مسئولية المرأة
في ضوء الشريعة الربانية
إن تفصيل القول في وضعية المرأة في الإسلام، وطبيعة ما يمكن أن تكون عليه مكانتها في مجتمعاته، وعرض مسئولياتها وأهم حقوقها، أمر ضروري من أجل الولوج إلى أهم الإشكاليات التي تتعرض لها المرأة في واقعها الراهن، وذلك من أجل مقارنته بما وصلت إليه حالتها في غياب تفعيل مجموعة من القضايا الجذرية والمصيرية، ابتداء من وظيفة وجودها على وجه البسيطة نفسه، ومسئوليتها الإنسانية والاجتماعية والسياسية المكلفة بها، إلى طبيعة التحدي الحضاري وغيره الذي عليها مواجهته.
من هـنا كان الحديث عن مسئولية المرأة، وإن بدا مكررا في بعض جوانبه إلا أنه مهم، لأنه يدخل في باب التذكير الذي ينفع المؤمنين وينبههم إلى ما هـم غافلين عنه، كما يبسط القضية على ضوء الواقع.
إن المرأة تشاطر الرجل عمليا خلافة الله في الأرض، وتشاركه حمل الأمانة التي أوكلها الله للإنسان:
( إنا عرضنا الأمانة ) والمقياس الذي يزن الله تعالى به هـذا العمل، أي حمل الأمانة، هـو الاحسان
[ ص: 49 ] يقول تعالى:
( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) (الملك:2) .. إن الابتلاء الرباني العام للإنسان- ذكرا أو امرأة- هـو العمل، والإحسان في أي عمل وأداؤه على وجهه المطلوب شرعا بنية العبادة والإخلاص فيه هـو الذي يميزه عن غيره، ويدخله في مجال حمل الأمانة، سواء صدر عن الرجل أو عن المرأة.
كما أن المرأة تشارك الرجل وجدانيا تزكية النفس وتربيتها تربية إيمانية ربانية، مسئولة، متصفة بالفلاح، تحررهما من مختلف العبوديات الدنيوية، وتوجههما للاعـتصام بعبادة الله وحده لا شريك له،
يقول تعالى:
( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) (الشمس:7-10) ،
فالنفس المؤمنة هـي التي تكون جوامح جوارحها وخلجات مشاعرها لله وحده دون غيره، لتحقيق الفلاح والتقوى، ولتحمل مسئولية الأمانة، سواء كانت رجلا أم امرأة.
والأمانة الربانية ملقاة على عاتقهما معا على السواء، وهما معا مكلفان بالمسئولية عن طبيعة وجودهما الإنساني على وجه البسيطة، ويتساويان مسـاواة كاملة في هـذه المسـئولية الإنسانية بوصفهما من أصل واحد، وذلك بتقرير من الله عز وجل ، كما في قوله تعالى:
[ ص: 50 ] ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) (النساء:1) ،
وهي مساواة تكامل وليست مساواة تطابق، لأن لكل واحد منهما خصائصه التكوينية المختلفة عن الآخر، ولذلك نجد الآية الكريمة تقرر مسئولية المرأة الإنسانية ومساواتها فيها مع الرجل مساواة تكامل، للقيام بأهداف الحياة حسب خصائص كل منهما وطاقاته وقدراته. وتدخل في هـذه المسـئولية كل ما يتعلق بطبيعة وجودهما على الأرض، ولذلك نجدها تنظر إليهما نظرة شمولية، دون أن تفصل بين المسئولية الإنسانية والمسئولية الاجتماعية والسياسية، تؤكد في الوقت نفسه توجيه الخطاب لهما معا.
وفي آية أخرى، يوثق الله عز وجل المسئولية ويربطها بالصلاح، الذي هـو أساس العمل الجاد المكلف به الرجل والمرأة على السواء،
وذلك في قوله تعالى:
( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هـذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي [ ص: 51 ] للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هـاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ) (آل عمران:190-195) . فهذه الآيات جامعة، تقرر الهدف من الوجود الإنساني، وهو تحمل الأمانة بعبادة الله وحده لا شريك له، ولن تكون هـناك عبادة إلا بالعمل المشروط بالصلاح،
كما في قوله تعالى:
( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) (النحل:97) ،
وبدونه (أي العمل الصالح) تتردى المرأة (والرجل أيضا) في ظلمات العبودية والظلم والجهل والإباحية، وإن وصلت إلى أعلى المناصب.
كما تشرع الآيات السابقة نشاط المرأة في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والسياسـية، حسب احتياجات المجتمع المسلم، دون قيد أو شرط إلا ما يفرضه الشارع من آداب تصون هـذا النشاط بمختلف
[ ص: 52 ] ألوانه، ليصبغ بالصلاح من أجل تقبل العمل عند الله تعالى، ومن أجل إكسابها مقام العمل الناضج المشارك في العمل الصالح، وتحقيق وجودها الإنساني وتحقيق الحياة الكريمة لنفسها ولأسرتها ولأمتها بصفة عامة، وتفجير طاقاتها الإبداعية، كل ذلك في استقلالية تامة وتأكيد على شخصيتها الحرة النابعة من عملها وسعيها،
يقول سبحانه وتعالى :
( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى ) (الليل:1-4) .
وقد أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيعة هـذه الاستقلالية في تحمل المسئولية منذ أن نزل قوله تعالى:
( وأنذر عشيرتك الأقربين ) (الشعراء:214) ،
وبين عليه الصلاة والسلام ، أن هـذا الخطاب القرآني موجه إلى النساء والرجال معا،
( فعن أبي هـريرة رضي الله عنه أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قال: يا معشر قريش - أو كلمة نحـوها- اشـتروا أنفسـكم لا أغني عنكم من الله شيئا؛ يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا؛ يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا؛ ويا صفية عمة رسول عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا؛ ويا فاطمة [ ص: 53 ] بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا ) >[1] / وهو نداء يقرر منذ مراحل الدعوة الإسلامية الأولى ندية المسئولية.
ولا يجوز مطلقا منع المرأة من ممارسة مسئولياتها بحجة سد الذرائع، أو فرض قيود معينة تحد من حركيتها في المجتمع خشية الفتنة والفساد، الأمر الذي سوف يؤدي إلى عزلتها عن واقع الحياة برمتها، وجر المجتمع إلى التقوقع في الحضيض، ذلك أن تحمل المسئولية بكل معطياتـها الإنسانية والتربوية والاجتماعية، المحتكمة إلى الكتاب والسنة الصحيحة، كفيلة بعصمة المرأة من الوقوع في الزلل، بل تكون عاملا أساسيا في نهضة الأمة، والذي بدونه لن يكون هـناك أي تقدم أو نهضة.
وفي ظلال هـذه المساواة التكاملية في الأصل، المقررة في الخطاب القرآني والسنة النبوية، وفي إطار المسئولية الإنسانية والاجتماعية والسياسية، يأتي تأكيده صلى الله عليه وسلم ليقرر هـذه الحقيـقة عبر قولـه:
( إنما النساء شقائق الرجال ) >[2] ليكشف عن مطلق وعمومية المساواة والمشاركة في تحمل المسئولية أمام الله عز وجل وأمام نفسها
[ ص: 54 ]
ومجتمعها وأمتها، وليرسخ مفاهيم الآيات الكريمة التي وردت في اعتبار المرأة مكملة للرجل وهو مكمل لها، في ندية تثبت عمق الرؤية الحضارية، التي تنظر من خلالها شريعتنا للمرأة، بما لا يترك مجالا لخوض المغرضين في لوك عكس هـذا، ويحث في الوقت نفسه على إقامة التوازن بين حقوقهما، وإثابتها بالأجر في الدنيا والآخرة، حسب عملهما الفردي المستقل،
وذلك في مثل قوله تعالى:
( بعضكم من بعض ) (آل عمران:195) ،
وفي قولـه عز شأنه:
( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم ) (البقرة:228)
وفي قوله تعالى:
( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) (الأحزاب:35) ،
وهي آيات تؤكد أنه لا مجـال للحد من طاقاتـها أو نشـاطها الاجـتماعي أو السياسي أو الثقافي إذا رغبت فيه وكانت لـها القـدرة عليه، ولا يستطيع أحد أن يمنعها منه طالما شرعه الله
كما في قوله تعالى:
( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون [ ص: 55 ] عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) (التوبة:71) .
فمن خلال الآية الكريمة ندرك أنه يمكن للمرأة أن تجمع بين العمل الاجتماعي والسياسي وبين العبادة، مثلها في ذلك مثل الرجل، كما نتبين طبيعة النظام التربوي الإسلامي الذي يجمع كذلك بين العمل والعبادة، أي ربط السلوك بالعقيدة، من أجل تحقيق التطابق والالتحام بين الإيمان والعمل. لكن ربما كان علينا أن نؤكد في هـذا المجال ضرورة معرفة حاجيات الأمة لطبيعة المهمات التي يمكن أن تؤديها، وخاصة في مرحلتنا الحضارية الراهنة، فتكون هـي الأساس في تكوين المرأة وتوجيهها بما لا يتعارض مع ميولاتها وطاقاتها، حتى تستفيد منها الأمة وتساعد في رفعتها ونهوضها.
وما أحوجنا اليوم إلى تصحيح نظرتنا إلى مهمة الأمومة التي أصبحت المرأة تقوم بها دون إحساس بخطورتها، واعتبارها على رأس المهمات التي تحتاج إليها الأمة، لأن العالم كله في حاجة إلى لمسة المرأة الأم، وإرجاعها إلى نطاق صياغة إنسانية الإنسان، في حاجة إلى الرجوع إلى مصدر التغذية الإنسانية الغنية بأصناف الحنان والرحمة والحب والعطاء... واللائحة طويلة، ليتزود منها بقطرات تعينه على مجابهة الماديات الطاغية والقسوة والظلم. وما جفت منابع الرحمة
[ ص: 56 ] والخير إلا مع ابتعاد المرأة عن إرضاع بنيها وإقناعها بتجفيف ثدييها وحجبهما عن طفلها، بدعوى المحافظة على الجمال، أو بدعوى ضرورة تركه وهو في أمس الحاجة إليها من أجل العمل، أو من أجل أسباب مختلفة، متناسية أن الطفل هـو عماد مستقبل هـذه الأمة، وأن الإسلام قام وانتشر على أيدي الأطفال الذين تربوا في حضن مراحل الدعوة الأولى، وكان منهم القادة والجنود الذين فتحوا العالم بالخير وصنعوا أولى بذرات الحضارة.
إن المرأة في ضوء ما بسطناه من مسئوليات تستطيع أن تشارك في عمارة الأرض بالمعروف، وتستقل بشخصيتها المتميزة، وتنتزع حقوقها التي شرعها الله لها، ابتداء من حقها في التعلم، إلى حقها في اختيار الزوج.. ومن هـذه الحقوق، التي يجب أن تعرفها وتعيها جيدا كي تتبوأ مكانتها الحقيقية في المجتمعات الإسلامية: