3- مواضع التعليم عند المسلمين
>[1]
الاهتمام بالعلم يقتضي أيضا الاهتمام بالمواضع التي يدرس فيها، فيتم نقله من جيل إلى آخر.
أ- مواضع التعليم قبل ظهور المدارس
لم يكن للمسلمين الأوائل من الصحابة رضي الله عنهم مكانا معينا للتعليم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمهم حيثما تيسر له ذلك، فقد يكون التعليم في إحدى بيوتات المسلمين أو أي مـكان آخر يلتقون فيه. ولما هـاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى المدينة اتخذ بها مسجدا، وجعله موضعا للتعليم حيث كان يجلس لأصحابه ولاسيما دبر كل صلاة ليعلمهم ويبـين لهم تعاليم الإسلام. ولذا، كانت الانطلاقة التعليمية المنظمة من المسجد.
- المسجد أول أمر يلفت الانتباه بخصوص المسجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن الأرض جميعها جعلها الله له ولأمته مسجدا، كما ورد في
( قولـه صلى الله عليه وسلم : «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) >[2] . فإذا كانت
[ ص: 57 ] رسالة المسجد الأساس تتمثل في تعليم المسلمين وتربيتهم، كما كان شأن الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه صلى الله عليه وسلم ففي ذلك تنبيه لطيف وإشارة خفية إلى أن الأرض كلها تصلح مكانا للتعليم، كصلاحيتها لأن تكون مسجدا. ثم اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم مكانا معينا من الأرض وبنى فيه مسجده، وجلس فيه لتعليم المسلمين، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم أول من سن لنا اتخاذ المسـجد مكانا للتعليم كما هـو مكان للعبادة، وهذه السنة الحسنة كانت لها أثر عظيم في الأجيال الإسلامية التي تلت عصر الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث «إن المسلمين في عصورهم الأول توسعوا في فهم مهمة المسـجد، فاتخذوه مكانا للعبادة ومعهدا للتعليم»
>[3] وبكلمة جامعة، فإن المسجد كان المركز الأساس الذي يدير شئون المجتمع الإسلامي في جميع نواحي الحياة وشتى الأنشطة الاجتماعية.
وأما موضوعات التعليم في المسجد فقد كانت خاضعة لأنواع العلوم المتعارف عليها في المجتمع الإسلامي.
وأما أسلوب التعليم ونظامه، في المسجد، فهو أن يجلس الشيخ غالبا ما يكون بجانب أسطوانة في المسجد، ويتحلق الطلبة من حوله، فيلقي الشيخ درسه إما حفظا أو من كتاب ويعقبه بالشرح والتفسير والتوضيح لما فيه غموض أو التباس، ويدون الطلبة ذلك كله أو بعضا منه.
- الكتـاب العمومي اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر تعليم أبناء المسلمين القراءة والكتابة حتى جـعلها شرطا لمن أراد أن يفتدي نفسه من الأسر
[ ص: 58 ] كما وقع مع أسرى بدر. فضلا عن ذلك، فقد جعل الآباء مسئولين عن تعليم أبنائهم أمور دينهم مثلما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم :
( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر ... ) >[4] .
واستمر الأمر على هـذه الحال في عصر الصحابة رضي الله عنهم حيث كانت مسئولية تعليم الصبيان منوطة بالآباء رأسا. وبناء على ذلك، فإن النصائح التعليمية كانت توجه مباشرة للأباء بوصفهم معلمين ومربين لما رزقهم الله من البنين، وأنهم هـم المسئولون عن ذلك كله.
وبمرور الزمن، وكثرة الصـبيان وعجـز الآباء عن أداء مهمة التعليم الأولي لسـبب أو لآخر، رأى أولو النهى ضرورة الاهتمام بتعليم الصبيان القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريـم، فتم تحديد موضع معين لذلك، واشتق له اسم من وظيفته الأساس فسمي بالكـتاب ويجمـع على كتاتيب، ولذلك فـ «الكتاب موضع تعليم الكتاب»
>[5] ، يعني الكتابة لارتباطه في الغالب بتعـليم الصـبيان القراءة والكتابة. ولكن مهمة الكتاب أضيف إليها تعليم القرآن الكريم، ومبادئ الإسلام وتعاليمه الأساسية.
[ ص: 59 ]
ونظرا لهذه المهمة التعليمية التي اضطلع بها الكتاب، فقد انتشر في البلدان الإسلامية شرقا وغربا.
وأما عن موضع الكتاب ومكانه، فإنه غالبا ما يكون ملتصقا بالمسجد أو قريبا منه، بل أحيانا يكون في المسجد نفسه، رغم وجود نصوص من بعض الأئمة تنص على كراهية أو عدم جواز تعليم الصبيان في المساجد
>[6] ، وقد يكون موضعه أيضا في مكان مستقل عن المسجد كالمنازل والحوانيت وأطراف الأسواق
>[7] . وبالأحرى فإن مكان الكتاب تبع لتواجـد الصبيان وكثرتهم، فكلما كان هـناك تجمع صبياني في مكان ما غالبا ما يستدعي إنشاء كتاب لتعليمهم وتربيتهم. ولكن مع انتشار الكتاتيب ووفرتها في مختلف الأمصار الإسلامية شرقا وغربا فإن فئة من الصبيان منعهم انتماؤهم لطبقة السادة من الالتحاق بهذه الكتاتيب
[ ص: 60 ] المفتوحة لصبيان المسلميـن عامة. ولذا، فقد قام الخـلفاء والأمراء باتخاذ ما يشبه الكتاب في قصورهم لتعليم أبنائهم، ويمكن الاصطلاح عليه «بالكتاب القصوري» نسـبة إلى قصـور الخلـفاء، أو قل إن شئت: «الكتاب الخصوصي» تمييزا له عن الكتاب العمـومي الذي تقدم الحديث عنه.
- الكتاب القصوري فإذا كان الكتاب العمومي موضعا لتعليم الصبيان، فيمكن تعريف الكتاب القصوري بأنه: موضع لتعليم أبناء الخلفاء والأمراء وصبيانهم، فهو كتاب قصوري، مقصور على فئة معينة من الصبيان، وسبب اتخاذ هـذا النوع من الكتاب حرص الخلفاء والأمراء على تعليم صبيانهم وتأديبهم وتربيتهم حتى لا يفوتون عليهم هـذه المرحلة المهمة في التعليم.
وأما موضع هـذا النوع من الكتاب فهو القصر نفسه، حيث يخصص جناح منه لأداء هـذه المهمة بوصفه كتابا، وغالبا ما يكون المشرف على هـذه المهمة مقيما في القصر حتى يصرف عنايته كلها للتعليم والتأديب.
وفي الكتاب القصوري يتم تعليم الصبيان القراءة والكتابة والقرآن الكريم والنحو والشعر وغيرها مما يصلح اللسان ويقوم اللحن، فضلا عن التأديب الخلقي والتربية الشاملة للعقل والجسم معا. وبناء على ذلك، فإن القائم بوظيفة التعليم في الكتاب القصوري أطلق عليه اسم المؤدب ، على
[ ص: 61 ] خلاف النوع الأول من الكتاب إذ القائم بالوظيفـة فيه يطـلق عليه معلم الصبيان .
وأما بالنسبة لمنهاج التعليم في الكتاب القصوري فإنه يلتقي في الأسس العامة للتعليم بالكتاب العام، إلا أنه يخـتلف عنه في بعض الأمور مثل السن التي يقضيها الصبي في كل منهما، فنجد أن السنين التي يقضيها المؤدب مع أبناء الملوك أطول من الأخرى، فضلا عن أن الخليفة أو الأمير هـو الذي يضع بنفسه المنهاج التعليمي ليسير عليه المؤدب، يضاف إلى ذلك، أن القصور لم تكن موضعا لتعليم الصبيان وحسب، بل كانت أيضا موضعا لتعلـيم الكبار، إذ كانت المجـالس العلمية تعقد في بلاطات القصور.
- البلاط كان الرسول صلى الله عليه وسلم يجـلس للناس في المسـجد، فيعلمهم ما أنزل إليه من الوحي، ويرشدهم، ويزكيهم، وكان مجلسه مفتوحا لمن شاء ورغب في التعلم منه، وعلى هـذه السيـرة سار الأصحاب رضي الله عنهم ، فلم يتخذوا قصورا تحجبهم عن الناس وتمنعهم من التعلم منهم. ثم تطورت الحياة خلال الدولتين الأموية والعباسية، فابتنى الخلفاء قصورا واتخذوا حجابا وظيفتهم الأساس إدخال من رغب الخليفة في دخوله عليه، ومنع من رغب عنه. ولقد اتخذ البلاط بوصفه موضعا للتعليم في العصر الأموي بدءا مع أول خليفة لهم، وهو
معاوية بن أبي سفيان الذي
[ ص: 62 ] استدعى إلى مجلسـه بعض العلـماء والأدباء وأهل السير والعالمين بالتاريخ ومواقعه الشهيرة ولاسيما العربي منه ليحدثوه به، كما أدى حبه للعلم تعلم تاريخ الأمم الأخرى وتجاربهم ولاسيما ملوك الفرس والروم، مما جعله يستدعي من له معرفة بأخبارهم فيحدثوه عما وصلهم من أخبارهم
>[8] .
واستمر الأمر على هـذه الوتيرة طيلة العصر الأموي تقريبا، حيث كانت بلاطاتهم مكانا لتعليم الأدب والشعر والتاريخ غالبا. ولما قامت الدولة العباسية، بدأت بلاطاتهم تشهد تطورا في التعليم وذلك تبعا لتطور العلوم ونموها في عصرهم. ولذا، أصبح البلاط يتسع لمختلف العلوم والفنون المتداولة في المجتمع الإسلامي آنذاك، حتى إن كثيرا من خلفاء الدولة العباسية بلغوا من العلم مبلغا عظيما.
- منازل العلماء على الرغم من وفرة المساجد وانتشارها وكثرة الكتاتيب وشيوعها، فإن قلة من العلماء اتخذوا منازلهم موضعا لنشر العلم وتعليمه. وهذه القلة سببها أن الله سبحانه وتعالى جعل البيوت سكنا وموضعا للاستراحة كما قال تعالـى:
( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ) (النحل:80) ،
ولذلك لـم يتخذ المسـلمون البيوت مجلسا كالمسجـد
[ ص: 63 ] أو الكتاب، لأن حلقة الدرس وما تستدعيه من حضور مكثف للطلبة وحركة وأنشطـة تتعارض مع الوظيـفة الأساسية للبيوت بوصفها موضعا للسكن والقرار والهدوء وغيرها. لكن الضرورة جعلت بعض العلماء ممن كان حريصا على نشـر العلم وتعليمـه أن يجعلوا من بيوتـهم موضعا للتعليم.
غير أنه يبقى أن «أفضل مواضع التدريس هـو المسجد، لأن الجلوس للتدريس إنما فائدته أن تظهر به سنة أو تخمد به بدعة، أو يتعلم به حكم من أحكام الله تعالى، والمسجد يحصل فيه هـذا الغرض متوافرا، لأنه موضع لاجتماع الناس رفيعهم ووضيعهم، وعالمهم وجاهلهم بخلاف البيت فإنه محجور على الناس إلا من أبيح له، والبيوت تحترم وتهاب حتى لو أبيحت للجميع»
>[9] .
- حوانيت الوراقين والعلماء من المواضع التي لا يمكن إغفالها عند الحديث عن مواضع التعليم في التاريخ الإسلامي حوانيت الوراقين ودكاكين العلماء بوصفها موضعا لنشر العلم وتعليمه. فقد كان لحوانيت الوراقين والعلماء أثر كبير في التعليم، وتنشيط الحركة العلمية في المجتمع الإسلامي، وسبب ذلك أن الوراقين كانوا يقومون بعملية مهمة جدا في نشر العلم والتعليم وهي «الانتساخ والتصحيح والتجليد وسائر الأمور
[ ص: 64 ]
الكتبية والدواوين»
>[10] . ولا شك أن تصحيح الكتب وانتساخها تم تقديمها وعرضها للراغبين فيها مساهمة ذات أهمية كبيرة في نمو مسيرة العلم والتعليم وتنميتها.
وزد على ذلك، فإن الوراقين أنفسهم كانوا من كبار العلماء في الغالب.
ثم إن حوانيت الوراقين لم تكن مجرد دكاكين لبيع الكتب كما هـو حال معظم المكتبات التجارية اليوم، بل كانت موضعا للتعليم أيضا، حيث إنها كانت ملتقى مفتوحا ومجلسا محببا للعلماء.
ومما يدل على أهمية حوانيت الوراقين التعليمية أن بعض العلماء قد اتخذوها مبيتا للقراءة والمطالعة فيها ليلا، وذلك لما حوته من كتب ومصادر لا توجد في غيـرها، ومن أشـهر هـؤلاء الأديب الضارب في كل فن بطـرف
عمرو بن بحر الجاحظ صاحب التصانيف المختلفة والمشاركات المتنوعة.
ولم يقف النشاط العلمي بالدكاكين على حوانيت الوراقين، بل انتقل منه إلى غيره من محال البيع والشراء.
[ ص: 65 ] ب- مواضع التعليم بعد ظهور المدارس
استمر التعليم الإسلامي على هـذه الحال مستثمرا كثيرا من المواضع لنشر العلم؛ فمن المنازل إلى المساجد، ومن الكتاتيب إلى الحوانيت، ومن البلاطات إلى الدكاكين، ثم ظهرت المدارس في المجتمعات الإسلامية وبدأت تنتشر انتشارا سريعا نظرا لما حققته من نجاح في أداء وظيفتها التعليمية. ثم إن انتشار المدارس في العالم الإسلامي أدى إلى انتشار المكتبات لتصبح موضعا مهما من مواضع التعليم عند المسلمين.
- المدارس تبعا لسنة التطور والنمو في الكون، فإن التعليم بدأ أول أمره في المسجد، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم فيه المسلمين أمور دينهم، واستمر الأمر على هـذه الشاكلة في عهد الصحابة رضي الله عنهم . ثم حدث تطور على مستوى العلوم في المجتمع الإسلامي فاستحدثت ضروب من العلوم، وظهرت فرق كلامية، وبرزت مذاهب فقهية، فاستحدث المسلمون تبعا لذلك مواضع أخرى للتعليم مثل الحوانيت والدكاكين والكتاتيب والبلاطات وحتى منازل العلماء اتخذت عند بعضهم موضعا للتعليم. والملاحظ أن معظم هـذه المواضع كان التعليم فيها مفتوحا للجميع، والحضور غير منظـم، فلا أحـد يلزم بذلك، إلا ما كان من بعض الأفراد الذين يلزمون أنفسـهم بحضور مجلس شـيخ. ناهيك عن أن تطور العلوم وظهور الفرق الكلامية وبروز المذاهب الفقهية، أدى ذلك
[ ص: 66 ] كله إلى وجود صراعات فكرية وعقدية ومناظرات فقهية مما جعل أصحاب كل فرقة ومذهب حريصون على تكوين ثلة من أتباعهم لتحصين فرقتهم ومذهبهم من مناوئيهم. وهذا التكوين الخاص بفئة معينة من المتعلميـن والمتميز بالحضور المنظم الملزم، لم يكن له موضع لتطبيقه إلا في المدارس.
والشائع عن نشأة المدارس وظهورها في العالم الإسلامي، أن أول مدرسة بنيت سنة 459 هـجرية على يد
الوزير السلجوقي نظام الملك، بناء على ما ذكره ابن خلكان عند ترجمته له
>[11] ، ووافقه الذهبي على ذلك
>[12] . وقد رد
الإمام السبكي هـذا القول عندما ذكر ترجمة لنظام الملك
>[13] .
وإذا قيل: إن نشأة المدارس وظهورها كان قبل نظام الملك، إلا أنه يبقى له الفضل في الاعتناء والاهتمام بها اهتماما لم يسبق إليه، فضـلا عما بذله من جهد كبير لنشر التعليم المنظم بواسطة المدارس، إذ قام بإنشاء العديد منها في أهم الأمصار الإسلامية آنذاك، ثم تنافس أمراء
[ ص: 67 ] المسلمين ووزراؤهم شرقا وغربا على إقامة المدارس حبا للعلم ونشرا للتعليم ورجاء للثواب من الله عز وجل .
فضلا عن ذلك، فإن الصراعات المذهبية، عقدية كانت أم فقهية، ساهمت في انتشار المدارس وكثرتها في العالم الإسلامي؛ فنجد مدرسة للأحناف وأخرى للمالكية وثالثة للشافعية ورابعة للحنابلة. وبمرور الزمن ظهرت علوم أخرى مستمدة من تراث غير إسلامي كالهندسة والحساب وغيرهما، فتم إنشاء مدارس أيضا لهذه العلوم، واستمر الأمر على هـذه الشاكلة حتى العصر الحديث، حيث أصبحت مواضع التعليم المستمدة من النظام المدرسي تنقسم عموما إلى ثلاثة مراحل: تعليم ابتدائي وموضعه المدرسة، وتعليم ثانوي وموضعـه المعهد، وتعليم عالي وموضعه الجامعة أو الكلية.
- المكتبات اهتم الإسلام بالكتابة والقراءة، وحث الناس عليهما، الأمر الذي جعل المسلمين يهتمون بالكتاب، ويعلون من شأنه، ويرفعونه مكانا عليا.
واهتم العلماء بجمع الكتب، سواء أكان ذلك عن طريق الابتياع من الوراقين والنساخ الذين كانوا بمثابة دور النشر والمطابع الحديثة، أم عن طريق تقييد ما يسمعونه في مجالس العلم ومواضع التعليم المختلفة، بحيث إذا فرغ أحدهم من السماع تحصل لديه كتاب، وكلما ازداد سماعه
[ ص: 68 ] وتنوع ازدادت كتبه وتنـوعت تبعا لذلك. فإذا تشيخ (صار شيخا) وتأهل للتعليم وجـد لديه مجموعة من الكتب بحيث تشكل مكتبة خاصة بحصيلته العلمية تكون تحت يديه سهلة المتناول متى دعته الحاجة إلى الرجوع إليها.
وقد أدرك خلفاء المسلمـين ووزراؤهم وبعض الأغنياء المحسنين أهمية الكتب في نشر العلم، فبادر الخلفاء والأمراء بإنشاء مكتبات داخل قصورهم، وجلبوا إليها مختلف الكتب ونفائسها.. ولما لم يكن من اليسير على الطلبة كلهم استخدام هـذه المكتبات، تم إنشاء مكتبات عمومية، بحيث يتمكن الجمـيع من استخدامها. وهذه المكتبات غالبا ما تكون تابعة للمساجد أو المدارس ووقفا عليها، فلا يكاد يخلو مسجد من مكتبة تابعة له.
وكان للمـدارس أثر كبير في انتشار المكتبات والاهتمام بـها، إذ لم تخلو مدرسة من وجود مكتبة تتبعها، مزودة بمجموعة من الكتب.. وقد أوقف المحسنون من أغنياء المسلمين العديد من المكتبات لصالح طلبة العلم، حتى إن الإمام ابن حبان رحمه الله جعل من بيته مكتبة يأوي إليها طلبة العلم وكل من كانت له رغبة في الاستفادة مما حوته مكتبته
>[14] .
[ ص: 69 ]
فهذه أهم مواضع التعلـيم عند المسلميـن، ولكن هـذا لا يعني أنهم لم يتخذوا غيرها، بل إن مواضع التعليم أكثر من ذلك، فنجد مثلا أن البادية في وقت ما كانت إحدى مواضع التعليم المهمة بالنسبة للغة العربية، وذلك أثناء اختلاط العرب بالعجم وما تبعه من فساد اللسان العربي، فلم يكن أمام من أراد أن يكون منطقه سليما إلا الذهاب إلى البادية، وذلك لسلامة لسان أهلها من العجمة. ولقد اتخذها موضعا للتعليم أئمة أعلام مثل الإمام الشافعي والخليل بن أحمد الفراهيدي والكسائي وغيرهم.
فضلا عن ذلك كـله، فإن الربـط والزوايا والبيمـارسـتانات (كلمة فارسية معناها المسـتشفيات) كانت مواضـعا للتعـليم، بحيث إن المسـلميـن واظـبوا على التعـليم في حـالتي الحرب والسـلم، وفي الصحـة والمرض كما تشهد بذلك المواضـع الـتي مارسـوا فيها التعليم.
[ ص: 70 ]