التعليم وإشكالية التنمية

حسن بن إبراهيم الهنداوي

صفحة جزء
1- التعليم عند العرب قبيل الإسلام

كان العرب قبل الإسلام أمة أمـية كما ورد وصفهم في قوله تعالى:

( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2) ،

و «أميون جمع أمي وهو من لا يقرأ ولا يكتب» >[1] ، وهم ينقسـمون جملة إلى بدو وحضر، والأمية صفة أغلب أهل البدو، بل «إن جميع عرب البوادي كذلك» >[2] . ولكن هـذه الأمية لم تصدهم عن أن يكونوا من ذوي العلم، الحريصيـن على العلم والتعـليم، إذ إن «العرب جيل من الناس لم يزالوا موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام، والفصاحة في المنطق، والذلاقة في اللسان، ولذلك سموا بهذا الاسم فإنه مشتق من الإبانة، لقولهم أعرب الرجل عما في ضميره إذا أبان عنه» >[3] . فضلا عن ذلك، فإن العلم كان علامة الشرف والسيادة في القبيلة كما عبر عن ذلك الشاعر الجاهلي الأفوه الأودي وكان سيدا في قومه، بقوله: [ ص: 44 ]

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا     تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن تولوا فبالأشرار تـنقاد >[4]

وقد كان العرب أحرص الناس على تلقين وتعليم أولادهم الفصاحة والبيان، إذ «كان العرب في الجاهلية يلقنون أبناءهم وبناتهم ما هـم في احتياج إليه من المعارف يعدونهم بها إلى الكمال المعروف عندهم. وكان أول ذلك عندهم التدريب على الفصاحة وإن كانت جبلة فيهم ولكنهم يذودون عن أبنائهم الخطأ ويعصمونهم من اللكنة والخطل، وقد شعروا بأن الاختلاط أصل فساد اللغات، وفرارا من هـذا الفساد تواطئوا على مبدأين كانا بمنـزلة تعليم اللغة: أولهما: ترك الاختلاط بمصاهرة غيرهم من الأمم. وثانيهما: ترك المقام بمدائن مجاوريهم من العجم كالروم والفرس، على كثرة رحلاتهم إليهم في قضاء مآربهم» >[5] .

ولقد أشار الإمام صاعد الأندلسي إلى أهم العلوم المتداولة بين عرب الجاهلية بقولـه: «وأما علمها (يقصد العرب) الذي كانت تفاخر به وتباري فيه فعلم لسانها وإحكام لغتها ونظم الأشعار وتأليف الخطب. وكانت مع ذلك أهل علم الأخبار ومعدن معرفة السير والأمصار ... [ ص: 45 ]

وكان للعرب معرفة بأوقات مطالع النجوم ومغاربها، وعلم بأنواء الكواكب وأمطارها، على حسب ما أدركوه بفرط العناية وطول التجربة، لاحتياجهم لمعرفة ذلك في أسباب المعيشة لا على طريق تعلم

الحقائق ولا على سبيل التدرب في العلوم» >[6] .

وبناء على ذلك، فإن الشعر كان أكثر علم العرب، فبه حفظوا أيامهم وخلدوا مآثرهم، ودونوا حروبهم وسنوا كثيرا من مكارم الأخلاق. وقد بلغت العناية بالشعر مبلغا عظيما، فـ «علم الشعر عندهم فسطاط علومهم كلها، لما لم يكونوا يدونون ويكتبون، وكانوا يعنون بحفظ أنسابهم وتاريخهم ومفاخرهم، وكانوا يخشون النسيان على قوة عوارضهم وبراعة حوافظهم، فكان الشعر من حيث إنه يذكر مفاخرهم، ويثير شجاعتهم، ويرثي شريفهم، ويمدح سادتهم، ويتضمن في ذلك حفظ أنسابهم وتذكيرهم بأيامهم، بمنـزلة المتن الذي يحفظه التلميذ على ظهر قلبه فيـتذكر من موجز عباراته شروحا طويلة في ذهنه. هـذا زيادة على ما كان للشعر عندهم من الأهمية وهي ترويج أغراضهم عند تظلمهم، [ ص: 46 ] وتحميس قومهم وحلفائهم، وبث الأخلاق والفضايل في عامتهم، ودفع المساوي عنهم» >[7] . ولقد أشار أبو تمام إلى أهمية الشعر العربي بشقيه

الجاهلي والإسلامي في الحث على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور بقوله:

ولولا خلال سنها الشعر ما     درى بناة المعالي كيف تؤتى المكارم

ونظرا لما كان للشعر عند العرب من مكانة عظمى، فإن أي قبيلة منهم كانت إذا نبغ فيها شاعر وبرز عن أقرانه وبز أترابه أتت القبائل فهنأتها بذلك ويولمون، فيطعمون وتجـتمع النساء للعب والطرب فرحا وسرورا واستبشارا بهذا الحدث العظيم، لأن في نبوغه حماية لأعراضهم وذبا عن أحسابهم ورفعا لذكرهم. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المعروف من عاداتهم أنهم كانوا لا يولمون ولا يهنئون إلا بغلام يولد أو فرس تنتج أو شاعر ينبغ فيهم >[8] . والسبب في ذلك راجع إلى أن كل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها وتحصين مناقبها على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال. وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى وكان ذلك هـو ديوانها» >[9] .

وبالإضافة إلى اهتمام العرب بعلم اللغة من شعر وخطابة، فإنهم كانوا يهتمون أيضا بتعليم مكارم الأخلاق وحميدها، إذ كان «يلي تعليم. [ ص: 47 ]

اللسان عندهم في الدرجة الثانية تعليم الأخلاق الجميلة والصفات العلية فكانوا يشبون أبناءهم وبناتهم على أخلاق تنفع كلا في خطته من المجتمع في اصطلاحهم، وفضلا عن ذلك كان لأفراد قلائل منهم اهتمام ببعض العلوم الأخرى، وإن لم تكن شائعة شيوع الشعر والخطابة مثل الطب والنظر في النجوم (علم الفلك) وغيرها.

فهذا مجمل القول في أهم العلوم التي كانت شائعة في المجتمع العربي قبل الإسلام، وهي علوم مناسبة لبيئتهم وجارية على ما تقتضيه حاجاتهم في الحياة.

وكانت لهم أسواق ومجالس آداب تشبه في كثير من الوجوه الأندية اللغوية والمجامع العلمية التي نعرفها اليوم >[10] .

وبالرجوع إلى كتب الأدب العربي نقف على أشهر الأسواق التي كانت محلا لتناشد الأشعار وهي سوق عكاظ ومكانه قرب الطائف، وسوق مجنة ومكانه قرب مكة، وسوق ذي المجاز ومكانه جهة عرفة >[11] . وزيادة على ذلك، فإن المجتمع وما فيه كان مكانا مفتوحا للتعليم، حيث يتعلم الصغار من الكبار تلقائيا عن طريق الممارسة والمحاكاة والسماع. [ ص: 48 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية