3- اهتمام الإسلام بالتنمية التعليمية
ليس غريبا أن يهتم الإسلام بالتنمية التعليمية، بل الغرابة كل الغرابة أن لا يهتم بها، فإذا كان الإنسان محور التنمية وهدفها الأساس، وأن التعليم يمثل نقطة الانطلاق السليمة لذلك، فمن المعلوم -كما تقدم- أن التعليم كان محورا أساسا للإسلام، لذلك أولاه الرسول صلى الله عليه وسلم مكانا عظيما ورفعه الصحابة رضي الله عنهم مكانا عليا، وكذلك أمر التعليم في الأجيال الإسلامية التي كان يخلف بعضها بعضا في نشر العلم وتعليمه، فحققوا بذلك نهضة حضارية وتنمية مستقلة اعتمدوا فيها على قدراتهم وكفاءاتهم الخاصة.
[ ص: 101 ]
ويظهر اهتمام الإسلام بالتنمية التعليمية في النقاط الآتية:
أ - مكانة الـعلم في الإسـلام إن الحضارة الإسلامية التي بلغت ذروة المجد في العصر العباسي، لم تنشأ من فراغ ولم تشيد من عبث، بل كان وراء ذلك كله عدة أسباب، أهمها على الإطلاق نشاط الحركة العلمية والتعليمية وانتشـارها في العالم الإسـلامي آنذاك نتيجة لما أولاه الإسلام من عناية بالعلم لا تجد لها نظيرا، حتى بلغ مبلغا عظيما. ولذا، فليس بغريب أن يقترن تحضر الأمة الإسلامية ورقيها وازدهارها بالعلم، وما تركته من تراث خير شاهد على مدى مبلغها من العلم وما نتج عنه من تحضر ورقي. وبناء على ذلك، فمن الطبيعي أن يقترن تخلفها وتراجعها الحضاري بإهمال العلم والتعليم وعدم إعطائه الأولوية من أجل الخروج من هـذا المأزق الحضاري.
ذكر
الإمام عبد القاهر الجرجاني الفائدة من تقديم شيء على آخر في الخطاب العربي بقوله: «واعلم أنا لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئا يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام، قال صاحب الكتاب وهو يذكر الفاعل والمفعول:كأنهم يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم بشأنه أعنى»
>[1] . فإذا كان العربي له حكمة في تقديم شيء على آخر في الخطاب وهي
[ ص: 102 ] العناية والاهتمام، فإن لله جل جلاله الحكمة البالغة حين قدم العلم في نزول الوحي على سائر الأمور كلها، إذ إن أول الآيات نـزولا قوله تعالى:
( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق:1–5) .
فهذه الآيات نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو متحنث في غار حراء، تأمره بالقراءة وتبين له أن الله هـو الذي علم الإنسان ما لم يعلم، فكان أول عهده بالوحي مع هـذه الآيات التي حددت نوعية القراءة باسم الله، وتكرر ذلك في الموضعين اللذين أمرا فيهما بالقراءة وهما:
-
( اقرأ )
-
( اقرأ وربك الأكرم )
إذن، فلم يكن تقديم العلم للعناية والاهتمام به فحسب، بل أيضا لما له من مكانة عظيمة لا تدانيها أي مكانة في الإصلاح والتغيير، إذ إن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم الإصلاحية كانت انطلاقتها أمرا بالقراءة وحثا على العلم والتعلم، ولذا فمن رام إصلاحا وتغييرا فليتخذ من العلم والتعليم بداية الانطلاقة نحو الإصلاح. فضلا عن ذلك، فإن الله جل جلاله خلق الخلق وهو عليم وخبير بما يصلحهم، وأرسل رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وجعل مدخل ذلك العلم بوصفه الانطلاقة السليمة والبداية الضرورية للتغيير والإصلاح، وعلى قدر نشر العلم يكون الإصلاح، ولذلك ليس بمستغرب
[ ص: 103 ] أن نعد العلم مقياسا للتنمية الإسلامية، ومؤشرا على الإصلاح، وعلامة على النهوض الحضاري، وهذا ما جعل للعلم مكانا عليا في الرسالة الخاتمة.
ونظرا لما للعلم من مكانة عظيمة في إصلاح الشعوب وترقيتها، فإن الإسلام حث المسلمين على الزيادة من العلم وتنميته، كلا على قدر استطاعته، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، إذ أمر بأن يدعو الله أن يزيده من العلم في قوله تعالى:
( وقل رب زدني علما ) (طه:114) .
وهذه التنمية العلمية التي دعا لها الإسلام لا تتوقف عند حد لا تجاوزه، ولا يستطيع أحد أن يدعي أن تنميته العلمية قد بلغت حدا لا مزيد عليه، ومن ادعى ذلك فهو جاهل بطبيعة العلم كما قال الله تعالى:
( وفوق كل ذي علم عليم ) (يوسف:76) ،
ومعنى ذلك أن طلب العلم وتنميته تستغرق حياة المتعلم كلها، لاعتقاده أنه مهما بلغ من العلم فهناك من هـو أعلم منه، وليس هـناك تعبير يـحث المسلمين على التنمية العلمية أبلغ من الآية السابقة، والتي قبلها، أعني بذلك قوله تعالى:
( وقل رب زدني علما ) (طه:114) .
يضاف إلى ذلك، أن العلم مقياس يعتمد لاختيار الأصلح فالأصلح في مختلف المجالات، وذلك بناء على اصطفاء الله جل جلاله طالوت ملكا على قومه نظرا لما له من بسطة في العلم والجسم، رغم أن مقياس القوم كان ماديا إذ كانوا يرجون أن يتملكهم رجل ذو سعة من المال، ولكن قدمت
[ ص: 104 ] الزيادة في العلم على الزيادة في المال، كما بين الله جل جلاله ذلك في قوله تعالى:
( وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ) (البقرة:247) .
فذكر قصة طالوت مع قومه عبرة لنا، وهو مغزى القصص القرآني كله كما في قولـه تعالى:
( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) (يوسف:111) .
والعبرة من هـذه القصة أن الزيادة في العلم تعد خير مقياس لاختيار الناس وتحميلهم المسئوليات، وفي ذلك دلالة على مكانة العلم وأهميته في التعاليم الإسلامية.
ثم إن أحاديث الـرسول صلى الله عليه وسلم الواردة في شـأن العلم إنما هـي تأكيد لما جاء في القـرآن الكريـم وتعضيد لعظمة مكانة العلم في الإسلام. ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) >[2] ، فنص الحديث يدل على أن طلب العلم فرض على كل مسلم، وهذا الفرض منه ما يطالب به كل مسلم على حدة فيكون فرض عين، مثل العلم بكيفية الصـلاة وكيفية أدائها على الوجـه الشـرعي. ومن العلم
[ ص: 105 ] ما يكون طلبه من المسلمين عامة غير معين الأفراد، فيكن في هـذه الحال فرض كفاية، ولاسيما إذا كان في أمور الدين فيطالب به من كانت له قدرة على ذلك وهو ما أشار إليه قوله تعالى:
( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122) .
ثم إن الحديث السابق وما فيه من أحكام يشمل الرجال والنساء معا كما هـو معلوم من تركيبة الخطاب العربي المبين، ولاسيما أن شرعنا الحنيف يؤكد على أن
( النساء شقائق الرجال ) >[3] كما ورد في الحديث الشريف، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خص النسـاء بالتعليم نزولا عند رغبتهن في ذلك،
( فعن أبي سعيد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوما نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا، فاجتمعن فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله... ) >[4] . وعلى الجملة، فللعلم مكانة عظيمة، حيث بلغ الاهتمام به مبلغا عظيما
[ ص: 106 ] حتى وقع تقديمه في نزول الوحي على سائر الأمور، وتزداد هـذه المكانة رفعة بجعله فريضة على كل مسلم.
ب - مكانة التعليم في الإسلام فإذا كان للعلم مكانة علية في تعاليم الإسلام، فلابد أن يكون للتعليم أيضا المكانة نفسها، إذ لا يمكن الفصل بين العلم والتعليم؛ فالعلم لا يكتسب إلا بالتعلم والتعليم، والتعليم ينعدم إذا لم يكن هـناك علم، إذ العلم ما يكتسبه الفرد عن طريق التعلم، والتعليم نقل ما اكتسبه من العلم للآخرين. ولعل أفضل ما يوضح لنا مكانة التعليم أنه غاية الإسلام، فلا استمرار للإسلام وتعاليمه إلا بالتعليم والتعلم جيلا عن جيل، فضلا عن أن بيان مواضعه عند المسلمين خير شاهد على مكانة التعليم في الإسلام.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى ختم الرسل بمحمد صلى الله عليه وسلم وجعله رحمة للعالمين ومنة من بها سبحانه على المؤمنين، وتتمثل هـذه المنة في التزكية وتعليم الكتاب والحكمة،
كما في قوله تعالى:
( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (آل عمران:164) ،
فضلا عن تعليمهم ما لا يعلمون كما ورد في قوله تعالى:
( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) (البقرة:151) .
[ ص: 107 ] وفى موضع ثالث ذكر الله منة التعليم على العرب وذلك بإرسال الرسول إليهم مقابل ما كانوا عليه من أمية،
كما في قوله تعالى:
( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2) .
ففي هـذه الآية الكريمة ذم للأمية ومدح للعلم والتعليم؛ حيث ذكر حالهم قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي الأمية، ثم كانت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لإزالة هـذا الوصف المذموم بتعليمهم الكتاب والحكمة، ولاسيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن أول الآيات نزولا تأمر بالتعلم، وذلك عن طريق الأمر بتعلم القراءة والكتابة، فهي إذن تتضمن معنى ذم الأمية ومدح التعلم، وأن هـذه الصفة المذمومة لا تزول إلا بالتعلم.
ولقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هـذه الحقيقة القرآنية ببيان الغاية من بعثته بقولـه:
( إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا ) >[5] ، فحصر الرسول صلى الله عليه وسلم بعثته في التعليم ووصفها بالتيسير، وذلك خلقه في أموره كلها. ولذا، فإن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم تنفدها كلها في تعليم المؤمنين أمور دينهم، فلا تمر عليه ساعة من ليل أو نهار إلا ويغتنمها في تعليم أصحابه أي أمر من أمور دينهم وما فيه صلاح لهم في الدنيا والآخرة، ولذلك كانت عملية التعليم في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم متصفة بالديمومة والاستمرارية، وهذا الأمر وحده كاف للدلالة على أن التعليم غاية الرسالة الخاتمة، ولاسيما إذا أخذنا
[ ص: 108 ] بعين الاعتبار أن استمرار عملية التعليم في الأمة الإسلامية إنما هـي استمرارية للإسلام نفسه، لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبعث أصحابه لمن لم يحضره من المسلمين لتعليمهم أمور دينهم، وكان يوصي رؤساء القبائل والوفود بأن يعلموا أقوامهم إذا رجعوا إليهم، كما ورد في
( قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم، وصلوا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم ) >[6] .
فمجمل القول: إن للتعليم مكانة عظيمة سببها أنه يمثل أس الرسالة الخاتمة والغاية من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن في ذلك منـة عظيمة من الله سبحانه على المؤمنين. ونظرا لما تبوأه التعليم من مكانة وسمو رتبة في الرسـالة الخاتمة جعل المسلمـين يهتمون بأمر التعليم والمحافظة عليه، وذلك بجعله عملية مستمرة من جيل إلى آخر عبر التاريخ الإسلامي. هـذا، ولا شك أن التاريخ الإسلامي قد شهد تقدما علميا ورقيا وازدهارا نتيجة لتعاليم هـذا الدين التي تحث على العلم والتعليم وتحرض عليهما، وترقى بهما إلى مرتبة الفرض التي لا تعلوها أي مرتبة أخرى أو تدانيها. ولذا فأبعد في الاستحالة أن تكون تعاليم الدين الإسلامي هـي التي ساهمت في تخلف التعليم لدى المسلمين مما أدى إلى تخلفهم، بل التاريخ يشهد بخلاف
[ ص: 109 ] ذلك. والحاصل أن الحضارة الإسلامية كانت نتيجة نشاط الحركة التعليمية وازدهارها في العالم الإسلامي. وإذا أخذنا بمفهوم المخالفة في هـذه المسألة، فنقول: إن التراجع الحضاري الذي يعيشه العالم الإسلامي اليوم إنما سببه الرئيس تراجع الحركة التعليمية وتخلفها، أو قل، إن شئت: إن التعليم في العالم الإسلامي يمر بأزمة معضلة.
وبناء على ذلك، فإن حاضر العالم الإسلامي يعيش أزمة تعليمية بلغت مبلغا قصيا، بحيث أصبحت داء متمكنا مستعصيا، من الصعوبة بمكان علاجها والخروج منها، نظرا لحدتها واستفحالها في المجتمعات الإسلامية. ناهيك عن أن الأزمة التعليمية تفوق في حدتها أي لون آخر من ألوان الأزمات، بوصفها الأزمة الأم في العالم الإسلامي، وإن كان عدم الاهتمام بها يشعر كأنها أقل خطرا وأخف ضررا من الأزمات الأخرى، ولا سيما الأزمة الاقتصـادية. والسـبب في ذلك راجـع إلى ما أومأنا إليه من قبل من أن التنمية في العالم الإسلامي تكاد تكون محصورة في الجانب الاقتصادي دون غيره من الجوانب الأخرى، وقد بينت أن هـذا المنظور للتنمية هـو سبب فشلها. ومن ثم، فليس غريبا أن تعد الأزمة التعليمية جرثومة
>[7] التراجع الحضاري للأمة الإسلامية، وأن تنمية التعليم سبيل الخلاص من هـذا التراجع الحضاري.
[ ص: 110 ]