطاب الثقافي الحضاري، ثم: الخطاب السياسي، فالخطاب الاقتصادي، فالخطاب الاجتماعي، وأخيرا: الخطاب الفني الرياضي
>[11] .
أما الجانب الآخر الذي ينبغي أن تقوم به هـذه القناة فهو تحديد هـوية الأمة الحضارية وفقا للنموذج الإسلامي، وحتى تقوم القناة بذلك، ينبغي الوفاء بثلاثة متطلبات هـي:
أولا: ينبغي أن تكون النخبة السياسية والاقتصادية في الأمة بصفة عامة مؤيدة لهذا التحرك ومتحمسة له.
ثانيا: ينبغي أن يكون الرأي العام مستعدا للإذعان لإعادة التجديد، وأرى أن الأمة الإسلامية الآن على أتم الاستعداد لذلك.
ثالثا: ينبغي أن تكون الجماعات المسيطرة في الحضارة المتلقية
[ ص: 117 ] راغبة في تبني التحول، وهذا الطلب يتم عبر الحوار مع الغرب الذي أشرنا إليه، ولعل الأجواء مواتية خاصة ضمن مصطلح « العولمة » التي يظنها بعضنا ريحا عاتية تندفع مرة واحدة لتكتسح كل ما يقف بوجهها، ثم ينبت بعدها زرع جـديد وعالم جديد مختلف كليا عما سبق، وبالطبع هـذا غير ممكن، فقد يكون فيزيائيا وعلى الطبيعة ممكنا، ولكن على المستوى الإنساني مستحيل.
إن التحولات الاجتماعية والثقافية تأخذ فترات طويلة، وتتم على مراحل متعددة، وتأخذ أحيانا شكلا حلزونيا وليس اتجاها مستقيما إلى الأمام، وهكذا بالنسـبة «للعولمة» فالتغييـر فيها يتم على مراحل، مما يوجد نوعا من الـتداخل الواضح في عالـم الاقتصاد والسياسة والثقافة، ودون أن يأخذ بعين الاعتبار الانتماء لدولة ما أو الحـدود الفاصـلة بيـن الدول، وهنا لا غرابة أن تتراءى القضية وكأنها محاولة أمريكية لصياغة العالم بما يتلاءم معها سياسة وتوجهات، فلماذا لا يكون للأمة الإسلامية دور بارز في هـذه العملية؟
وإذا أردنا أن ننظر في مراحل هـذه العملية الهائلة لوجدنا أن الإعلام يدخل في كل مرحلة من مراحلها، فهو المبشر لها والمروج
[ ص: 118 ] لأفكارها، وهو الذي يقوم بدور النازع للأفكار السابقة وزرع الأفكار الجديدة؛ أي باختصار شديد هـو الحامل لمضامين « العولمة »، وهي تنتقل من خطوة إلى أخرى، إلا إن وسائل الإعلام العالمية مسيـرة من قطب واحد لا تسـتطيع أن تخرج من نطاقـه، وليس لها خيار للتخلص من أسره، فلماذا لا تكون الأمة الإسلامية مبادرة حتى تصبح القطب الثاني الذي يواجه القطب الأول، ولماذا ينتظر العالم الإسلامي حتى يترك القطب الأول فرصة زرع الأفكار الجديدة في أوساط شعوبه؟
لماذا لا نزرع أفكار الإسلام وقيمه ومثله وأخلاقياته في أوساط الشعوب الأخرى؟
غير أننا مازلنا ننتظر، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المد الإعلامي المتصل من الغرب تجاه الديار الإسـلامية، فشبكة التلفزيون الأمريـكية (CNN) على سبيل المثال، نظام أمريكي مـتكامل نصب نفسـه قيما على صياغة الأحـداث في العالـم، فلا يستطيع جهاز إعلامي في أية دولة أو ليس في مقدور متتبع للقضايا العالمية أن يتحرك دون ترتيب CNN للأحداث، من الصومال إلى بورندي إلى البلقان مرورا بالشيشان وأفغانستان،
[ ص: 119 ] والمؤسف أن قنواتنا في الأمة العربية والإسلامية تقع في ذات الشراك، فتعمق بذلك تبعيتها.
إن التحدي الثقافي لعملية «العولمة» هـو المواجهة المتصلة من الآن فصاعدا لنماذج حضارية اجتماعية ثقافية بعينها، تلك النماذج الحضارية ذات التجربة التاريخية، التي أسهمت في بناء العالم، وأول هـذه النماذج ذات الجذور الحضارية النموذج الإسلامي، وذلك ليس باعتبار أن النموذج الإسلامي تأسس على الدين فحسب وإنما لأن النموذج الحضاري الإسلامي هـو نموذج داع؛ فالحضارة الإسلامية داعية إلى إعمار الإنسان والعالم، فاختصاص حضارة الإسلام بالرسالة الخاتمة يستوجب أول ما يستوجب حضور المسلمين لله في هـذا العالم.
هذا الحضور هـو تجربة قد تفتقر إليها كثير من المجتمعات البشرية التي قد تحقق مرحلة الوجود، فأنماط القيم والأفكار والسلوكيات متساندة مع المخترعات والأدوات والمؤسسات والقنوات وأنماط التعبير الإبداعي؛ تعني أن مجتمعا ما قد حقق قدرا من العمران لعمارة الأرض وبناء نموذج بشري متصرف فيها؛ فالصين اليوم قد تنـزعج من مقومات «العولمة» وتباشيرها بوصف أن الصين أمة حضارة قديمة، لكن ما أن يتحقق للصين الدخول في مركز «العولمة» الاقتصادية حتى تترك هـذا الانزعاج.
[ ص: 120 ]
والفارق أن الحضارة الإسلامية بوصفها حضارة ذات تكليف إلهي فهي داعية إلى نموذج إنساني ثقافي، نموذج للاقتداء به، نمط من العـلاقات بين البشر وخالقهم ومع الـكون، ومن هـذا يتجدد هـذا التكليف في إنجاز «إنسان معيار»
قال تعالى:
( في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب ) (النور:36-38) ،
في حين أن الحضارة الغربية لا تحدد «إنسانا معيارا»، بل نجد أن موقع إنجازاتها التطبيقية المتلاحقة في سرعة مذهلة لا يتعدى الإنسان العادي في غمرة فرديته البسيطة وإلحاحه المستمر لإشباع حاجاته الغريزية المادية، وتوفير وسائل تسليته، والترويح عنه، وصولا إلى حد كف نظره عن قضايا وجوده؛ غاية ومصيرا.
من كل ما تقدم لا بد لنا من المشاركة في عولمة العالم، لا بد من إحياء واسترجاع دورنا الحضاري الذي انقطع منذ قرون، والأمة الإسلامية مكلفة تكليفا لا نكوص عنه. وهذه المسئولية الحضارية
[ ص: 121 ] المستعادة، لا تتحقق إلا من خلال فهمنا لجوهر حضارتنا ومسئولية هـذه الحضارة تجاه البشرية جمعاء
>[12] .
ونرى أن القناة الفضائية الإسلامية -متعددة اللغات- يمكن أن تقوم بدور فاعل في هـذا الجانب إذا ما خلصت النوايا وتكاتفت الجهود، مع ملاحظة أن الإعلام الدعوي متميز بأهدافه ومتطلباته وشرائعه، والقوانين التي تحكم عمله، إنه ليس مجرد برامج دينية تنشر في خارطة البرامج، ولكنه جهود مخططة تستهدف الإبلاغ بالحقيقة وتنقية الرسالة الإعلامية من كل الشوائب والملوثات؛ لتكون ذا منبت حسن وأهداف نبيلة، إنه إعلام الكلمة الطيبة الذي يسهم في بناء الإنسان وفق النهج الإسلامي، ويخلصه من العبودية لغير الله في البرامج والمعالجات كافة، بدءا من فقرات الترفيه وانتهاء بإعلام الأزمات والشدائد
>[13] ،
قال تعالى:
( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) (فصلت:33) ،
على أن يتم كل ذلك وفقا للاستراتيجيات الثلاث للإقناع.
[ ص: 122 ]
إن الإقناع في أدبيات الاتصال والإعـلام يقوم على بناء الرسالة التي تبث أو تنشر على الجمهور وأسلوب تقديـمها، فالرسالة وخصائصها تظل هـي المتغيـر الأسـاس والحاسـم في تحقيق هـدف الإقناع، الذي يتم من خلال التخطيط السليم والناجح للرسالة الإعلامية، وبنائها عبر مداخل تستهدف البناء الوجداني والبناء المعرفي.
والقرآن الكريم كرسـالة إعلامية إقناعية راعى كل هـذه الجوانب، فقد اسـتخدم نفس الحروف والكلمات التي يستخدمها العرب، وفي هـذا إشارة إلى ضرورة استخدام الدعاة وأهل الإعلام اللغة السائدة في المجتمع من غير مبالغة أو تكلف؛ حتى تنساب رسائلهم إلى مسـتقبليهم من غيـر عنت أو مشقة، فتحقق بذلك أهدافها ومراميها.
ومن «التكتيكات» الإقناعية التي استخدمها القرآن الكريم: جذب الانتباه للمستقبل، والقابلية للتصديق، والتكرار، والتشخيص، والاعتماد على المصادر الموثوقة، والتجاهل المتعمد لبعض المواقف، إضافة إلى الوضوح. وكلها «تكتيكات» نحن بحاجة لها في عالم
[ ص: 123 ] اليوم، الذي أخفق فيه المسلمون في طرح وجهات نظرهم وتعريف الآخرين بحضارتهم وتاريخهم، الأمر الذي قاد إلى رسم صورة ذهنية سلبية عنهم، خاصة وسط سكان العالم الغربي.
فالمسلمون الآن بحاجة إلى إحسان التعامل مع وسائل الإعلام، فهناك حاجة ملحة لوجود إسلامي فاعل عبر الوسائل الإعلامية، يقدم المسلمون من خلاله المقالات والكتب والأبحاث والمعارض والندوات والبـرامج الإذاعية والتلفزيونية، على مسـتوى يـتفاعل مع عقول وأقلام الفكر الغربي، وبهذا وحده سنكون شهداء على الناس كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم شهيدا علينا. وإلا نكون قد ضيعنا الأمانة؛
قال تعـالى:
( وجاهدوا في الله حق جهاده هـو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هـو سماكم المسلمين من قبل وفي هـذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هـو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير ) (الحج:78) .
[ ص: 124 ]