ثالثا: في السياسة وعلم الاجتماع السياسي
بعد تجزئة
القارة الأفريقية إلى مستعمرات، كانت سياسة الاستعمار في بناء نظم الحكم وتشكيل الحياة السياسية مبنية على قاعدة خدمة المصالح والأهداف لكل دولة مستعمرة، فإنجلترا تبنت في مستعمراتها نظام الحكم غير المباشر، اتساقا مع مفهومها السياسي الذي يرى ضرورة أن يقوم النظام على معادلة إرضاء الشعب مع عدم التفريط بالمصالح والأغراض الاستعمارية، في حين أن
فرنسا آمنت بالحكم المركزي المباشر انطلاقا من مبادىء ثورتها الأولى، وكانت سياستها تقوم على منهج الاستيعاب، ثم تطورت إلى المشاركة وفرنسة النخبة. أما
البرتغال فكانت تؤمن بالحكم الأوتوقراطي الذي ينهض على الحكم المباشر والسيطرة على المجتمع، وعلى هـذا النحو سارت
بلجيكا التي كانت سياستها في
الكونغو تتحرك انطلاقا من مبدأ الرعاية الأبوية واتباع الحكم المركزي
>[1] .
[ ص: 49 ]
إذا كان هـذا هـو الواقع الذي تم اصطناعه سلطويا وسياسيا في
أفريقيا من قبل المستعمر، فإن العلماء والكتاب الغربيين في الحقل السياسي لم يتجاوزوه، وما كان بمقدورهم إلا التعبير عنه، بل التنظير انطلاقا منه، على الرغم من أنه لا يعبر عن الواقع الحقيقي بنية أو تفاعلا. ومن الطبيعي أمام هـذه المفارقة أن تظهر مقارباتهم لهذا الواقع وهي مشبعة بالتحيز الآيديولوجي والنفعية السياسية، وهو ما كان يتضح عبر تحليلهم لموضوعات ومفاهيم النظام السياسي والظاهرة الاستعمارية وقضايا التحرر والاستقلال والتبعية ونحو ذلك.
ففي تناولهم لإشكالية الحكم، نجد الكثير منهم يضع النمط الديموقراطي وقيمه ومؤسساته أنموذجا قياسيا، وبالتالي لا تطرح إلا المفاهيم الأجنبية، ولا ينظر الى الواقع الأفريقي إلا في ضوء التجربة الأوربية، مع إغفال الخبرة السياسية التي عرفتها
أفريقيا المسلمة قبل المرحلة الاستعمارية، لهذا كان التحليل السياسي لمختلف قضايا السياسة والحكم في أفريقيا ينطلق من مسلمات خاصة بالفكر السياسي الأوربي ويفتقد إلى الجهاز المفاهيمي الملائم
>[2] لوصف (الآخر) أو التنظير لمشكلاته.
وهذا ما أقر به عالم السياسة الأمريكي «
رونالد هـ ز شيلكوت c_hilcote» في مؤلفه «نظريات السياسة المقارنة» الصادر في العام 1981م
[ ص: 50 ] حين قال: «إن دارسي التنمية السياسية الأمريكيين والأوربيين تحركهم بصفة عامة رؤية آيديولوجية أساسها إبراز تفوق القيم والمؤسسات السياسية الغربية، وبخاصة الأمريكية، وتجميد الخيارات والبدائل الأخرى التي يمكن أن تختارها الدول المتخلفة في سعيها نحو التنمية، وخلق القناعة في نفوس قادة وشعوب الدول بوجود طريق واحد للتقدم هـو الطريق الرأسمالي الليبرالي الغربي»
>[3] . وفي هـذا المنهج تنطوي ولا شك الغايات الاستيعابية والنزعة التي تبتغي طمس أية خصوصية سياسية لدى الشعوب الأخرى.
حتى في حالة اعتراف بعض الباحثين بالصيغ المحلية للنظام السياسي، نجد أن ذلك الاعتراف لا يقوم إلا على المداورة التي تنتهي بدعم المشروع الاستعماري وخدمة أغراضه، فهم مثلا عند اهتمامهم بالقبيلة والتنظير لها بصفتها وحدة بنائية سياسية، فإن الهدف هـو تكريس التفرقة والتجزؤ
>[4] وهذا ما نلمسه واضحا عند «
روبير مونتاني » الذي جعل من التناقض بين القبائل والسلطة المركزية أساسا لوصف دينامية المجتمع المغربي
>[5] معتبرا العلاقة التي يشوبها التوتر بين البربر والمدن جديرة بأن تدفع
فرنسا إلى تلبية مطالب البربر في العدالة والحياة الأفضل، وهو التحليل الذي تلقفه المستعمر حين أصدر
[ ص: 51 ] ما أسماه بـ «الظهير البربري» الذي قسم المجتمع المغربي إلى طائفتين متعارضتين سياسيا و ثقافيا وعرقيا
>[6] .
من جهة أخرى كان تناول الظاهرة الاستعمارية يتم لدى أولئك الباحثين عبر تغييب آثارها الخطيرة ودورها السيئ في حياة الناس، بل كثيرا ما كان يتم الربط بينها وبين التحديث، وبالتالي النظر إليها بصفتها ظاهرة طبيعية ومقبولة بالنسبة لشعوب تحتاج إلى من يأخذ بيديها، ناهيك عن تبرير التوسع الاستعماري تحت حجة أن التطور الاقتصادي في بلدان المركز الرأسمالي يقود بالضرورة إلى البحث عن الأسواق التي لا بد منها لاستيعاب فائض الإنتاج.
إن ظاهرة التبعية لا ينظر إليها في ظل هـاتيك الكتابات إلا بصفتها حقيقة موضوعية، وحجتهم في ذلك هـو أن التباين في حركة المجتمعات وتطورها يبرر منح الاستعمار الشرعية والاعتراف بما يترتب على قيامه من واقع مصطنع، حتى أن «
مونتاني » الذي سبق ذكره، كان يستخدم مفهوم «الحماية» الذي صيغ قانونيا كي يمنح الاستعمار مبررات وجوده، لا عند من أوجده، بل حتى عند من هـو محل له
>[7] .
وفي هـذا، تتجلى الصلة بين المعرفة والسياسة. فالسياسة تمد المعرفة بموضوعاتها وبالاتجاه الذي ينبغي أن تسير عليه، والمعرفة تضفي على السياسة
[ ص: 52 ] ما يكسبها المشروعية وما يساعدها على تنفيذ مخططاتها، كما توفر لها الصيغ المناسبة للتعامل مع الواقع والتأثير فيه.
ولمزيد من ترسيخ الواقع الذي أوجدته الظاهرة الاستعمارية في
أفريقيا المسلمة، كان جل اهتمامات الباحثين الغربيين تنصب على وصف المعطيات التي تمخضت عن دخول الاستعمار وما أنشأه من نظم مع إغفال البنى السياسية والاجتماعية التي كانت قائمة قبل دخوله.
أما التنظير السياسي لمرحلة «الاستقلال» فقد كان يمثل في حقيقته «مكيدة نظرية» عملت على تزييف الحقائق ولم تخدم إلا المستعمر المتربص ومصالحه المتجذرة في أرض الواقع. ولعل هـذا يتضح فيما تزعمه الدراسات الغربية من عدم حدوث تحول نوعي في أفريقيا بعد رحيله، وفي هـذا تجاهل لعوامل التشويه والإعاقة التي خلفتها المرحلة الاستعمارية الطويلة.
وفي مجال اختيار الموضوعات البحثية، تتجلى غاية الباحث الغربي.. ففي أواخر الستينيات اهتمت الجامعات الأمريكية بحركات التحرر الأفريقية، واعتنت بوجه خاص بظاهرة حرب العصابات ومشاكل اللاجئين الناجمة عن حروب التحرر، وعكفت على جمع المعلومات عن الحركات والظواهر المضادة، وسعت إلى فهمها بهدف محاصرتها والسيطرة عليها أو تطوير آلياتها
>[8] وفقا للحسابات والمصالح السياسية. وقد ظلت هـذه المنهجية تتحكم في الكثير من الاهتمامات الأكاديمية المتمحورة حول الشعوب الأخرى، وهذا ما أكده عالم الاجتماع الأمريكي «
أرنولد جرين »
[ ص: 53 ] بقوله: «إذا كانت حكومة
الولايات المتحدة ترغب في إقامة روابط اقتصادية وسياسية وثيقة مع بلدان العالم بأسره، فإن علينا نحن أن نعرف أكثر ما نعرفه عن هـذه البلدان وعن شعوبها: ما هـي ثقافتهم؟ ما هـي اتجاهاتهم السائدة نحو الولايات المتحدة ونحو النمو التكنولوجي؟ ما هـي معتقداتهم وانحيازاتهم التي يمكن التعرف عليها والإفادة منها لجذبهم إلى نفوذنا؟ وما هـي المعتقدات والانحيازات التي يجب أن نعدلها أو نتقبلها؟ قبل أن نتمكن من تحقيق ذلك، ما هـي الأبنية الاجتماعية الطبقية السائدة ومراكز القيادة ؟ ومن هـم هـؤلاء الذين نحتاج تعاونهم أشد الاحتياج ؟ قبل الشروع في تنفيذ مختلف البرامج، وبعد البدء في هـذه البرامج، فإن علينا أن نواصل جمع الإجابات على الأسئلة جميعها بحرص، والتأكد منها»
>[9] .
ضمن هـذا التوجه، نالت الصحوة الإسلامية والتغيرات الجديدة التي شهدتها القارة في عقدي الثمانينيات والتسعينيات اهتمام البحث الأمريكي والأوربي، وقد اتضح ذلك في فيض الدراسات الأكاديمية - الفردية والمشتركة - التي أجرتها مؤسسات وجامعات ومراكز غربية حول
مصر - على سبيل المثال - كادت تغطي مختلف جوانب الحياة هـناك، وقد كانت اختيارات الباحث في موضوعاته ومداخله ومناهجه تنطوي كالعادة على مواقف آيديولوجية وتحيز مسبق
>[10] الأمر الذي كان يسلب عن تلك التغطيات - وصفية كانت أو تحليلية - الصدق أو الدقة.
[ ص: 54 ]
والأمر كذلك عند التصدي لدراسة حالة جماعة أو جالية عربية أو مسلمة مقيمة في
أفريقيا ، أو مهاجرة إليها، كالجالية العربية اللبنانية في
غربي أفريقيا مثلا
>[11] حيث يؤخذ وضعها التجاري، وعلاقاتها العامة، وما تملكه من نفوذ مادي، مدخلا لادعاء سلبية لها في الدور العام السياسي أو الاجتماعي، بخاصة إذا ما كانت تلك الجالية على صلة ببعض الجمعيات الإسلامية داخل أفريقيا أو خارجها، وبالتالي لا يجري تقويم وجودها - في إطار الدراسات المتأثرة بالمنهجية الغربية - إلا بصفتها إحدى عناصر إذكاء الظاهرة الإسلامية.
وإجمالا يمكن القول: بأن الدراسات التي تناولت الواقع السياسي الأفريقي لم تكن تراعي خصوصية ذلك الواقع، أو خلفياته التاريخية، ولم تكن لتعبر عن احتياجاته أو طموحاته السياسية، وبالتالي لم تمثل منهجيتها المعرفية المنهجية الملائمة للتوصيف والفهم والتنظير، ناهيك عن طرح الحلول المناسبة.