الفصل الثاني
المنهج المعرفي الإسلامي البديل
الأسس والمكونات العامة
بين العلم والمنهج المعرفي
ينصرف الحديث عن «العلم» عادة إلى اعتباره مجموعة من الحقائق، التي تعبر عن العلاقات الموضوعية التي تحكم الوجود الفيزيقي أو الإنساني، والتي يتم التحصيل عليها عن طريق الجماعة العلمية، التي تستخدم مناهج البحث العلمي وأدواته ووسائله المختلفة.
والعلم بهذا المعنى هـو امتلاك القدرة على الربط بين الأسباب والمسببات، أو معرفة العوامل المتضافرة في صنع الظاهرة، ثم صياغة «المبادىء» و «المفاهيم» ووضع «النظريات» التي تصف الظاهرة أو الحقائق المتصلة بها، أو المترتبة عليها، والتي يعبر عنها بـ «السنن» أو «القوانين» أو «التعميمات».
إلا أن حقيقة أنشطة العلوم الإنسانية والاجتماعية، أيا كان منتجها، لا تقتصر على هـذا المستوى المعرفي العياني الذي يعبر عما هـو كائن، بل تتضمن ما يمكن تسميته ب «ما قبل العلم»
>[1] أي «المسلمات» التي تمثل المنطلقات الفلسفية والرؤى الكلية غير التجريبية، المتصلة بالكون والوجود
[ ص: 69 ] والخلق والإنسان والحياة والغايات، وكذلك تتضمن مستوى آخر يتمثل بالأهداف والغايات والتوظيفات العلمية للعلم مما يمكن أن نطلق عليه: «ما بعد العلم». وكلا الجانبين: «ما قبل العلم، وما بعده» يتداخلان بنحو أو آخر في بناء هـيكلية الأنشطة العلمية، وتحديد منطلقاتها، ومساراتها، وإجراءاتها، ومعالجة ما ينبغي أن يكون، شئنا أم أبينا.
أما القول: بأن العلم هـو فقط ما يطلق عليه مجازا بـ «المعرفة العلمية» التي تتضمن المفاهيم والنظريات والتفسيرات والقوانين والحقائق الموضوعية التي يتم التحصل عليها عن طريق النشاط العقلي والتجريبي، الذي يمارس بشكل منظم عبر مناهج البحث المختلفة، فهذا تحديد يثير عددا من التساؤلات كتلك التي تتعلق بطبيعة الفهم، واتجاهات التفسير، وكيفية الضبط، والمصالح التي يتم الضبط من أجلها، مما يحيلنا ذلك كله إلى «المسلمات» وما تنطوي عليه من فلسفات معرفية ومنطلقات قيمية، إلى «الغايات» وما تعنيه من ينبغيات وقيم ونظريات ومتطلبات آيديولوجية.
إن أي فهم أو تفسير أو ضبط لا يخلو من استبطان لتصورات مسبقة تنطوي على تفضيلات واختيارات ومواقف، فضلا عن أهداف وغايات مقصودة، وذلك كله يخرجنا ولا شك عن المعنى الضيق للعلم بصفته الحقيقة الموضوعية المجردة، أو بصفته التحديد ل «ما هـو كائن»، وينقلنا إلى المعنى الذي يشتمل أيضا على تفسيرات تلك الحقيقة وتأويلاتها وفقا وبالضرورة لمرجعية فكرية أو دينية أو فلسفية أو آيديولوجية، دفعا بما هـو كائن إلى ما ينبغي أن يكون. لهذا من الصعب القول: بأن الظواهر تواجه بصفتها معطى بدهي دونما تأويل، لأن ثمة أجهزة مفهومية ونماذج معرفية تؤثر في
[ ص: 70 ] تشكيل تلك الظواهر
>[2] على نحو أو آخر.
إذن «المسلمات» والتصورات المسبقة، والأهداف والغايات المرجوة، سواء اتفقت مع الحقيقة الموضوعية أو ترابطت أو لم تتفق أو تترابط، تمثل مفاصل حيوية في أي نشاط علمي، ولا سبيل إلى نكران ذلك بحجة أن العلم مقتصر على البحث في حدود ما هـو كائن، وأن هـويته هـي الموضوعية المجردة، فكثير من «المسلمات» الغربية، سواء في إطار العلوم الإنسانية أو الطبيعية
>[3] هـي خارجة عن المعنى الضيق للعلم، فمسلمة كمسلمة أن الوجود يسير بشكل آلي، انعكست في الدراسات التنموية، وفي نظريات التعلم، وفي بعض الأفكار السيكولوجية كفكرة اللاوعي الجمعي عند «
يونج » وعقدة النقص عند «
أدلر »، وبعض أفكار
فرويد الجنسية
>[4] وفي غيرها.
كما أن العديد من التحكمات التي تستهدف الضبط والخدمة الاجتماعية والأهداف النفعية، تمثل هـي الأخرى عناصر متصلة بالأنشطة العلمية التي يمارسها الباحثون.
وإذا أردنا أن نعيد العلم إلى حدوده المعلنة، وجعلناه مقتصرا على كشف الحقائق الموضوعية - المطلقة والنسبية - فإن «المنهج المعرفي» يتميز بأنه يشمل: «العلم» و «ما قبل العلم» و «ما بعده»، وهذا المنهج - أو النموذج كما يسميه بعضهم - يتحكم بمنطلقات العلم وغاياته، لذلك فهو جدير بأن ينال العناية الخاصة ضمن موضوع الدراسات الإنسانية والاجتماعية.
[ ص: 71 ]