تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي اقتضت حكمته وتدبيره للحياة الدنيا أن ينحدر الناس جميعا من أصل واحد، ويتعاونوا، ويتكاملوا، كأفراد أسرة واحدة،
فقال تعالى:
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا... ) (الحجرات:13) ،
وقال تعالى:
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة... ) (النساء:1) ،
والذي قضى عدله أن يكون ميزان الكرامة الإنسانية أمرا كسبيا اختياريا، وليس أمرا قسريا إجباريا لا يد للإنسان فيه،
فقال تعالى:
( ...إن أكرمكم عند الله أتقاكم... ) (الحجرات:13) ،
فمن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، فلا الأجناس ولا الألوان ولا الأقوام ولا سائر الأمور القسرية، التي لا يد للإنسان في وجودها أو تغييبها، تعتبر ذات وزن أو قيمة أو معيارية في ميدان الكرامة الإنسانية، إذ لا يد ولا اختيار للإنسان في أن يخلق أبيضا أو أسودا، أو عربيا أو عجميا، أو ذكرا أو أنثى، أو من الأسرة الفلانية أو العلانية، ذلك أن اعتماد هـذه المعايير القسرية يعني عين الظلم.
إن ما يترتب على الأمور القسرية، من فلسفات ومسوغات، إنما هـو في حقيقته لوضع مشروعية للتسلط والاستئثار والتحيز، لأنها جميعها تناقض
[ ص: 5 ] العدل والعقل، وتملأ الدنيا بالصراعات والأحقاد والثأر والانتقام، وتؤجج نار العداوة والبغضاء، وتستدعي الحروب والنزاعات، التي تلتهم البشرية، بسبب غياب موازين العدل والكرامة السليمة، وتسويغ تسلط الإنسان على الإنسان، الذي يعتبر مصدر الشر في العالم، مهما اتخذ هـذا التسلط من أشكال التدليس وفلسفة التبرير والتمرير.
والصلاة والسلام على المرسل للناس كافة، بشيرا ونذيرا، المبين عن ربه مانزل إليه، الذي جسد معاني المساواة وحرية الاختيار، وأكد موازين الكرامة الإنسانية، بشخصه وسيرته ومجتمعه وتعاليمه.
وكان الرسول المعلم لقيم العدل والخير، والنذير لما يمكن أن ينزلق فيه البشر بطبيعتهم، لأن شياطين الإنس والجن بالمرصاد لاغتيالهم والانحراف بهم عن الحنيفية،
( قال صلى الله عليه وسلم : «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هـذا ... إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ... ) (أخرجه
مسلم ) ، وإغرائهم بالتعالي والتسلط والتميز،
قال تعالى في حكاية موقف الشيطان من آدم عليه السلام:
( قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) (ص:76) .
ولعل ما عرض له صلى الله عليه وسلم من عظيم المعاني بعد فتح مكة، وما تحقق من نصر كبير، وبناء دولة الجزيرة وخضوعها للمسلمين، وما يمكن أن يكون من نشوة النصر، التي قد تخرج بالإنسان عن توازنه وانضباطه بالمنهج القويم، وفي مقدمتها
[ ص: 6 ] الاستكبار، فقال:
( يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وتعاظمها بآبائها، فالناس رجلان: بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هـين على الله، والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب ) (أخرجه
الترمذي ) ؛
وما أكده في حجة الوداع، واستأمن الأمة عليه، ما يلفت النظر إلى أهمية الانتباه إلى هـذه المعاني واستمرار حراستها؛ لأنها المقوم الأساس لوجود الأمة، وحفظ كيانها، واستمرار رسالتها في إنقاذ البشرية.. إن خطبة حجة الوداع هـي رسالة المودع، الذي يستودع أمته المعاني الكبرى، التي تستأثر باهتمام زمن الوداع الأخير ومكان الوداع.. إنها عهد النبوة عند مهبط الوحي.. وعادة ما تكون وصية المودع لأهم وأخطر ما يستشعره، ويستشرفه، ويهمه، ويتخوف من حدوثه، وعدم الانتباه لمخاطر التفريط فيه،
( قال صلى الله عليه وسلم :
- « يا أيها الناس: ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ) (المساواة ومعيار الكرامة) (أخرجه
أحمد ) .
-
( كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه ) (أخرجه
مسلم ) .
-
( لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) (أخرجه
البخاري ) ، مما يمكن أن يعتبر من ركائز حضارة الأمن.
وبعد:
فهذا كتاب الأمة السادس والتسعون: «الغرب ودراسة الآخر.. أفريقيا أنموذجا» للدكتور علي القريشي ، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز
[ ص: 7 ] البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في
دولة قطر ، في محاولة للعودة بالأمة المسلمة إلى الينابيع الأصلية، في القرآن والبيان النبوي، والنهل من معينها الخالد، وإنهاء القطيعة، ومعاودة الصلة بما تمنحه من القيم المعيارية المستمدة من معرفة الوحي، والمبرأة من الظلم والجور والتحيز وتسويغ تسلط الإنسان على الإنسان، تحت شتى المعاذير والمسميات والمسوغات.
ذلك أن المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، العودة إلى تحرير هـذه المعايير مما يمكن أن يكون لحق بها من فهوم وميول وأهواء واجتهادات البشر، وتأكيد مفهوم أن فعل العقل واجتهاده وكسبه، من خلال تعامله مع القيم المعيارية في القرآن والبيان النبوي، مهما بلغ لا يمكن أن يكتسب صفة المعيارية والقيمة، والتحول بالمسلم من نص الشارع إلى قول الشارح والمجتهد والمفسر.
ولعل الإصابة الأخطر على الحياة الإسلامية والمسيرة الثقافية الإسلامية، أو مسيرة التدين الإسلامي بشكل عام، تكمن في محاولات نقل العصمة والقدسية من نص الله الشارع إلى اجتهاد الإنسان الشارح، ذلك أن الاجتهاد الصادر عن الإنسان بطبيعته خاضع لعدة عوامل ومؤثرات شخصية وزمانية ومكانية، تنفي عنه صفة التجرد، ولا تكسبه المعيارية وعدم الانحياز.
وحتى لو تم هـذا الاجتهاد ضمن إطار القيم المعيارية، وإن كان ذلك يمنحه خصائص ومميزات تحول دون انفلاته، وانضباطه بمرجعيته، وتميزه عن الرؤى والاجتهادات والفلسفات السائبة من كل معيار، ويجعله الأقرب للتجرد والصواب، ويخلصه من كثير من الأهواء والشخصانية، إلا أن ذلك لا يخلصه من الصفة البشرية، وما يجري عليها من الخطأ والصواب، ولا ينقله
[ ص: 8 ] إلى مجال المعيارية، هـذا من جانب، ومن جانب آخر لا يمنحه القبول عند الإنسان (الآخر) ؛ لأنه في المحصلة النهائية لا يخرج عن كونه من اجتهاد إنسان مثله، وفي هـذه الحال لا يؤمن من الانحياز والتسلط والتمييز لقومه، وعشيرته، وأسرته، وحزبه، ولونه... إلى آخر هـذه السلسلة من المؤثرات، خاصة وأن الناس جميعا يعتقدون وكأنهم في هـذه الحياة يعيشون على مائدة مستديرة، كما يقال بالعرف الدبلوماسي، فهم متساوون، لذلك فمن أين لهم أن يقبلوا من إنسان مثلهم أن يضع المعايير والموازين لآرائهم واجتهاداتهم؟ ومن أين لهذه المعايير التجرد، وعدم التحيز، وعدم التأثر بالميول البشرية، على اختلاف أنواعها؟
لذلك، ما لم تأت المعايير التي محلها فعل الإنسان وكسبه ورأيه، من جهة خارجة عن الإنسان، فلا يمكن عقلا وواقعا أن تبرأ من التحيز، أو تتحرر من المؤثرات الشخصية، ولا يمكن أن نضمن لها القبول من الإنسان (الآخر) المساوي بأصل الخلق، إضافة إلى أن هـذه المعايير الموضوعة من قبل الإنسان للإنسان (الآخر) يمكن أن تشكل جسرا للتسلط والتحكم والسيطرة.
وهذا المصدر، الخارج عن وضع الإنسان، حتى يكون مقبولا، لا بد له أن يكون متصفا بالعلم المحيط المطلق، والحكمة البالغة؛ متصفا بصفات الكمال، منزها عن أي نقص؛ له سلطان الحكم والأمر؛ يعلم السر وأخفى؛ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ مالك يوم الدين؛ هـو الذي يحي ويميت؛ ولا يضيع عنده مثقال ذرة من خير أو شر، يوم يقوم الناس لرب العالمين؛ هـو رب الناس جميعا؛ إله الناس؛ وملك الناس؛ الناس سواسية أمامه، على أن
[ ص: 9 ] يشكل هـذا المصدر، بصفاته العلا، محل إيمان وقناعة للإنسان، بأنه المصدر الأوحد، المحيط علمه بحاجات الإنسان وما يصلحه؛ الذي يستشعر الإنسان أمامه المسئولية التي تمنحه الحرية والاختيار المؤدي إلى المحاسبة والالتزام، وتوقظ فيه الوازع الداخلي، والرقيب الذاتي، الذي يحمله على الانضباط بالقيم، ومساءلة نفسه، وتقويم سلوكه، حتى لو غاب الرقيب المادي.
وكم جهدنا، واجتهدنا، وحاولنا، وما نزال، لفت النظر إلى خطورة هـذه الإصابة، وبيان مخاطرها، ومحاولة فك الالتباس بين الذات والقيمة، لنضمن للمعايير والقيم، في الكتاب والسنة، حيادها، وعدم تحيزها وتأثرها بالفعل البشري، وحتى لا تنقلب الذات إلى قيمة والقيمة إلى ذات.
إن تلبس الذات بالقيمة، وتحول المعيارية إلى الذات، أصابت الكثير من أشكال التدين الإسلامي في مقتل، وساهمت بتسلل علل التدين من الأمم السابقة إلينا، وشكلت طبقة من رجال الدين، شبيهة بطبقة الأكليروس، اعتبرت نفسها معيارا، وحملت الناس على ذلك من خلال كهانات هـي أشبه بالأوثان البشرية، وتحولت القيم المعيارية في الكتاب والسنة إلى خانة التبرك والتلاوة على الأموات، بدل أن تحي قيم الكتاب والسنة موات الأمة، وتصوب وتقوم فعل الأشخاص كبشر، ليستقيموا على الطريقة.
إن تحول الذوات والأشخاص، ومن نصبوا أنفسهم للنطق باسم الدين، إلى قيم معيارية، رغم ما يعتريهم من إصابات، وإقامة الحواجز النفسية والعملية والإرعاب الفكري دون مناقشة آرائهم، هـو الذي أدى بالأمة إلى هـذا التخلف والاستنقاع والركود، وعدم التجرؤ على النقد والنقض
[ ص: 10 ] والمراجعة والحوار، لأن صفة العصمة المدعاة تعطل الفاعلية وتحول دون الحراك الثقافي ومحاولات التصويب؛ لأن نقد التدين والحالة هـذه يتحول إلى نقد لقيم الدين؛ والنقد لبعض الذوات التي تدعي القداسة هـو نقد للشريعة التي يحملونها؛ وادعاء نقد الشريعة التي يحملوها يؤدي إلى الكفر بمنزل الشريعة (!) وقد يصل الإرعاب إلى درجة أن نقد الاجتهاد البشري موصل إلى الكفر بالله، والعياذ بالله تعالى (!)
إن تلبس الذات بالقيمة، والمعيار بالشخصانية، حرم القيم الإسلامية من صفة التجرد والمعيارية، وقربها من خانة التحيز، ولم يجعل لها كبير تميز عن سواها من الإنتاج البشري للقيم، وبذلك اختلط الدين بصور التدين، ولم نعد نفترق كثيرا عن غيرنا، في تحزبنا وتعصبنا وممارساتنا؛ وإن كان التدين والاجتهاد في الإسلام ليس منفلتا من مرجعية قيمية، وإنما ما يميزه أنه يتحرك من خلال قيم مستمدة من خارج الإنسان.
إن الإشكالية الكبرى التي يعاني منها العقل المسلم اليوم تكمن -كما أسلفنا- في هـذا الالتباس الخطير بين الذات والقيمة، الذي ينتهي بالقيم الإسلامية المجردة إلى خانة التحيز والتأثر والاصبطاغ بالشخصانية، ويحول دون التأمل والمفاكرة والمراجعة والنقد للإنتاج البشري، ويحيط هـذا الإنتاج بنوع من القدسية المغشوشة، والأسوار الدينية الموهومة، ويبقي حالة الركود والجمود، ويكرس واقع التخلف على الأصعدة المتعددة.
ولعل سبب تفوق (الآخر) علينا هـو - من بعض الوجوه - أن إنتاجه الفكري، على الرغم من أنه غير مؤطر بقيم خارجة عن وضع الإنسان،
[ ص: 11 ] تشكل له معايير، خاضع دائما للنقد والمراجعة، والتخطيئ والتصويب، والإلغاء والرد.. مثل هـذا الحراك، هـو الذي يؤذن بالتقدم والارتقاء، على الرغم من الإصابات التي يعاني منها، والتحيز الذي يحكمه.
إن الإصابات الخطيرة في صور التدين، رغم عصمة قيم الدين، أدى إلى إقامة حواجز وأسوار سميكة حالت بين (الآخر) واستيعاب تجرد القيم الإسلامية المعيارية وعدم تحيزها، ذلك أن التحيز أصبح قائما ومحتملا وواقعا، بسبب هـذا التلبس بين الذات والقيمة؛ حتى لقد وصل الأمر إلى نوع من المفارقات العجيبة والرعيبة في الوقت نفسه، ولعل ما ذهب إليه بعض المجتهدين «
أبو الحسن الكرخي » من القول: «كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ»
>[1] ، يشكل نافذة دقيقة للإطلالة منها على المناخ الثقافي المغشوش للتدين، وعلى حالة التخلف، ومسيرة التخلف والجمود، التي نتجت بسبب تلبس الذات بالقيمة، أو الانتهاء بالقيم المجردة إلى خانة الانحياز والتعصب والإصابات الشخصية، التي أفقدتها المعيارية والبراءة من الانحياز، والنأي بها عن الأهواء الشخصية.
ولا شك أن مقارنة بسيطة بين قول «
أبي الحسن الكرخي » الحنفي وبين قول «
أبي حنيفة » إمام المذهب في من سبقه من المجتهدين: «هم رجال ونحن رجال» يظهر الانقلاب الجذري والانتكاس الثقافي الذي أصاب العقل المسلم، وانتهى إلى التحيز والجمود والمحاصرة لقيم الكتاب والسنة الخالدة.
[ ص: 12 ]
ولعلنا نقول هـنا: بأن هـذه الحالة تمثل نوعا من الإجهاض للقيم المعيارية، وتنزع عنها عصمتها وتجردها، وتصيب المؤمنين بها، المنطلقين إلى الاحتكام إليها، بنوع من الإحباط والانكسار الثقافي، حيث تمكن هـذه الحالة لتفوق (الآخر) ، الذي يعتمد العقل وينكر الوحي، في الوقت الذي يتخلف فيه الذي يؤمن بقيم الوحي ومكتسبات العقل، دون أن يدري السبب الحقيقي لمشكلة التخلف... وبذلك تصبح قيم الوحي وحملتها محل استهانة وازدراء، ويصبح الواقع الثقافي البائس مستدعيا للعلمانية أو العقلانية والحداثية، وكل المفردات والمصطلحات التي تحاول تجاوز قيم الدين، أو ما إلى ذلك من المصطلحات والتسميات المتولدة من ثقافة وقيم (الآخر) .
ونود معاودة التأكيد أن قيم الوحي، في الكتاب والسنة، هـي قيم معيارية لضبط المسيرة وتأطيرها وتحديد منطلقاتها وأهدافها؛ وهي لا تخرج عن كونها معايير وأدلة، وليست برامج وخططا في مجالات الحياة المختلفة، ذلك أن البرامج والخطط والتدابير الإدارية ليست دينا تحرم مناقشته ونقده وتغييره، هـي من كسب العقل ووضعه، ودور القيم ضبط مسيرتها ومعايرتها، حتى لا تنحرف أو تنحاز، لكن الإشكالية – فيما نرى- في الخلط والالتباس بين القيم والبرامج، بين الذات والقيمة، بين المعيار والفعل البشري، محل المعايرة، بين القيمة المعصومة والاجتهادات البشرية التي يجري عليها الخطأ والصواب، أو بين المقدس والبشري، بين المطلق والنسبي؛ بين المجرد والمجسد...
وما لم تتضح هـذه القضية- ووضوحها هـو الذي يأذن بالنقد والمراجعة والتصويب - فسوف تصبح الاجتهادات على ما تحتمل، وصور التدين على
[ ص: 13 ] ما ينالها، هـي قيم الدين؛ ويتحول المعيار المجرد المنزه عن الانحياز إلى الشخص، الخاضع للكثير من الأهواء والتأثيرات.. فتنقلب المعادلة، فنعرف الحق بالأشخاص ولا نعرف الأشخاص بالحق، فيكرس الانحراف والانحياز، ولا تفترق ساحة التدين عن الساحات المنكرة للدين، إن لم تصبح أكثر سوءا وتخلفا واستغلالا.
والحقيقة التي لا مراء فيها، أن الإنسان، بكينونته وطبيعته، ينحاز إلى اختياره، وينتصر إلى معتقداته، ويعتقد أنها تمثل الحق المطلق، لأن في ذلك إثباتا للذات، والتدليل على سموها وقيمة اختيارها. ومن الأمور الطبيعية أيضا أن يقع الإنسان تحت تأثير بيئته، وأسرته، وطبيعة مسيرته التعليمية، ونوع انتمائه، من وطن أو حزب أو عشيرة أوقرابة؛ إضافة إلى ضعفه أحيانا أمام شهواته ونزعاته المادية؛ التي يتقلب فيها هـو ذاته بين الإقدام والإحجام، والتوبة والعود، ولو كشف الغطاء تماما عن واقع العالم، وما يسقط فيه من الفساد والرشاوى والجنس والمال والمخدرات، لم يزدنا ذلك إلا يقينا، ويبقى الاستكبار أخطر أشكال الانحياز والتعصب.
وقد تكون المشكلة هـنا، أن الإنسان الذي ينحاز وينتصر لاختياره، وهذا طبيعي، إنما تكمن في ضيق صدره بأن يكون للإنسان (الآخر) نفس الحق في الاختيار والانتصار لخياراته.. وهذا هـو غير الطبيعي.
لذلك، فالإنسان في ضوء ذلك كله، عاجز عن وضع المعيار المجرد عن الانحياز لنفسه ولغيره على سواء، لذلك وحتى نضمن نزاهة المعيار وبراءته من الانحياز والتلاعب تماما، لا بد أن يستمد من مصدر آخر خارج عن
[ ص: 14 ] وضع الإنسان نفسه، مؤهل بعلمه ونزاهته عن الانحياز، فإذا كان فعل الإنسان هـو محل المعايرة، فكيف يمكن أن يتصور أن يكون الإنسان نفسه واضع المعيار؟ هـو المعيار وهو محل المعايرة، هـو الوسيلة وهو الهدف، هـو الأداة وهوالمؤدى، أي المحل؟
حتى في مجال الأمور الحياتية، الاقتصادية والإدارية والسياسية، فالأمر المتعارف عليه أنه لا يجوز للجهة القائمة بالعمل أن يناط بها تقويم العمل وبيان مدى نجاحه وإخفاقه، لأنها بطبيعتها سوف تنتصر لفعلها، وتتستر على خطئها، وتنحاز لاختيارها وفعلها.
من هـنا نقول: الانحياز أمر ملازم وحتمي لطبيعة الإنسان، والبراءة من الانحياز لا تتحقق إلا بأن نستمد المعيار من خارج الإنسان نفسه. فإذا كان الإنسان يتلبس بالمعيار – كما أسلفنا- ليصبح هـو المعيار، وهذا من أشد أنواع الانحياز وتضخيم الذات، فكيف سيكون الحال عندما يضع هـو المعيار؟
لذلك فالعلوم الإنسانية بعمومها، لا تبرأ من التحيز، لأنها مشبعة بشخصانية منتجيها، وبالتالي فلا تصلح أن تعتمد معيارا للنفي والإثبات، هـذا إن صحت تسميتها علوما، بالمصطلح المدرسي للعلم، وتسويتها بالعلوم التجريبية.. ذلك أن العلوم التجريبية، محلها أشياء الإنسان المادية، المنضبطة بحدود الزمان والمكان والطبيعة والنوع، وهي محكومة بالنتائج القريبة، فلا بأس أن يكون الإنسان محلا لوضع معاييرها ومناهجها، لضيق مساحة الانحياز فيها، وإنما الانحياز يكون بأمر خارج عنها، من مثل الانحراف بأهدافها ومنطلقاتها.
أما العلوم الإنسانية فإن محلها الإنسان، بكل تكويناته وتعقيداته وتقلباته، وهي بطبيعتها بطيئة الإيقاع، ومحكومة بالعواقب والمآلات البعيدة،
[ ص: 15 ] وليس بالنتائج الحاسمة القريبة، التي تترتب على المقدمات نفسها، فميدانها غير ميدان العلوم التجريبية، وأدواتها أخرى، وأزماتها أخرى، ونواتجها أخرى، وأزمنتها وعواقبها أخرى، وبالتالي فلا يمكن أن نحكم المناهج العلمية التجريبية بميدان الدراسات الإنسانية، يضاف إلى ذلك أن الحقيقة العلمية واضحة واحدة، وإن اختلفت فلسفتها وأهدافها وتوظيفها، بينما القضايا الإنسانية غامضة، ومناهجها قد تتعدد بتعدد العلماء، فنظريات ومناهج علم الاجتماع مثلا يمكن أن تصل إلى عدد العلماء الذين اشتغلوا فيها، وهكذا سائر العلوم الإنسانية الأخرى، حيث تتحكم عدة عوامل في بناء المنهج، وليس في طبيعته فقط، وقد يفصل المنهج فيها وفق أهداف وسياسات وفلسفات مسبقة.
ومع ذلك لم يقتصر الانحياز على العلوم الإنسانية، وهي محل للانحياز، بل تجاوز الاعتداء والانحياز إلى مناهج العلوم التجريبية، وحاولت السياسة توظيفها لإثبات علو وتفوق عرق، أو لون، أو حضارة، أو دين، فاختبرت الدماء، وقاست الجماجم، ودرست الجينات، وبذلك وضعت فلسفة ومسوغات الاستعمار والانتداب والحماية والوصاية.. وتمحورت كثير من الحضارات حول اللون، أو الجنس، أو القوم، واعتبر ذلك معيارا مطلقا لسائر أنواع الفعل البشري، وسائر الأمم والحضارات.. فإذا وافق الإنتاج البشري هـذا المعيار، كان حضاريا، وإن غايره كان متوحشا وبربريا، يحتاج إلى إصلاح، وإعمار، واستعمار، وتحضر، ويحتاج إلى قيم الحضارة الغربية في الديمقراطية والحداثة والعلمانية؛ ولا أدل على ذلك من تقدم الغرب وتخلف المسلمين (!)
[ ص: 16 ]
ولعل تلك الرؤى والفلسفات، المنحازة والمتحيزة، انطلقت في ذلك من خلفيات ثقافية، ورؤى دينية وفلسفية.. فالفلسفة اليونانية، التي تعتبر أم الفلسفة والمرجعية الأساس للثقافة والفلسفة الأوروبية، تعتبر أن الناس بأصل الخلق متفاوتون، وأن بعضهم خلقوا أسيادا للسيادة والقيادة، وبعضهم خلقوا عبيدا لخدمة الأسياد؛ وأفلاطون في جمهوريته الفاضلة أكد ذلك وكأنه حقيقة علمية، وامتد ذلك لاعتبار بعض الأمم والحضارات هـي ذات السيادة والمعيارية بأصل خلقها، لا بقدر كسبها، وبدأت تنظر للعالم نظرة دونية على هـذا الأساس.
والرؤية الدينية، التي صاغها البشر، لم تبرأ من ذلك، بسبب العبث البشري بقيمها والتحريف والتأويل لنصوصها، فالله أعلى وأجل عن هـذه الترهات والخيالات المريضة، وهو منزه عن الظلم ومحاسبة الناس على ما لم يجنوه أو يفعلوه.
فنظرية الشعب المختار، ونظرية أبناء الله، ما تزال تأخذ مساحات ثقافية وممارسات سياسية واجتماعية، بشكل معلن أو خفي، ولقد انتقلت عدوى هـذه الأساطير إلى بعض الفلسفات والرؤى السياسية اليوم لوضع فلسفة محكومة بخلفية دينية خفية، ومفردات ومصطلحات دينية اتخذت مسوغا للسيطرة على العالم، وكانت العلوم الاجتماعية والإنسانية ميدانا لهذا العبث والتضليل، ومعاودة الانطلاق بشعارات ومسميات وفلسفات جديدة لمضامين قديمة؛
فألمانيا فوق الجميع، والعرق الآري رأس العروق، والرجل الأبيض سيد الألوان، والإنسان الأوروبي باني الحضارة ومعيارها، والمنبوذ هـو الإنسان «النجس» بطبيعته.
[ ص: 17 ]
ولم يحدث ذلك فقط في الإطار الفلسفي، وممارسة العبث والنفاق الثقافي والأساطير الدينية، وميدان العلوم الإنسانية، وإنما امتد أيضا إلى حقول العلوم التجريبية والبيولوجية، فالجماجم تختلف، والجينات تتفاوت، وصفاء السلالات يختلف... إلى آخر هـذه القائمة التي وضعها علماء السلطان - فللسلطان علماء حتى في نطاق العلوم التجريبية- وفلاسفة السلطان، ومثقفي السلطان، وحاملي دين السطان، الذين لا هـم لهم إلا صناعة المسوغات، ولو على حساب الحقيقة العلمية والاجتماعية.
ولا أدل على ذلك من نزعات العنصرية والتعصب وثقافة الكراهية، التي بدأت تستيقظ من جديد، ويساندها عدد من السياسيين والقادة، والأحزاب والجماعات، ويسير تحت لوائها الكثير من التخصصات العلمية، ويسوغها مجموعة من الكتاب والمفكرين، ويدعمها أصحاب الرؤى والأساطير الدينية والأيدلوجيات العنصرية، علما بأن الاستقراء للتاريخ الحضاري والإنساني،
وما خضع له من سنن التداول
( ...وتلك الأيام نداولها بين الناس... ) (آل عمران:140) ،
وسنن الأجل
( ولكل أمة أجل... ) (الأعراف:34) ،
يؤكد أن الراية الحضارية، أو راية الحضارة، دون المناقشة لمضمونها، لم تكن حكرا على أمة على مدى التاريخ، ولم تتركز في منطقة جغرافية دون سواها، لم تغادرها، وأن الكثير من الحضارات، تاريخيا، اضطلعت بها شعوب وأجناس وأعراق وبيئات متنوعة، ومناطق جغرافية مختلفة، حتى لنكاد نقول: إنه من الصعب وقف الحضارة على شعب بعينه،
[ ص: 18 ] أو منطقة بعينها، أو لون أو جنس بعينه، إنها نتاجهم جميعا، وعطاؤهم جميعا؛ لأنها حضارة الإنسان أينما كان، وحيثما كان، إنها مشترك إنساني متراكم، ولعل أدل مثال على ذلك الحضارة الإسلامية.
فإذا تجاوزنا اللغة العربية -واللغة أمر كسبي- التي نبغ فيها الأعاجم نبوغا موازيا لقدرات أهلها الأصليين، إن لم يتجاوزوهم، حيث إن معظم موجودات مكتبة اللغة ومعاجمها وفقهها وصرفها، ونحوها، من إنتاج غير العرب تقريبا، إذا تجاوزنا لغة الحضارة (العربية) يصعب أن نقول: إن الحضارة الإسلامية عربية خالصة، أو فارسية خالصة، أو شرقية خالصة، أو غربية خالصة، أو آسيوية، أو إفريقية، أو حضارة الرجل الأبيض أو الأسود، أو الذكر أو الأنثى، إنها حضارة هـؤلاء جميعا.. لقد ساهم فيها، ولا يزال، كل البشر، وهي مفتوحة لكل البشر، وخطابها موجه لكل البشر، ومعيارها منصوب لتقويم كل الفعل البشري، وبذلك دللت على عدم انحيازها؛ لأن قيمها من رب الناس؛ ملك الناس؛ إله الناس.
وقد تكون الإشكالية التي نعاني منها في الواقع الإسلامي اليوم، وخاصة في هـذا المجال، تكمن في استمرار الحديث عن النظرية الإسلامية وتميزها عن غيرها، والبحث فى المنهج المعرفي الإسلامي، وعلى الأخص في العلوم الاجتماعية والإنسانية، والتنظير لإسلامية المعرفة، والقيام بمقاربات ومقارنات مع (الآخر) التي غالبا ما تزال تراوح في مكانها، وكأنها انتهت من وسيلة وبلورة أداة لإنتاج معرفي مأمول، وفق القيم الإسلامية المجردة، إلى غاية بحد ذاتها، حيث لم تستطع هـذه الدراسات تجاوز البحث في الوسيلة
[ ص: 19 ] والمنهج والأداة إلى مرحلة الإنتاج المأمول، في ضوء المنهج المقترح، في الوقت الذي نرى فيه هـذا الطوفان الثقافي والمعرفي، الذي يغرقنا، وينفتح علينا من كل جانب، على الرغم من تعدد الرؤى، والمناهج، والمرجعيات، وتناقضها.
فإلى متى، وإلى أي مدى سوف يستمر البحث في المنهج، وإسلامية المعرفة، ويقصر عن الإنتاج المأمول، ويعجز عن اكتشاف مواطن الخلل والمعوقات الحقيقية، ويضع الدليل لكيفية التعامل معها ومعالجتها؟
وبالإمكان القول: إن الإنتاج الملفت بشكل عام، والإنتاج في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل خاص، متوقف في حياة المسلمين الفكرية، منذ القرن السابع تقريبا، منذ عصر «
ابن خلدون » الذي أفاد منه (الآخر) وامتد به أكثر مما أفاد منه أهله وبنو قومه، إلا من بعض النقرات والالتماعات هـنا وهناك، والتي ما نزال نبدي فيها ونعيد، وقد لا يخرج عملنا في مجمله عن إعادة الإنتاج؛ الأمر الذي يخشى معه أن تصنف هـذه الجهود، على الرغم من النوايا الحسنة - والله أعلم بها- في خانة الفكر الدفاعي على أحسن الأحوال، لكن على صعيد آخر؛ ذلك الفكر الذي يتمحض في عواقبه ومآلاته ليكون لصالح (الآخر) الذي يملأ الساحة الفكرية بإنتاجه، ويستمر في التحكم بردود أفعالنا، على المستويات كافة.
وعلى الرغم من التحدي - وما يتطلبه من الاستجابة والموقف الدفاعي – بمختلف أطيافه، الذي يفترض فيه أن يستنفر الأمة، ويجمع شتاتها، ويجدد عزيمتها، ويعيد بناء طاقاتها، ويوقظ وعيها، ويبصرها بما يراد لها، لتأخذ حذرها وتستيقظ من غفلتها:
( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ) (النساء:71) ،
[ ص: 20 ] وأخذ الحذر والتنبه لا يعني الاعتداء:
( ...ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة... ) (النساء:102) ،
فالوعي وأخذ الحذر لدرء الشر، وليس لصناعته؛
وعلى الرغم من البغضاء البادية في الوجوه، وما تخفي الصدور أكبر،
( ...قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر... ) (آل عمران:118) ؛
وعلى الرغم من كل الفلسفات والمسوغات لما يسمى ضرورة الإعداد لتوازن الرعب، والحروب الدفاعية، والضربات الاستباقية، واتهام نوايا الناس، ومحاسبتهم على ما يحتمل أن يفعلوا، دون ممارسة أي فعل؛ مع ذلك، فإن الكثير من بني قومنا، المسكونين (بالآخر) يضنون علينا حتى بمجرد التفكير في الموقف الدفاعي، ويتهمون الكثير من أهل الحيطة والحذر بأن أوهام نظرية المؤامرة (الحذر واستشعار الخطر الماثل) تسيطر عليهم، وأنه لا بد لهم من التحرر من نظرية المؤامرة، مع أن الأمر يتناقض مع كل المعطيات، على مستوى النظرية والممارسة والواقع المحزن والمخزي، ومنطق سنن المدافعة الحضارية.
وأعتقد أن هـذا الحال الذي صرنا إليه يشكل أخطر أنواع الاستلاب الثقافي، الذي ينتهي بصاحبه إلى إلغاء الذات، والذوبان في (الآخر) ، فلا يبصر إلا حضارة (الآخر) ، وإنجاز (الآخر) ، ومناهج (الآخر) ، ولباس (الآخر) ، وطعام (الآخر) ، ولا يرى سبيلا للنهوض إلا من خلال اتباع وتقليد (الآخر) ، أو على أحسن الأحوال ينتهي الأمر بكثير من المثقفين إلى
[ ص: 21 ] تشكيل ما يسمى بالطابور الخامس الثقافي، الذي لا يزيد الأمة إلا خبالا، وتخلفا، واستسلاما، ويتوهم أنه يقود عملية التقدم والنهوض بتغيير لباسه وطعامه وطريقة حياته، والحقيقة أنهم لم يزيدوا على أن تحولوا من تقليد إلى تقليد أسوأ.
وبعد،
فهذا الكتاب.. يعتبر محاولة جادة للتتبع والرصد والكشف والنظر في منهجية الرؤية الحضارية الغربية، وأبعادها المعرفية والاجتماعية والإنسانية، في إنتاج المفكرين والفلاسفة والمثقفين وعلماء الاجتماع والحضارة؛ ابتداء من إنتاج المستشرقين، الذي كانت الغاية من فعلهم الثقافي الاستكشاف المبكر ووضع الدليل للغزاة، على مستوى الفكر، والسياسة، والثقافة، والتمكين للاستعمار، بكل صوره وأشكاله.
وليس ذلك الرصد فكريا فقط، وإنما تتبع الباحث الممارسة العملية، وقدم الدليل على الفكر من واقع الفعل؛ إضافة إلى اجتهاده الواضح في القيام ببعض المقاربات والمقارنات المعرفية، من منطلقات قيمية إسلامية، الأمر الذي يمكن أن يشكل بصيرة للمسلم، بحيث تستبين من خلالها سبيل (الآخر) .
ولئن قدم الباحث أفريقيا أنموذجا، فلأن الأنموذج يشكل دائما بؤرة الرؤية الممتدة، التي تتعدى إلى سائر المواقع الجغرافية والبشرية، لعل ذلك يساهم بوضع لبنة في البناء الثقافي المنشود.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[ ص: 22 ]