التحديث بالانقطاع
والسقوط في جب التبعية
لكن القرن الثامن عشر إذ آذن بالمغيب، على ما كان فيه من استمرار حالة التخلف والجمود، كان من الضروري «للخطاب التربوي» أن يمر بمرحلة مخاض جديد، خاصة وأن « الخطاب الديني » كان أكثر أشكال «الخطاب» إحساسا بما تردت إليه أحوال الأمة، وبالتالي بداية تحرك نحو صـورة من صور اليقظة، وشكلا من أشكال النهوض.
لقد شاع في كثير من الكتابات العربية أن مجيء الحملة الفرنسية على العالم العربي عام 1798م كان إيذانا بحركة نهوض وتحديث، لكن هـذه المقولة تحمل بعض الحق لا الحق كله، ذلك أن عالمنا العربي والإسلامي قد شهد بدايات دعوات من نفر من المصلحين والمجددين عبروا عن وعيهم بأن ما وصلت إليه الأمة من تخلف، لن نستطيع التخلص منه إلا بتجديد فكرنا الديني ونفض ما علق به من بعض أوهام وخرافات، ولعل أبرز ما يمكن الإشارة إليه هـنا هـو دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في شبه الجزيرة العربية ، حيث عرفت طريقها قبل أن تطـأ الحملة الفرنسية أي أرض عربية أو إسلامية.
ولسنا في حاجة إلى بيان تلك العروة الوثقى بين «حال» الخطاب التربوي، و «حال» الأمة، حتى ليمكننا أن نسجل معترفين بأن الثاني هـو [ ص: 47 ] المتغيـر المستقل، والأول هـو المتغيـر التابع، إذا أردنا التشـبيه بلغة التجريب العلمي. ومن ثم فإن ما شهدته المنطقة العربية من بدايات نهوض فكري وخطوات تطوير في بعض جوانب المجتمع في أوائل القرن التاسع عشر، كان لا بد أن ينعكس بدوره على « الخطاب التربوي »، من حيث ما وضعه من بذور إحياء لهذا «الخطاب».
لكن المشكلة الكبرى التي برزت حقيقة وأثرت تأثيرا خطيرا على مسيرته، أن الحملة الفرنسية العسكرية، وما سار مسارها على أنحاء أخرى من العالم الإسلامي وضع الأستار والحواجز أمام دعوات النهوض والإصلاح التي كانت قد بدأت في الظهور من قبل، وإذا بالقادة في مناطق مهمة يعتمدون اعتمادا رئيسا على المصادر الأوربية في التطوير، على أساس ما تم ترويجه من أن النهوض لن يكون إلا بأن نكون مثل الأوربيين. وشهدت كل من مصر وسوريا ولبنان بصفة خاصة في النصف الأول من القرن الثامن عشر ظهور نظام تعليمي على النمط الأوربي الحديث، أملا في اللحاق بالأمم المتقدمة في أوربا ، بينما ظلت المعاهد الدينية على حالها من الجمود والتخلف.
وتبع ذلك أن بدأ « الخطاب التربوي » يتغـذى من مصادر أوربية، كما رأينا في كتابات رفاعة الطهطاوي ، خاصة وأن أول معهد متخصص لإعداد المعلم في العالم العربي أنشئ عام 1880م في القاهرة ، على يد مرب [ ص: 48 ] سويسري، بل لقد كان التعليم لمن يعدون لمهنة التدريس يقدم باللغة الفرنسية، ثم غلبت عليها اللغة الإنجليزية بعد ذلك بحكم ما آلت إليه مصر من وقوع تحت براثن الاحتلال البريطاني بدءا من عام 1882م.
وهكذا غلب التوجه الأوربي على « الخطاب التربوي » في هـذه البلدان التي شهدت حركة نهوض وتحديث، وهي بالأخص مصـر ، والشـام ، بما فيها من بلدان: سوريا ، ولبنان ، وفلسطين ، وإذا قلنا التوجه الأوربي فإن هـذا كان يعني ما ينتمي إلى الثقافتـين الفرنسـية والإنجلـيزية، على اعتبار أن كلا من فرنسا وبريطانيا هـما اللتان كانتا مهيمنتين على هـذه البلدان العربية الإسلامية.
ولم يحاول أحد، مع الأسف الشديد، أن يمد يده إلى الموروث الحضاري الإسلامي بحثا عن الينابيع الإسلامية للتربية، على الرغم من استمرار وجود مؤسسة راسخة مثل الأزهر في مصر ، وغيره من مؤسسات التعليم الديني في البلدان الإسلامية الأخرى، نظرا لسيادة اعتقاد استمر طويلا، وهو أن من يعد كي يمارس مهنة التدريس، يكفيه أن يتقن المادة العلمية التي سوف يدرسها، ولم يكن الوعي قد توافر بعد داخل مؤسسات التعليم الديني الإسلامي بالتأهيل المهني، بالوقوف نظريا وعمليا على «كيفية» تعليم هـذه المادة العلمية المتخصصة من خلال دراسة لعلوم التربية وعلم النفس .
وهكذا تبع «الخطاب التربوي» لدى الكثرة الغالبة من المربين في البلدان العربية خاصة، ما تصير عليه الحالة السياسية لكل دولة، فلما كانت [ ص: 49 ] الكثرة الغالبة من الدول العربية قد وقعت تحت نير الاستعمار الأوربي كان «الخطاب التربوي» العربي إما إنجليزيا أو فرنسيا فيما يستخدمه من مصطلحات، وما يستخدمه من طرق وأساليب، وما يسير عليه من توجهات. وأما البلدان التي لم تقع في براثن الاحتلال الأوربي، فإما أن «الخطاب التربوي» فيها لم يكن بشكل يحمل أبسط مقومات «الخطاب»، أو أنها، بعد فترة، عندما بدأت في النهوض، وجدت نفسها تقلد من سبقوها، فتقع هـي أيضا في نفس الإشكالية التي تجعل منها مرددة لما يقال في مكان آخر مغاير، بغير نقد وابتكار.
والأمر المثير للدهشة حقيقة، هـو أن معاهد التعليم الديني الإسلامي إذا كانت قد غفـلت عن الجهود التربوية الإسـلامية كما تبدت لـدى الأسـلاف من علمـاء الأمـة، إلا أن كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله ظلا في أيدى المتعلمين من المسلمين الذين يمارسون مهنة التدريس، وما فكر أحد في أن يستنبط من هـذين النبعين الرئيسين مقومات أساسية يمكن أن يقوم عليها «الخطاب التربوي» في بلداننا.
ومن الملاحظ أنه مع انتصار حركات التحرير على مدى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وانحسار الاستعمار بشكله العسكري السياسي المباشر، ومع ظهور دول الاستقلال الوطني وأنظمته وحكوماته، ومع فرحة النصر والسيطرة على الذات والشعور بامتلاك المستقبل، ومع كل ذلك، بدا لنا، أن مرحلة من تاريخ البشر قد زالت وانتهت، وأن مهمتنا [ ص: 50 ] الجديدة في المرحلة التالية، نحن دول الاستقلال الوطني هـي «اللحاق بالركب» وبناء مجتمعاتنا على أفضل صورة يعرفها عالم اليوم من الرخاء والتقدم، ووضعنا حاضر دول الغرب صورة لمستقبلنا ومعيارا لتقدمنا.
هنا بدأ المعيار التاريخي ومعيار التقويم الحضاري يتوحد مع وعي الثقافة السائدة، وقبلت نظم الاستقلال الوطني وحركاته في تلك الفترة، وبغير تحفظ كبير، أن يتحول وعينا من موقف المواجهة في التعامل مع مستعمرينا السابقين، إلى موقف التتالي والتعاقب معهم، وساد منظور للعالم بحسبان أن مجتمعاته جميعها تقف على سلم صعود واحد، وأنها لا تختلف إلا في درجة الارتقاء على هـذا السلم، وظهر مصطلح الدول المتقدمة والدول المتخلفة، ثم خفف هـذا اللفظ الأخير فصار « الدول النامية » أو التي في طريق النمو. بهذا المنظور تعدل في وعينا التصنيف الذي كان قائما عندما تعلق بغاز ومغزو، أو بمستعمر ومستعمر، فصار يتعلق بمعاصر ومتخلف.
كان التصنيف الأول يفيد تبادلا في السببية، فكان سبب التبعية هـو المتبوعية، وسبب ضعف أحد الطرفين هـو غلبة (الآخر) له، أما في المنظور الجديد، فقد افتقد هـذا التبادل السببـي، وارتدت السببية إلى الذات، وقامت العلاقة بين النامي والمتخلف، لا على أساس تبادل السببية الذي يقتضي الابتعاد عن الطرف (الآخر) ، وفك الاشتباك، ولكن على أساس تقويض ما في الذات من عناصر تعوق سعينا في التشبه بالدول المتقدمة، ولذلك تحولنا من موقف «فعل الضد» الذي يقتضيه الصراع، إلى موقف «فعل المثل» الذي يوجبه تحقيق [ ص: 51 ] المثال، ومن السعي للمخالفة إلى السعي للمشابهة، ومن التبعية إلى الاتباع، وصار بأسنا بيننا بعد أن كان بأسنا على غيرنا.
وبعد أن سار كل من النقل والعقل في تكامل أنتج حضارة إسلامية زاهية، إذا بعصور الضعف والتخلف تكشف عن جمود العقل المفكر والفعال، وسيادة النقل الآلي في مجتمع خامل، وكان نقلا سلبيا لا يميز بين صحيح وفاسد، بين مقبول ومردود.
وكان طبيعيا أن يؤدي الفكر النقلي الخامل إلى الانشداد إلى «الماضي»، فيعيـش العقل المسلم حالة اجترار فكري لمنقولات أثرية تقادم بها العهد، ولم تعد في عدد من عناصرها صالحة في أزمان تغيرت في كل شيء (باستثناء جوهر العقيدة وأصول الشريعة) .
ونظرا لتغيب العقـل الفعال المستنير عن الحياة الفكرية، وشيوع النقل والتسـليم بالمنقول أيا كان بغير تحليل وبرهان، تسربت إلى الفكر خرافات وتقاليد أحلتها أجيال محل الحقائق، وتناقلتها خالفا عن سالف. لكن الله عز وجل وفق بعضا من أبناء الأمة، أن يتنبهوا، وينبهوا «الغير»، إلى أن «الخطاب التربوي» الذي ينتجه مربو هـذه الأمة ويتلقاه أبناؤها لا بد أن يحمل بصمة العقيدة الإسلامية، فبدأت جهود على هـذا الطريق، وإن جاءت بطيئة وعلى استحياء، يفصل بين الخطاب منها والآخر فترة زمنية غير قصيرة، كما رأينا في رسالة أحمد فؤاد الأهواني عن التعليم في رأي القابسي ، وأحمد شلبي عن تاريخ التربية الإسلامية، وغيرهما. [ ص: 52 ] ويمكن أن نعد السـبعينيات من القرن الماضـي هـي فترة الانطلاق حقا لهذا «الخطاب التربوي الإسلامي» ، خاصة وأن هـذا جاء مصاحبا لحركة صـحوة عامة تنامت بسرعة ملحوظة في مختلف الأقطار.
ورغم مثل هـذه الجهود، وغيرها، مما بذل في السنوات الأخيرة، على مستوى الفكر والواقع سعيا نحو النهوض، ظلت البلاد الإسلامية مستهدفة بالتعويق تارة، وبالحصار تارة أخرى، وبمعاودة العدوان المسلح تارة ثالثة، ورغم أن المسلمين كانوا ضحايا الظلم والعدوان من كل ناحية، إلا أنهم كانوا أيضا عرضة لتشويه سمعتهم وتلويث سيرتهم أمام الأمم.
لقد أصبح خطابهم هـو أسوأ الصفحات في عالم اليوم، وشخصية المسلم، التي هـي نتاج «الخطاب التربوي»، على مستوى النظر والفعل، تصوره وسائل الإعلام في أيامنا هـذه دائما وبشكل مستمر على أنه عدواني، مخرب، مخادع، مستغل، قاس، متوحش، متمرد، إرهابي، هـمجي، متعصب، متحجر الفكر، متخلف، سقيم الرأي.
كما أن العالم الإسلامي في نظرهم ليس إلا مكانا للصراع الداخلي والانقسامات والاضطرابات والتناقضات، وهو عندهم مصدر تهديد للسلام العالمي ومكانا يجمع بين الثراء الفاحش والفقر المدقع، وبين المجاعات والأوبئة. [ ص: 53 ]
التالي
السابق