مهام ومجالات التجديد:
ومن هـنا، فإن من مهام ومجالات التجديد:
أولا: إن أولى مهام «الخطاب التربوي» الكفيل حقا بالمساهمة في النهوض الحضاري للأمة لا بد أن يكون نابعا بالدرجة الأولى من الإسلام عقيدة وشريعة، ذلك أن الخروج من أزمة التخلف الذي تعيشه التربية الإسلامية المعاصرة لا يمكن أن يتحقق بأدوات حضارية مقطوعة الصلة بالإسلام وحضارته وثقافته ونظامه القيمي.
ومهما بدا لبعض المحللين والمؤرخين والمصلحين من وجود «أدوات للنهضة» مستقلة تماما عن روح الحضارات المتميزة فإن الحقيقة التاريخية تؤكد أن التفاعل مع هـذه الأدوات والاستجابة لتأثيرها لا يكتملان أبدا في إطار الشعور «بالغربة عنها»، وهو شعور يضيع الثقة بالنفس، ويزرع الاعتقاد بالعجز.
إن الدعوة إلى الأخذ من ثقافة الآخرين، مهما بدت مبررة ومقنعة، فإنها تظل محملة بخطرين كبيرين:
أولهما، أن تتحول الاستجابة لها إلى استجابة مطلقة، تأخذ مع «الأدوات الحضارية»، «قيما حضارية»، ومع الأساليب التقنية أساليب حياة ومعيشة، ونظما للعلاقات الإنسانية، أي تحمل مع «أدوات النهضة» أدوات «للانتكاس» في ميادين أخرى، وتنتقل إلى البيئة المحلية مع أسباب التقدم، أمراض التقدم وأعراض الأزمة المصاحبة له.
[ ص: 130 ]
أما الخطر الآخر، فهو خطر الاستجابة الناقصة، نتيجة المقاومة الداخلية والباطنية الناشئة من الإحساس بالخطر، والشعور بالغربة إزاء «أدوات التقدم» المستعارة.
إن الشعوب في مراحل ضعفها، وإحساسها بأخطار الغزو الثقافي والسياسي تميل –بتلقائية فطرية– إلى الانغلاق على نفسها، وإغلاق النوافذ في وجه التيارات الوافدة، وتثبيت أقدامها في أرضها المحلية خوفا من أن تقتلعها العواصف القادمة.
لهذا فإن استخراج أدوات النهضة، وشروط التقدم، يغدو المسلك الأمثل، إن لم يـكن الطريق الوحـيد الفعال، لمتابعة مسـيرة التقدم متابعة لا يتهددها خطر الاندفاع الذي ينخلع أصحابه من ذاتهم، ولا خطر الرفض والتحفظ ومقاومة «الأدوات الجديدة» لأنها وافدة وغريبة، وتحمل في طياتها مداخل متعددة للتبعية، وفقدان الاستقلال وضياع الهوية.
ومؤدى هـذا أن يضع « الخطاب التربوي الإسلامي » نصب عينيه أن لكل حضـارة ما أصبح يعرف «بالنموذج المعرفي» أو «النظام المعرفي»، فكل إنسان، شاء أم أبى، يستخدم نماذج معرفية تحوي مسلمات كافية ونهائية، وذلك في أبسط عمليات الإدراك، بوعي أو بدون وعي منه، وقد شبه استخدام النماذج باستخدام قواعد النحو أو قواعد الهندسة، فحينما يتحدث الإنسان لغته، وحينما يبني بيتا (وبخاصة في المجتمعات التقليدية) فإنه يستخدم قواعد النحو أو الهندسة دون معرفة سابقة أو واعية بهما.
وإذا كان هـذا صحيحا –وهو بالفعل صحيح– في كل عصر، فإنه يزداد أهمية بالنسبة للمسلمين في عصرنا الراهن؛ ذلك لأن النموذج الفقهي
[ ص: 131 ] (الإسلامي التقليدي) كان يعيش داخل الحضارة الإسلامية، يعيش مفرداتها، ونحوها الإسلامي، ولذا كان الفقيه القديم يواجه تحديات، ويحاول الإجابة على أسئلة تطرح عليه داخل الحضارة الإسلامية لا من خارجها، ولكن اختلفت الآية الآن، فنحن نتحرك داخل حيز غير إسلامي، وداخل تشكيلات حضارية غير إسلامية، وواقعنا ليس من صنعنا، ومن ثم تطرح علينا قضايا وأسئلة غير إسلامية.
ومن هـنا فإن المطلوب من «الخطاب التربوي» هـو أن يتبنى مبدأ أن يكون الإسلام هـو منطلق العلوم التي يتم تعليمها في معاهد التعليم ومنهاجها في العمل، وهي في ذلك بحاجة إلى أن تعتمد على فهم أصيل للإسلام، ومعاصر في الوقت نفسه.. أصيل، بمعنى أن أصوله تستمد من القرآن والسنة الصحيحة وتلتزم بهما وحدهما، مستأنسة بما عداهما.. ومعاصر، من حيث استشرافه تطبيقات معاصرة لتلك الأصول تلبي الحاجات الحقيقية للأجيال المعاصرة، ولا تنكفئ عقليا ونفسيا على مشكلات وحاجات أمم قد خلت
( لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ) .
كذلك فإن عملية التأصيل العام «للخطاب التربوي الإسلامي» لا بد أن تقوم على أساس الوعي بالتمييز بين جانبين:
أولهما، هـو الإطار الفلسفي العام الحاكم للنظر العلمي، فما من حركة نهضة، وما من حركة علم إلا – كما نؤكد مرارا وتكرارا- وهي محكومة بمنطق معرفي فلسفي عام، هـو الذي يعطي الحضارة تميزها الخاص، ويجعلنا
[ ص: 132 ] نقول: بأن هـذه حضارة هـندية مثلا، وتلك حضارة إسلامية، وهذه حضارة يونانية، وتلك حضارة صينية... وهكذا.
ثاني الأمرين، هـو المحتوى المعرفي للأنساق المعرفية المختلفة: فيزياء، كيمياء، طب، اقتصاد... وهكذا، في مثل هـذا الجانب لا نجد اختلافات بين الأمم والشعوب، إلا بمقدار درجة التقدم العلمي بحكم التطور التاريخي.
ويمكن إيجاز المعالم الأساسية للإطار الفكري الفلسفي الذي يبرز عملية التوجيه الإسلامي في الخطوط العريضة التالية:
- خلق الله كل شيء بقدر، لذلك لا يجوز وصف أي من الموجودات الكونية بالعبثية.
- يحكم الكون نظام دقيق يتأسس على مجموعة من القوانين المطردة القابلة للاكتشاف بواسطة العقل البشري، لذلك لا يصـح إضفاء الصدفة أو العشوائية على ظواهر الوجود.
- يضفي النظام الكوني وحدة وتكاملا على الخليقة من خلال ربط مكونات الوجود بنوعين من العلاقات: علاقات علـية تربط العلل بمعلولاتها، وعلاقات غائية تربط الغايات بالوسائل المؤدية إليها.
- المعتقدات الإسلامية التي تشكل القاعدة القبلية للتفكير لا يمكن أن تتناقض مع مبادئ العقل من خلال الخبرة الإنسانية.
- إن تسخير الكون للإنسان يجعله خاضعا لقدرات الإنسان، وقابلا للتكيف والتشكل وفق إرادته والاستجابة لحاجاته ومقاصده.
[ ص: 133 ]
- لا يمكن اعتبار أي بحث في طبيعة الخلق نهائيا أو ختاميا، نظرا لاستحالة حصر أنساق الخلق والإبداع الإلهي، ولذلك فإن إبداع العقل المسلم على الأدلة المتجددة والنظر في المعطيات المستجدة ضرورة عقلية وإيمانية.
- ترتكز معاني التنـزيل على ركنين أساسيين: القواعد البيانية والبلاغية للغة العربية، والواقع الإنسانى المعيش.
- يتميز السلوك الطبيعي عن الفعل الإنساني في خضوع الأول إلى قوانين ضرورية لازمة، واعتماد الثاني على قواعد مختارة، تبناها الإنسان بمحض إرادته الـحرة، وتبرز مصداقيتها عبر الوساطة الإنسانية بمختلف تجلياتها التاريخية.
ثانيا: ومطلوب من « الخطاب التربوي » أن يعطي اهتماما بالغا لقضية «التنمية العقلية»، دون أن يعني هـذا أن هـناك قوة معينة اسمها العقل كامنة داخل الدماغ، ذلك أن المفهوم الذي ساد طويلا عن العقل باعتباره قوة قائمة بذاتها، دفع مفكري التربية إلى التأكيد على أهمية حشوه بالمعارف والمعلومات، على أساس أن هـذا من شأنه أن «يقويه»، تماما مثل القول: بأن تناول الجسم كما معينا من الغذاء من شأنه أن يقويه. إننا نشير إليه هـنا باعتبار أنه «فعل»، ونمط معين من السلوك يتسم بالمنطقية والرشد.
ولعل هـذا يفسر لماذا لم يرد اسم «العقل» بالقرآن، وإنما جاءت الإشارة إلى عملياته مثل التدبر والتفكر والتبصر... وهكذا.
وأهمية هـذه النظرة تربويا تكمن في أننا لا نسعى إلى أن «نخزن» معارف ومعلومات داخل عقل، خاصة وأننا في عصر عرف بأنه يمثل عصر
[ ص: 134 ] المعلوماتية بما يتسم به من سيولة لا مثيل لها في تدفق المعلومات، بحيث أصبح من المستحيل أن يستهدف التعليم تزويد المتعلمين بمثل هـذا الكم الرهيب، ومن ثم فالحل يكمن في تنمية التفكير، وفي التنمية العقلية، بحيث يمتلك المتعلم قدرة ومهارة على أن يبحث عن المعرفة بنفسه، ليظل دائما أبدا متعلما، وبحيث يملك القدرة والمهارة على الفحص النقدي لما يرد إليه من معلومات، وبحيث يملك القدرة والمهارة على توظيف مثل هـذه المعلومات فيما هـو نافع له ولأمته، وبحيث يملك القدرة والمهارة على حسن الاختيار والانتقاء من هـذه المعلومات.
وفضلا عن ذلك، فإن أجهزة الحاسب الآلي أصبحت تقوم عن الإنسان بعمليات خزن المعرفة واستدعائها بدرجات ومستويات تفوق قدرة الإنسان الفرد بمراحل، وبالتالي يكون على التعليم أن يستغل هـذه الفرصة فيوجه اهتمامه وتركيزه على العمليات العقلية نفسها.
ومن أولى خطوات التنمية العقلية، تحرير العقل المسلم من الجمود والتقليد الأعمى، وتحريره من الغرور، وتحريره من الهوى.. تحريره من الجمود والتقليد الأعمى للسلف، سـواء أكان هـذا السلف هـو سلفنا نحن، أم سلف الحضارة الغربية، فالجمود النصوصي آفة، سواء أكانت هـذه النصوص من موروثنا نحن أم مستوردة عن (الآخر) الحضاري..
والغرور العقلاني الذي يزعم أهله قدرة العقل على الاستقلال بإدراك أي شيء، إلى الحد الذي يحكمون فيه «بالاستحالة» على كل ما لا تدركه عقولهم، هـو موقف أشبه بعبث الطفولة، مع افتقاره إلى براءة الأطفال.
[ ص: 135 ]
ويبدو أن تقاليد «احترام» الأكبر في السن أو المقام تقاليد متأصلة في ثقافتنا، صاحبها نوع من الانحراف بمفهوم «الاحترام» ليضم إلى معانيه قبول الرأي من الأكبر وعدم إظهار المخالفة إلا في أضيق الحدود. رجعت امرأة عمر زوجها في شيء فغضب فقالت: ولم تغضب من مراجعتي وابنتك حفصة تراجع رسول الله ( والوحى ينـزل عليه؟ فقال: أو تفعل ذلك؟ فقالت: نعم، فذهب عمر إلى حفصة مغضبا فأخبرته بصحة ذلك، وبأن ذلك من خـلق رسول الله، فظن أن ابنته متأثرة بما تفعل عائشة لصغر سنها، وقربها من رسول الله، فأكدت حفصة أن الأمر أمر سلوك يريده رسول الله ( ويشجع عليه كل من حوله، وليس أمر خصوصية لأحد.
وشبيه بهذا أن نطالب المعلمين ألا يرددوا ما كلفوا بتدريسه ترديدا أعمى، بل لابد أن ينقدوه، فيتصورون هذا مستحيلا، على أساس أن الكتب المقررة قد كتبها – غالبا – أساتذة جامعيون كبار، وكأن هؤلاء محصنون ضد النقد، والشيء نفسه بالنسبة للطلاب، حيث يتصورون أن المعلمين دائما فوق مستوى الشبهات، ومعصومون من الخطأ.
وإذا كان السبيل الأساس لتنمية العقل هو إتاحة فرصة حرية التفكير أمامه، فإن بعضهم يضع محاذير خاصة بكتابات قد تكون ضالة تنشر الضلالات بين الناس، لكن التجربة تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن فساد الرأي لا يستقيم بحجبه ومصادرته، وإنما الوسيلة الأوفق هي إفساح المجال أمامه كي يظهر ويعلن عن نفسه، مسفرا عن وجهه وحقيقته وحجته، حتى يتعامل معه المصلحون على مرأى ومسمع من الجميع، وليس هذا هو منطق
[ ص: 136 ] العقل وحـده، وإنما هـو منطق الشرع أيضا، الذي نستدل عليه من مطالعة كتاب الله، الذي أثبت بين دفتيه جميع المقولات التي ترددت في نقض الرسالة والنبوة، بل وفكرة الألوهية والتوحيد ذاتها، سواء صدرت تلك الدعاوى عن الكارهين، من أتباع الديانات السماوية، أو صدرت عن المنافقين أو المشركين.
ومن سبل تنمية العقل، الإيمان الذي لا يتزعزع بالتكامل بين الوحي والعقل، فإذا كان العقل هـو وسيلة الإنسان للإدراك وطلب الأسباب وحمل المسئولية، فإن الوحي المنـزل إلى الإنسان من لدن الخالق العظيم مقصود به هـداية الإنسان وتكميل إدراكاته بتحديد غايات الحياة الرشيدة للإنسان وتحديد مسئولياته في هـذه الحياة وترشيد توجهاته فيها ووصل إدراكه الجزئي بالمدركات الكلية فيما وراء الحياة وعلاقات الكون، وكليات المركبات والعلاقات والمفاهيم الإنسانية والاجتماعية اللازمة لتمكين العقل الإنساني والإرادة الإنسانية من حمل مسئوليتها وترشيد جهودها وتصرفاتها وفق الغايات المحددة لها في هـذه الحياة، ولذلك فالوحي والعقل كلاهما ضروري للإنسان، وهما متكاملان لتحقيق الحياة الإنسانية الصحيحة في هـذه الأرض.
كذلك يجب على «الخطاب التربوي» أن يوجه الانتباه إلى أهمية تدريب المتعلم على النقد الذاتي بدلا من التفكير التبريري..
والنقد الذاتي هـو ذلك الأسلوب من التفكير الذي يحمل صاحبه المسئولية في جميع ما يصيبه من مشكلات ونوازل، أو ما ينتهي إليه من فشل..
والمقصود بالتفكير التبريري ذلك التفكير الذي يفترض الكمال بصاحبه، وإذا أخطا برأه من المسئولية وراح يبحث عن مبررات خارجية وينسب أسـباب الأخـطاء
[ ص: 137 ]
أو القصور والفشـل إلى الآخرين، ومن هـنا يجيئ قـول المولى عز وجل:
( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) (الشورى:30) .
والواقع أن التحليل الدقيق للأخطاء التي تقع يوضح أن هذه الأخطاء والمصائب هي مسؤولية من تنـزل به؛ لأن المصيبة هي وليد يولد من تزاوج قوة بقوة، يقول عز وجل:
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) (النساء:97) .
ومما يندرج في هذا الإطار كذلك الإقلاع عن ذهنية القطع بالصحة والصواب فيما كان رأيا أو اجتهادا، ذلك أن من مقومات تكوين النظرة الصحيحة نحو المسلم المختلف، التعامل معه من منطلق الشعور بقصور الذات واتهام الرأي الشخصي والإقرار بمحدودية القرارات الخاصة، كيلا يقع المرء –وهو يختلف ويحاور – بوهم العجب فينساق إلى الادعاء بأنه قد قبض على الحقيقة كاملة، وأن الحق معه غير منقوص، وما كان عند الآخرين ليس باطلا أو سرابا.
ثالثا: وإذا كنا قد أشرنا في جزء سابق إلى أن من أهم سلبيات «الخطاب التربوي الإسلامي»، ندرة الاهتمام بقضايا ومشكلات الواقع التربوي، فإن هذا يستدعي بالضرورة الإلحاح على حتمية التخلص من هذه السلبية، فبقدر حرص «الخطاب التربوي» على الاهتمام بالهموم التربوية المعاصرة والمستقبلة، بالقدر الذي يقـدم فيه أوراق اعتماده لدى الجمهور
[ ص: 138 ] - إذا صح هـذا التعبير الدبلوماسي المعروف كي يكون مقبولا معترفا به، فالحديث عن الماضي وحده لا يكفي، ذلك أن الناس تكاد تغرق في كم من المشكلات التي تحاصرهم ليل نهار، يتوقون إلى من يقدم لها حلولا شافية.
ولو شئنا أن نسوق مثالا لذلك، فهناك في الوقت الحالي مشكلة معقدة تتعلق بتمويل التعليم، فقد عاش بعض من البلدان العربية، وبلدان إسلامية أخرى، تحت مظلة توجه سياسي وفكري يرى أن تقوم الدولة عن الأفراد بعبء تكلفة التعليم. فلما هـبت أعاصير أخرى مغايرة، إذا بتوجه مختلف ينادي بضرورة أن يتحمل الأفراد هـذه التكلفة، خاصة وأن الدولة قد ناءت بأعباء كثيرة أصبحت معها قدرتها على استمرار التمويل الكامل مستحيلة.
وتم بالفعل فتح الباب لمشاركة الجهود الخاصة في هـذا الشأن، لكن النتيجة الحاصلة حتى الآن قد لا تبشر بخير، ذلك أن رأس المال الخاص قد توحش، فإذا به يسعى إلى افتراس الناس امتصاصا لما في جيوبهم!
- فما الحل؟
يحتاج الأمر من نفر من علماء التربية، ورجال الجهاز التنفيذي للتعليم، وعلماء شريعة وقانون واقتصاد كي يتدارسوا كيفية الاستفادة من خبرة الحضارة الإسلامية بالنسبة للوقف الخيري ، الذي كان يقوم بتمويل مؤسسات التعليم طوال العصور الإسلامية إلى الدرجة التي كفل عندها رفع عبء المصروفات عن كاهل الطلاب، بل والقيام بكفالة ملبسهم وإقامتهم وتغذيتهم، والقيام على
[ ص: 139 ]
كافة الخدمات المطلوبة للمؤسسة التعليمية، فضلا بطبيعة الحال عن دفع رواتب المعلمين، والإداريين، والعمال اللازمين للمؤسسة.
كذلك شهدنا، منذ أواسط السبعينيات، في بعض البلدان العربية والإسلامية، اندفاعا كبيرا إلى افتتاح مدارس تعلم باللغة الأجنبية، وخاصة الإنجليزية، استنادا إلى دعوى بأن الإنتاج الحضاري كله على وجه التقريب، هو باللغات الأجنبية عامة والإنجليزية خاصة، ولابد من إتقانها حتى يمكن استيعاب مثل هذا الإنتاج الحضاري، ونسي هؤلاء أن اليابانيين، والصينيين، مثلا، هم ممن أصبحـوا في مقدمة ركب التقدم الحضـاري، ولا يعلمون إلا بلغتهم القومية.
وترتب على هذا انحسار تدريجي للغة العربية، الذي لابد أن يترتب عليه انقطاع تدريجي بين ملايين من أبنائنا من الأجيال القادمة وبين الأداة الرئيسة للتواصل مع منابع الثقافة الإسلامية، حتى المدارس التي رفعت شعار الإسلامية في اسمها، وجدت نفسها بكل الأسى وبكل أسف وقد انجرفت كارهة، إلى المنـزلق نفسه.
مثل هذه القضية الخطيرة، تحتاج من علماء التربية والدين واللغة، عربية وأجنبية، إلى تدارسها، بحيث يظل أبناؤنا متواصلين مع عيون ذاتهم الحضارية الإسلامية، قادرين على التواصل كذلك مع الإنتاج الحضاري الغربي.
وما زالت الإحصاءات تشير إلى أن ما قد يصل إلى عشرات الملايين من أبناء الأمة العربية والإسلامية على حال من الأمية الأبجدية، في الوقت الذي
[ ص: 140 ] تجاوزت فيه دول كثيرة في العالم مثل هـذه الأمية وبدأوا يتناولون أنواعا أخرى مثل الأبجدية «الكومبيوترية» ، وغيرها من الأنواع التي تؤكد رغبة عارمة في اللحاق بركب الإنتاج الحضاري.
مثل هـذه القضية، لا بد أن تكون من هـموم « الخطاب الإسلامي التربوي »، خاصـة وأن الأمة الإسلامية في حال استضعاف لن تتخلص منه -بعد حسن الوعي والاستيعاب والعمل بدينها- إلا بأن تعب -إلى أقصى درجة ممكنة- من العلم الحديث والتكنولوجيا، ولها في القرآن الكريم والسنة النبوية زاد لا ينضب من الدعوة الملحة على طلب العلم والتعليم، مما تناولته كتب متعددة، ويكفي هـنا أن نكرر الإشارة إلى النموذج العملي التطبيقي الشهير الذي سبق أن أشرنا إليه إبان غزوة بدر ، حيث كان فداء الأسير من كفار قريش أن يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.
وفي أيامنا الحالية تجيء إلينا الأنباء مفزعة، ذلك أن القوى المهيمنة، بعد أن مكناها نحن المسلمين، أو الأحرى بعض منا، من أن تغتال بلدانا إسلامية، بدأت تخطط لوأد التعليم الديني الإسلامي، وعلى أقل تقدير، لتحجيمه والإقلال منه بزعم أنه يشكل بؤرا لما يسمونه بالإرهاب (!)
وهاتان خطوتان على جانب كبير من الخطورة، ولسنا في معرض التأكيد على جوهرية هـذا التعليم للأمة جميعا، بإعادة تشكيل أبنائها ليكونوا ذوي شخصيات إسلامية وفقا للهدى القرآني والنبوي، مما يفرض على القائمين «بالخطاب الإسلامي التربوي» أن يهرعوا إلى كشف أوجه الزيف
[ ص: 141 ] في هـذه الخطوات، مستخدمين الإحصاء الذي يؤكد أن الكثرة الغالبة من الذين ارتكبوا أعمال عنف تحت المظلة الدينية لم يكونوا نتاج تعليم إسلامي، بل نتاج تعليم مدني، دون أن يعني هـذا الدعوة إلى التقليل من التعليم المدني، وضرورة التساؤل عن الموقف من معاهد التعليم غير الإسلامية، وخاصة اليهودية التي تعلن صراحة نهج البغض والتحريض ضد غير
اليهود ؟!
ولا بد أن نعترف أن هـناك عددا من المشكلات التعليمية تتصل اتصالا وثيقا بصور خلل هـيكلي في البنية المجتمعية، ولا يعني هـذا أنها تصبح خارج مسئولية «الخطاب التربوي الإسلامي»، كلا، فدوره هـنا أن يقتحمها تحليلا وشرحا وتفسيرا وتصورا لما يمكن أن يقدم حلا لها.
وعلى سبيل المثال، فإن مشكلتي ( الدروس الخصوصية ) ، و ( الغش الدراسي ) ، إذا كانت لهما أسبابهما القائمة في جسم التعليم، فإن الجزء الأكبر من هـذه الأسباب إنما يكمن في مستوى الأداء الاقتصادي القائم، وشروخ واضحة في بنية النظام الاقتصادي.
كذلك فإن ( الغش ) ليس غشا فقط في الامتحانات، وإنما تفسره نظرية الأواني المستطرقة المعروفة، فهناك غش تجاري، والصحف لا تكاد تخلو في الفترة الأخيرة من أخبار صور تزوير، أي غش من أجل الحصول على قروض ضخمة من البنوك بغير وجه حق، وغش إداري، وغش سياسي، وغش إعلامي... وهكذا، ومن الظلم حقا «للخطاب التربوي» أن نطلب منه أن يواجه مثل هـذه القضايا بمعزل عن بقية القطاعات الأخرى.
[ ص: 142 ] رابعا: مطلوب من «الخطاب التربوي الإسلامي» أن يجعل من قضية (العدل التربوي) قضية مركزية، فمثلما هـي القاعدة الإسلامية في العدل على وجه العموم أنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، فهكذا قاعدة العدل التربوي:
أن يحصل كل إنسان، وخصوصا هـؤلاء الذين في سن التعليم التي تقابل بداية مرحلة التعليم الإبتدائي، إلى نهاية التعليم العالي، على حقه في التعليم وفي التربية، بغض النظر عن أية عوائق ليست من كسب يده هـو، مثل الفقر، والطبقة، والمذهب، والبيئة، واللون، والنوع، والعرق، والجنسية، بحيث يكون فيصل التفرقة هـو القدرة على التعلم.
بل إن الباحثين والمفكرين قد كشفوا من خلال العديد من البحوث والدراسات أن المسألة ربما تكون أبعد من ذلك على أساس أن جملة الظروف المجتمعية التي يعيشها طالب التعلم غالبا ما تؤثر على كم ونوع الكسب التربوي، وبالتالي فمن الضروري أن يمتد البصر بحقيقة العدل التربوي إلى ما يتصل بالعدل الاجتماعي، وهو ما يحتم علينا ألا نعزل بين الأمرين.
ويؤكد هـذا ما نجده من إلحاح «الخطاب القرآني» على أن يكون المؤمنون «قوامين بالعدل»، أي كثيري القيام بالعدل في نظم حياتهم وإدارتهم وممارساتهم وقيمهم وعاداتهم، إلى الدرجة التي يصبح العدل هـو السمة المميزة لمجتمعهم وحضارتهم، وأن لا يحول دون تجسيد هـذه الصفة في واقعهم صلة رحم أو حمية قرابة أو شنآن كراهية:
-
( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (النحل:90) .
[ ص: 143 ]
-
( وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم ) (الشورى:15) .
-
( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا... ) (النساء:135) .
وإذا كانت الكثرة الغالبة من الدول الإسلامية قد أصدرت العديد من التشريعات التي من شأنها أن تكفل العدل بين أفراد الأمة في سعيهم للتعلم، وفي مقدمة هـذه التشريعات: التشريعات الخاصة بمجانية التعليم، وخاصة في مرحلة التعليم الأساسي، والمساواة بين الذكور والإناث، فضلا عن أن قوانين التعليم المختلفة ولوائحه الخاصة بتنظيم العمل التعليمي مفروض أن تطبق على الجميع دون تمييز، إلا أن المشكلة الكبري حقا تنبع من منابع عدة تنقص من العدل التربوي. فالمنشأ الاجتماعي للطلاب له دوره المؤثر على تعلمهم.
إن قوانين التعليم ولوائحه إذ تحرص على مراعاة العدل، فهي أشبه بمن يحرص على اصطفاف المتسابقين –مثلا– في العدو على خط واحد، بحيث يسفر الجهد المبذول من كل فرد عن مدى استحقاقه للفوز، لكن «المنبت الاجتماعي» يمكن أن يسـتنفد الكثـير من طاقة كل منهم، فيصل بعضهم وهو مريض أو متعب أو مجهد أو جائع أو غير هـذا وذاك من متغيرات، فإذا به يعجز عن بذل ما هـو مفروض من جهد في عملية التسابق.
[ ص: 144 ]
ومن ناحية أخرى، فإن كثيرا من المجتمعات تضم بين صفوفها قوى وشـرائح اجتماعية يكون لها من النفوذ والمواقع الإدارية والسياسية ما يتيح لها فرصة تكييف النظام التربوي بحيث يكون ملائما لثقافتها وليس لثقافة الجمهرة الكبرى من أبناء الأمة، فإذا بالتعليم يجنح إلى محاباة أبناء هـؤلاء القادرين المهيمنين على حساب الضعفاء.
ومن ناحية ثالثة فهناك ما هـو معروف «بالمنهج المستتر» والذي يتمثل في ما يشيع في المناخ المدرسي من قيم وأساليب تعامل ومفاهيم وصور تحيز، يفوق في تأثيره المنهج العلني المعروف الذي يتم تعليمه ويمتحن الطلاب فيه، وهذا المنهج المستتر يعمل لصالح أبناء الفئات والشرائح ذات النفوذ السياسي والإداري والعسكري والاقتصادي.
ويوجب العدل التربوي من «الخطاب الإسلامي» مزيدا من الاهتمام بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة ، فإذا كانت الأسرة هـي المدرسة الأولى، لكن، عندما يكون الوسط الأسري غائبا أو مغيبا، يتعين على المدرسة أن تأخذ على عاتقها تعهد قدرات التعلم لدى الطفل بالرعاية وتنشيطها، بل وربما استحداثها.
كذلك من المهم إيلاء عناية خاصة لجميع أشكال التربية الموجهة للأطفال المنتمين إلى أوساط محرومة، فيجب أن يدعو «الخطاب» إلى بذل جهود منسقة من جانب المربين لصالح أطفال الشوارع والأيتام وضحايا الحروب وغيرها من الكوارث.
وعندما يجد «الخطاب» أن لدى الأطفال احتياجات خاصة يتعذر تشخيصها أو الوفاء بها داخل الأسرة، فعليه دعوة
[ ص: 145 ] المدرسة أن تقدم المساعدة المتخصصة والتوجيه اللازم لتنمية مواهبهم، على الرغم من المصاعب التي يواجهونها في مجال التعلم، أو بسبب عوائقهم البدنية.
خامسا: ومن المهام المنوطة «بالخطاب التربوي الإسلامي» توجيه الفكر التربوي والعمل التعليمي نحو أن تستهدف التربية الإسلامية «العمران البشري»، وهو المعادل لعملية النهوض الحضاري أو التنمية البشرية في مصطلحات العصر الجارية.
وهنا نجد أن النموذج الحضاري الإسلامي يجعل أهداف الإنتاج والاقتصاد في خدمة الأهداف الأشمل للمجتمع وفق قواعد الاستخلاف كما حددها الشرع، وهي لا تغالي بالتالي في وزن الأمور الاقتصادية على نحو ما فعل أهل الغرب، وعلى هـذا فإنه إذا كان الإتقان في صناعة السلع المادية أمرا مطلوبا وإنجازا محمودا، فإن الإتقان في تربية ذرية صالحة يعتبر عندنا أولى بالطلب والحمد، ولكن أهل الغرب لا يرون ذلك، فهذه العملية لا تقوم عندهم بنقود ولا تدخل في حساباتهم القومية المعتمدة لديهم، ولا يعتبر الجهد المبذول فيها من معايير التقدم.
ويتفرع عن هـذا أنه لا حرج عند أتباع النموذج الغربي من خروج المرأة للعمل خارج المنـزل (من غير حاجة ملحة تدعو إلى ذلك) ، حتى إذا كان على حساب إنجاب الأطفال وإدارة شئون الأسرة، طالما أن العمل في المنشآت خارج المنـزل سوف يزيد حساباتهم للناتج القومي.
ونحن نؤمن بأن دعم الأسرة وتنشئة أجيال جديدة مؤمنة ومجاهدة يأتي قبل إنتاج مزيد من الأحذية والأقمشة.. وحتى بمعايير هـذا الإنتاج الاقتصادي والسلعي فإن تنشـئة أجيال جـديدة مؤمنة وتربيتها على المجاهدة والنظام
[ ص: 146 ] -وهي مهمة تعجز عنها المدارس وحدها- يزيد الطاقة الإنتاجية وبمعدلات مستمرة مطردة.. وإهمال التربية للأجيال الجديدة، والأثر السلبي لذلك على العملية الإنتاجية لا يحتاج إلى إثبات.
ولا ينبغي أن يعني هـذا بأي حال من الأحوال انقاصا من دور المرأة، بل هـو تنظيم لقدراتها ولدورها في إطار مفهوم أرحب لما يعنيه الإنتاج، ذلك أننا لا نحصر معنى الإنتاج بالمصانع وما أشبه خارج المنـزل، فالعمل داخل المنـزل هـو في كثير من الأحيان أكثر إنتاجية وأكثر بركة من المنظور الاجتماعي، بل ومن المنظـور الاقتصـادي أيضا، وفي كل الأحوال، فإننا لا نغلق باب العمل خارج المنـزل أمام أصحاب الكفاءات الخاصة من النساء، أو أمام من تتطلب حاجات المجتمع جهدهن، وكذلك لا نقف في وجه من تفضلن هـذا النوع من العمل لسبب أو لآخر، ما نعارضه هـو ازدراء المتغربين لدور المرأة في العمل داخل المنـزل، واعتبار ذلك نوعا من التخلف وتبديد الطاقات والكفاءات، مع أن حكمة الله عز وجل قضت بأن تتمتع غالبية النساء بالقدرات التي تؤهلهن لهذا الدور، وكان هـذا الدور خلف ازدهار الحضارة والتقدم الاجتماعي.
وإذا كانت هـناك أحـاديث نبوية في مدح الزهد في الدنيا، فإن هـذا لا يعني مدح الفقر، فإن الزهد يقتضي ملك شيء يزهد فيه، فالزاهد حقا من ملك الدنيا فجعلها في يده ولم يجعلها في قلبه، بل إن الإسلام يجعل الغنى نعمة يمتن بها الله، ويطالب بشكرها، ويجعل الفقر مشكلة، بل مصيبة يستعاذ بالله
[ ص: 147 ] منها، ويضع مختلف الوسائل لعلاجها؛ ذلك لأن الفقر خطر على أمن المجتمع وسـلامته واسـتقرار أوضاعه، وفي ذلك روي " عن
أبى ذر قوله: «عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه»؟ " وقد يصبر المرء إذا كان الفقر ناشئا عن قلة الموارد وكثرة الناس، أما إذا نشأ عن سوء توزيع الثروة وبغي بعض الناس على بعض، وترف أقلية المجتمع على حساب الأكثرية، فهذا هـو الفقر الذي يثير النفوس، ويحدث الفتن والاضطراب، ويقوض أركان المحبة والإخاء بين الناس.
وما دام في المجتمع أكواخ وقصور، وسفوح وقمم، وتخمة وفقر دم، فإن الحقد والبغضاء يوقدان في القلوب نارا تأكل الأخضر واليابس، وستتسع الشقة بين المترفين والمحرومين، ومن هـنا تتخذ المبادئ المضللة والأفكار المنحرفة أوكارها بين ضحايا الفقر والحرمان والضياع.
كذلك فإن الفقر خطر أيضا على سيادة الأمة وحريتها واستقلالها، فالبائس المحتاج لا يجد في صدره حماسة للدفـاع عن وطنه والذود عن حرمـات أمـته، فإن وطنه لم يطعمه من جوع ولم يؤمنه من خوف، وأمته لم تمد إليه يد العون لتنتشله من وهدة الشقاء.
ومن البديهي أنه لا إعمـار ولا إنتاج بغير علم، وكلما زاد نصيب الفرد أو الجماعة من العلم، ومن استغلال حقائق العلم ومدلولاته ومكتشفاته ومخترعاته، كلما تضاعف الإنتاج وتكاثر في شتى المجالات، فاغتنى الفرد واغتنت الجماعة، فحيث وجد العلم وجدت الثروة، وقد خطت البشرية خطوات
[ ص: 148 ] واسعـة، كان العلم مقياسا لكل خطوة تخطوها، وكان كل توقف في حياتها، أو تخلف في سيرها، أساسه الجهل والظلام والحاجة.
وعلى هـذا كان العلم في تطوره تسجيلا لتطور الإنسانية نحو القوة والحضارة، وحيث انطفأ مصباح العلم انتقلت الثروة إلى الغرب، الذي انكب على مجالات العلم المختلفة يغترف منها بأقصى ما يستطيع من قدرة، وليس ذلك لأن الشرق فقد موارده، وأن الغرب قد اكتشف لنفسه موارد جديدة لم تكن له من قبل، فقد بقيت الموارد كما كانت من قبل في الشرق وفي الغرب، وإنما جهل الشرق موارده وينابيع ثروته، فكم في باطن التربة الشرقية، وعلى سطحها، من كنوز وثروات وجواهر، ولكن وباء الجهل حجبها عن أبصار أبناء الشرق، فإذا علموا أمرها، حال بينهم الجهل وبين طرق استغلالها، فإذا استغلوها حال بينهم وبين طريق تصريفها في الأسواق وبيعها، ومن هـنا ليس أمامنا سوى العلم، هـاديا ومرشدا ومخرجا من الفقر والفاقة إلى الثروة والكفاية والتنمية.
ويحرص الإسلام على تكامل النظرة في التنمية وشمولها، فحتى في مجال التنمية الاقتصادية التي قد ينصرف مفهومها إلى النواحي المادية وحدها، نجد تربية الإسلام تبرز تلك العروة الوثقى بين القيم الاقتصادية والأخلاقية، وهذا ما يتبدى لنا في ذلك الموقف الذي نرى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطينا في قضية المتسول الذي أتى يسأل عن «لقمة عيش»، كان من «حقه» أن يأخذها من المجتمع بنص من القرآن الكريم في الزكاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أدرى الناس
[ ص: 149 ] بتطبيقه، كما كان صلى الله عليه وسلم أجود من الرياح السخية في الربيع لتقديم هـذه اللقمة لمسكين جاء يطلبها، ولكن أعمال النبي صلى الله عليه وسلم تشريع أو عبرة لأمته، فأشار على من حوله من الصحابة بأن يجهزوا هـذا الفقير ليحتطب، وأشار على الرجل بأن يحتطب ليأكل من عمل يده.
فإذا حللنا هـذه القصـة من حيث أبعادها الخلقية نرى كيف يحل الرسول صلى الله عليه وسلم أزمة اجتماعية تعرض عليه صـورة متسـول من المساكين، فيفضل صلى الله عليه وسلم حلها في نطاق «الواجب» على «الحق»، أو إذا قدرنا الأبعاد الاقتصادية فإننا نراه صلى الله عليه وسلم يفضل الحل في نطاق «الإنتاج».
سادسا: ومن مهام « الخطاب التربوي الإسلامي » الدعوة إلى غرس قيم ومبادئ ومقومات الحرية وممارستها، على مستوى الفكر والتطبيق، ذلك أن المنفعة الاجتماعية إذا كانت تقتضي أن تلتزم الدولة العدل في توزيع العدل، في توزيع المسئولية، وإذا حملت الدولة وحدها تبعات المجتمع ومسئوليات مصيره؛ فإنها على الرغم مما ستبذله من جهد وتضحية تكون قد أخلت بمقتضيات العدل والنفع الاجتماعي.
وإذا كانت الدولة، لكي تباشر مسئولياتها تفكر في حرية وتعلن رأيها في حرية وتقول في أمن، فإن المجتمع لكي يباشر مسئولياته لا بد أن يظفر بالفرصة نفسها فيفكر حرا ويقول رأيه وكلمته في غير خوف ورهبة.
وإذا كانت الحرية بمثل هـذه الضرورة بالنسبة للمجتمع عامة؛ فإنها أكثر ضرورة بالنسبة لمجتمع العلماء، فالعلم الذي يتم بحثه والتفكير في مسائله في
[ ص: 150 ] ظل إرهاب السلطة وتدخل الدولة ثمراته فقيرة بطيء النمو، فالحرية بالنسبة للباحثين والمعلمين والمتعلمين تكاد أن تكون شرط حياة.
ومما لا شك فيه أن حركة التقدم على مستوى العالم، إذا كانت قد أنجزت ما لا حصر له من نظريات علمية واجتماعية وأجهزة ومعدات تكنولوجية ، فإن مما لا يقل عن ذلك أهمية حقا، هـو هـذا الزخم الواضح حديثا وتنظيرا وسعيا نحو ممارسة الديموقراطية ، وحق الإنسان في أن يفكر حرا، وبالتالي فإن لنا أن نمسك بما نجد في موروثنا التربوي من أفكار ودعوات وممارسات على طريق الحرية والتحرر والتحرير.
لكننا في الوقت الذي نثبت فيه آيات ونماذج لكتابات تؤكد على حرية المتعلم، وحث المعلـم على أن يمـكن المتعلم ويدربه على حرية التفكير، فلا ينبغي أن نغض الطرف عن صور ونماذج أخرى سارت على العكس من ذلك، فكم من مفكرين وعلماء سلسلوا بالقيود ورموا في غياهب السجون، ونالوا من العذاب ما لا يكاد يصدقه عقل، ويكفي الإشـارة هـنا إلى محنة
ابن حنبل ، لا لشيء إلا لأنه رفض أن يتبنى الرأي الذي تبناه
المأمون خليفة المسلمين ورئيس الدولـة، ويكفي أن نشير أيضا إلى ما تم بالنسبة لكتب
ابن رشد ... إلى غير هـذا وذاك من أمثلة سلبية.
لكن هـذا البحر، عندما نغوص فيه بحثا عما هـو ثمين، نجد أنه في الوقت الذي يمكن أن يكون فيه حافلا بما هـو ثمين من لآلئ، وكائنات حية تفيد، فهو أيضا يحوي في أعماقه ما هـو عكس ذلك، فهل يدفعنا الصنف الأخير أن ننصرف عن الغوص في أعماق البحر بحثا عما هـو ثمين ومفيد؟
[ ص: 151 ]
لقد كان نظام التعليم في الدول الإسلامية كلها يتيح الفرصة لكل طالب أن يجلـس إلى من يريد أن يتعـلم على يديه، العـلم الذي يريد، ولم يكن هـذا النظام يعرف ما هـو سائد اليوم من حيث تقرير مقررات بعينها على الطالب يتحـتم عليه دراسـتها في وقت معين على يد معلم بعينه، وما نظام الساعات المعتمدة إلا صورة عصرية متقدمة لهذا الذي كان.
ومن هـنا نجد دعوات في موروثنا التربوي تنصح الطالب بأن يتوقف طويلا قبل أن يختار المعلم الذي يدرس على يديه، فهذا هـو «
الزرنوجي » ينصح طالبه بألا يتعجل في الاختلاف إلى الأئمة، وأن يمكث شهرين حتى يتأمل ويختار أستاذا، فإذا ذهب إلى عالم وبدأ بالسبق عنده، فلربما لم يعجبه درسه فيتركه وذهب إلى آخر، فلا يبارك له الله في التعلم. فإذا تأمل واختار، فعليه أن يثبت ويصبر على الأستاذ المختار.
ولهذا كان الطلبة عندما يأتون إلى المدن يقضون فترة قد تقصر أو تطول بحسب الأحوال، ينتقلون فيها بين الحلقات العلمية، يستمعون إلى الشيوخ في دروسهم، ويقارنون بينهم، ويفحصون على الطبيعة أو في جو العمل وعلى أرض الواقع، كفاءات الأساتذة وطرائق تعليمهم، وبلاغة تعليقاتهم. وقد تكون نية أحدهم في انتقاله من بلده أن يرحل للقاء شيخ معين يتلقى على يديه، فإذا به يجد من هـو أكفأ في نظره، أو من هـو أشد جذبا له من غيره من الأساتذة فينصرف عن الأول ويلتحق عند الثاني، ويكون للأستاذ في شخصيته وعلمه العامل الأول في اختيار الطالب لمادته التي يدرسها.
[ ص: 152 ]
وهاجم الشوكاني «التعصب» و «التقليد»، وهما آفتان خطيرتان على حياة الحرية. لقد كان الرجل يدعو إلى العقيدة السلفية في بساطتها أيام رسول الله (، ويدعو إلى الاجتهاد ونبذ التقليد، وذلك بأخذ الأدلة الشرعية من مواطنها، من الكتاب والسنة، بحيث يفترض المرء نفسه موجودا في زمن النبـوة، وعند نزول الوحـي، وإن كان في آخر الزمـان، وكأنه لم يسبقه عالم، ولا تقدمه مجتهد، فإن الخطابات الشرعية تتناوله كما تناولت الصحابة من غير فرق.. إن الأقوام متساوية، ليس لواحد منهم أن يدعي أنه غير متعبد بما تعبد به الله عباده، أو خارج عن التكليف، أو أنه غير محكوم عليه بأحكام الشرع، ومطلوب منه ما طلبه الله من عباده من سائر الناس، وليس لواحد أن يرتقي إلى درجة التشريع، وإثبات الأحكام الشرعية، وتكليف العباد بما يصدر عنه من رأي، إلا فيما فوضه إلى رسله.
ثم يوجه الشوكاني خطابه إلى طالب المعرفة بأن أهم ما يجب عليه أن يكون منصفا لا أن يكون متعصبا في شيء من هذه الشريعة، فلا يمحق بركتها بالتعصب لعالم من علماء الإسلام، ذلك أن هذا العالم وإن فضله بنوع من أنواع العلـم، فهو لم يخرج بذلك عن كونه محكوما عليه، متعبدا بما هو متعبد به، فضلا عن أن يرتفع عن هذه الدرجة إلى درجة أن يكون رأيه فيها حجة على العباد واجتهاده لديها لازما لهم.
وكان العلماء يشجعون طلبتهم على المناقشة والمناظرة، ويوجبون عليهم التمرن عليها، وكان الطالب يخالف أستاذه في الرأي أحيانا، مع مراعاة التأدب والاحترام.
[ ص: 153 ]
ورأى «
الزرنوجي » أن قضاء ساعة واحدة في المناقشة والمناظرة أجدى على المتعلم من مكث شهر كامل في الحفظ والتكرار.
وقد كان للعناية بالمناقشة والمناظرة والحوار بالأسئلة والأجوبة أثر حيوي كبير في طالب العلم، جعله يشترك في أن يعلم نفسه بنفسه، ويعتاد حسن التفكير، وجودة التعبير، والقدرة على النقد، والقوة في الإقناع، والاعتماد على النفس، وحرية التفكير.
سابعا: ومما يجب أن يعنى به « الخطاب التربوي الإسلامي »، الحرص على أن تحل منظومـة القيم محل القلب من العمل التربوي، فإذا كان الدين -وفقا للخطاب النبوي- هـو المعاملة، فإن المعاملة «سلوك» بمواصفات بعينها ومعايير محددة.
وعندما يكون مناط الأمر هـو السلوك، فإن ما يؤكده علماء النفس والتربية والفلسفة والاجتماع أن السلوك إنما يتحرك بمنظومة من القيم.
وإذا كان للقيم مضمونها الفكري، إلا أن لحمتها وسداها مما يعتمد على الوجدان والعاطفة.
لقد حسب فلاسفة منذ
سقراط في بلاد الإغريق، أن العلم فضيلة، وأن المعرفة وحدها تكفي لتحسين الأخلاق وتحقيق القيم وتقدم المجتمع، ولكن المشاهدة والبحث حملا باحثين معاصرين على العناية بالعواطف والميول، بل والغرائز، وصاروا إلى اعتبارها العنصر الأكثر فطرية والأعظم تأثيرا، حتى أن منهم من أحل الذكاء منـزلة ثانوية بالإضافة إليها.
[ ص: 154 ]
ويبقى من الثابت أن لاضطراب الحياة العاطفية أو شذوذها عقابيل وخيمة، كما أن بعض المتميزين بالذكاء والموهبة لا ينتجون ما هـم به جديرون لضآلة حساسيتهم، على نقيض الأبطال والمصلحين وكبار الرواد المتميزين بقوة عواطفهم وخصبها.
إن العلماء العباقرة ليسوا باردين حقا كما يبدو من أمرهم في الوهلة الأولى، ذلك أنهم لا يشاطرون عامة الناس أذواقهم، أو أنهم يعيشون جانحين إلى الصمت والتأمل، وهم يتمتعون بحساسية شديدة جدا هـي حساسية حب الحقيقة وكل ما يتصل بجمالها القيمي.
والقيم الأخلاقية في التربية الإسلامية، بالإضافة إلى قيامها بدور الموجه والضابط، فهي تقوم بالنسبة لمجمل الأمة بدور الرابط، والجامع، والموحد، هـذه الروح الخلقية منحة من السماء إلى الأرض تأتيها مع نزول الأديان عندما تولد الحضـارات، ومهمتها في المجتمع ربط الأفراد بعضهم ببعض، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى:
( ...وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ) (الأنفال:63) .
ومن الأمور الأساسية للقيم هـو التمييز بين نوعي التعلم: التعلم للصيانة، والتعلم المجـدد، فمن شـأن التعلم للصيانة أن يتجاهل القيم التي لا تكون جزءا لا يتجزأ من البنية الاجتماعية والسياسية المطلوب صيانتها، وأن تجعل قيمها الذاتية قيما ضمنية غير مكشوفة.
ومع ذلك فإن التشدد والتوتر الناتجين عن الضغط للاختيار من بين مجموعة من القيم هـو الذي
[ ص: 155 ] يساعد على ظهور التعلم المجدد، وهذه يمكن أن تكون عملية لها وضوحها وبروزها واستثارتها، وهي عملية لا بد أن تكون قد مارسها كل فرد، فحين تقوم التحديات في وجه ما عنده من قيم، فإن عملية التعلم تدب فيها الحياة، ومن هـذه الوجهة يمكن القول: بأن القيم هـي « إنزيمات » عملية التعلم المجدد.
وقد حرص الباحثون في قضية القيم على تصنيفها، وظهرت اجتهادات متعددة، لكن الكثير منها يتشابه بعضه مع بعض، ولكن هـناك من اجتهدوا حديثا من علماء المسلمين ليؤسسوا تصنيفا جديدا: فهناك القيم التأسيسية الحاكمة، وتشير إلى التوحيد، والتزكية، والعمران، على تفاعل فيما بينها. ويرتبط بها القيم الوسيطة الناظمة: العدل، الكرامة، الأمانة، المساواة، الاختيار، الشورى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن هـذه وتلك تخرج القيم التي ترتبط بحقل التفاعل الدولي والعلاقات المتفاعلة فيه مثل: الاستخلاف، والعالمية، والدعوة، الآخر، التسامح، الوفاء بالعهد، المعاملة بالمثل، الأمن.
وفي داخل هـذا التنظيم، تبرز القيمة الكلية الحاكمة: التوحيد، فعنها تصدر كل القيم، وبمعاييرها ينضبط العمل وحركة السير والتفكير.
ثم قيمة العدل، فهي القيمة الأساسـية الحاكمة كذلك لنظام القيم، إنها تعطي للقيم الأخرى مذاقها الخاص.
ومع الأسف الشديد، فقد اتجهت المؤسسات التعليمية في العقود الأخيرة إلى تركيز انتباهها إلى الوظيفة المعرفية للتعليم، وأخذ اهتمامها
[ ص: 156 ] بالجانب القيمي يضعف، مما يحتم العودة إلى الجانب الذي عده بعض المفكرين حقيقة «فريضة غائبة».
وإن التسليم بماهية القيم، بأهمية تعليمها، يسوغ لنا أن نؤكد أن برامج التنمية بعامة، وبرامج تطوير التعليم بخاصة، إذا لم تؤسس على أعمال مقصودة تهدف إلى تنمية القيمة لدى الناس، عبث لا جدوى منه، ومضيعة للوقت وللجهد والمال؛ لأن القيم هـي الموجهات الأساسية لكل ما يحرزه المتعلمون في مجالات العلوم، والتطبيقات التقنية.
ثامنا: وإذا كان على «الخطاب التربوي الإسلامي» أن يؤكد على أخلاقيات التسامح وسعة الصدر، وكظم الغيظ، والتعامل بالرفق... إلى غير هـذا وذاك من الأخلاقيات الإسلامية التي تشير إليها آيات كثيرة من آيات القرآن الكريم، وأحاديث متعددة لرسول الله، لكن هـذا وذاك لا يمكن أن يعني أبدا التراخي في المطالبة بالحقوق والدفاع عن الحق وصلابة الموقف في بعض الأحوال التي يكون فيها تهديد يمكن أن يقع على مصالح الأمة الآنية والمستقبلية، ومن هـنا يجد «الخطاب» نفسه ملزما بأن يؤكد على تكوين الشخصية المسلمة القادرة على المقاومة للظلم والاستغلال، والقادرة على تحمل الصعاب والمجاهدة ومواجهة التحديات.
وهناك آيات كريمة عدة من كتاب الله المجيد، القرآن الكريم، تشير لنا إلى أن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان في هـذه الحياة الدنيا لم يضعه على طريق مفروش بالورود والرياحين، وإنما على طريق «الابتلاء» سائر، وقد زوده المولى عز وجل بإمكانات وقدرات «المغالبة» وأرشده إلى غاية
[ ص: 157 ]
السعي، وهداه إلى أساليب وآداب «الكدح»:
( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) (الأحزاب:72)
فها هنا الموقف الأول للتحدي والابتلاء، لقد ألقى الله عز وجل تبعات جسام على عاتق هذا المخلوق «الإنسان» في الوقت الذي ناءت بحملها مخلوقات أخرى تبدو ذات قوة وبأس شديد، كالسموات والأرض والجبال. إنها التكاليف والحقوق المرعية التي أودعها الله المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد، وأمرهم بمراعاتها وأدائها والمحافظة عليها من غير إخلال بشيء من حقوقها.
والصراع أبرز صور التحدي، فهناك من يسعون في الأرض فسادا، لكن الله سبحانه وتعالى يقيض لهذه الأمة من أبنائها من يحملون على عاتقهم مسؤولية التصدي لهؤلاء، فيرفعون لواء النضال والكفاح، ولولا هذا لتداعت حياة الأمة:
( ...ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض... ) (البقرة:251) .
وتتعدد آيات «الابتلاء» بمعنى الامتحان والاختبار، ويكون بالخير والشر والنعمة، وأيضا النقمة:
-
( وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ) (الأعراف:168) .
-
( ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ) (الأنبياء:35) .
[ ص: 158 ]
-
( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس... ) (البقرة:155) .
-
( ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض... ) (محمد:4) .
-
( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم ) (المائدة:48) ... وكذلك في: (الأنعام:165) ، و (هود:7) ، و (النحل:92) ، و (الملك:2) ... وهكذا.
بل إن الله سبحانه وتعالى ينص في كتابه العزيز على أن الحياة الإنسانية بكليتها إنما هـي سلسلة متصلة الحلقات من الأمل والمشقة:
( لقد خلقنا الإنسان في كبد ) (البلد:4) .
ويقول عز من قال:
( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) (الانشقاق:6) ، أي لا تنفك تجد وتعمل إلى أن تلقى ربك فيجزيك وفقا لما فعلت.
من هـنا يكون «التحدي» و «الابتلاء» من علامات الطريق الإنساني، لا بد أن يبرز الوعي به حتى يمد المسلم بطاقة صمود ومقاومة وقدرة على المغالبة.
تاسعا: كذلك فإذا كنا نشكو من غياب الرؤية المستقبلية عن «الخطاب التربوي» ، فلا بد أن نتيقن من أن مكونات الطاقة البشرية لم تستنبط بعد، وهناك حاجة لاستخراجها وتجميعها وتوجيهها وتصويبها لخير الأمة ومستقبل الإنسان. ولا بد أيضا أن نستحضر لأذهاننا أننا نعلم لمجتمع لم يولد
[ ص: 159 ] بعد، ولا نعلم للمجتمع الراهن، الذي هـو في طريقه إلى التحول والتغير لتحل أوضاع أخرى ربما تكون مغايرة إلى حد كبير ما كان سائدا.
ولا شك أن هـذا العمل المنوط بالمؤسسات التربوية يعتبر جديدا؛ لأن وظيفة التربية في الماضي انحصرت على وجه العموم في ربط ماضي الأمة بحاضرها، وفي المحافظة على العلاقات الاجتماعية، ويمكن أن ندرك بسهولة سبب هـذا التحول، إذا قارنا بين الاستقرار النسبي للمجتمعات في الماضي وبين التطور المتسارع للمجتمع المعاصر، ولعلنا اليوم في وقت يجب أن تعمل فيه التربية من أجل «تكوين أطفال لا نعرفهم»، وإعـدادهم للحياة في مستقبل لا نعرفه، وبناء على ذلك، فإن طبيعة الأمور تفرض أن يكون هـدفها هـو التفكير في المستقبل، ورسم صورته كما نريدها أن تكون.
وهذا الاتجاه ملحوظ في الدول التي حصلت فيها تحولات عميقة، وأصبحت مقاليد الحكم فيها بيد قوى اجتماعية وسياسية جديدة، مما جعل تلك الدول تعمل على تنظيم المجتمع بتغييره جذريا، وهو ملحوظ أيضا في الدول التي لها إمكانات تقانية واسعة، ولها مشروع للنهوض بالإنسان الجديد، من غير أن تتعرض لما تعرض له غيرها من الطفرات السياسية المفاجئة. وقد منع الوضع السياسي المضطرب في بعض البلدان، والمشكلات العويصة والتناقضات الداخلية التي تعاني منها، منعها ذلك من إدراك مصير شعوبها بكل تبصر. ولئن كانت العقول النيرة، والإرادة الفعالة، متوافرة في تلك البلاد، فإنها من ناحية أخرى في حاجة إلى وضع أسس متينة، وتوفير الوسائل اللازمة للنهوض بأمرها.
[ ص: 160 ]
وهكذا نجد أن حسن قيام « الخطاب التربوي الإسلامي » بمهمة المساهمة في النهوض الحضاري للأمة يقتضي أن تكون وجهة التفكير فيه «مستقبلية».
إن كثيرين يخطئون عندما يتصورون أن الوجهة المستقبلية للتفكير في النهوض الحضاري إنما هـي أثر من آثار العصر الراهن، ذلك أن استقراء سريعا لعدد من المحاولات الفكرية التي قام بها العقل البشري منذ آلاف السنين تؤكد على هـذا التوجه.
رأيناه فيما رواه القرآن الكريم عن خطط
يوسف عليه السلام ، عندما مكنه
عزيز مصر في العصر الفرعوني من تدبير أمر ما كان متوقعا من مجاعة في المستقبل..
ورأيناه في جمهورية
أفلاطون ...
وفي آراء أهل المدينة الفاضلة
للفارابي ...
وغير هـذا وذاك، كثيرون..
لكن الفرق أن بناء تصور للمستقبل لم يعد أمرا يقوم على التأمل الفكري الذي يقوم به هـذا الفرد أو ذاك، مهما أوتي من قدرات عالية..
ولم يعد أمر أحلام وفيضان من المشاعر والرغبات التي ترنو إلى غد يتسم بالرفاه والتقدم..
إنه جهد علمي يقوم على التلاقح الفكري بين عديد من العقول وفق أساليب تقوم على التدقيق المنهجي، وعمق الرؤية، وسعة الإحاطة.
إن مستقبل الشعوب اليوم لا يبنى من خلال تجربة الماضي أو تجربة الحاضر فقط، بل يبنى من خلال التعرف على المستقبل، المستقبل المتوقع من
[ ص: 161 ]
جهة، والمستقبل المنشود الذي نريد أن نبنيه، انطلاقا من ذلك المستقبل المتوقع من جهة ثانية.
لم تعد تجربة الماضي والحاضر، على أهميتها، تكفي لبناء حياة الشعوب، بل لابد من نظرة مستقبلية تحسبية، نحدد في ضوئها مهماتنا وخطواتنا ورؤانا: أين سيكون العالم في مستقبل الأيام؟ أين سيكون موقعنا من العالم إذ ذاك؟ وما هي المشكلات التي ستواجهنا في المستقبل في ضوء تلك الصورة العالمية وفي ضوء الصورة المتوقعة لمجتمعاتنا؟ ما هي الجهود التي علينا أن نبذلها لنجعل من صورة المستقبل عندنا صورة تساير الركب العالمي وتنجو من هوة التخلف والانسحاق؟ أسئلة كثيرة لابد من طرحها أمام «الخطاب التربوي الإسلامي»، تساعده على الإجابة عنها الدراسات المستقبلية في مجال التعليم.
ويمكن القول: بأن فاعلية النظر المستقبلي «للخطاب» تفرض القيام بعدة عمليات، منها:
- تشخيص الوضع الراهن وتحديد عناصره، وعوامله الإيجابية والسلبية، والعلاقات المباشرة، وغير المباشرة، بين هذه العوامل، إيجابا وسلبا.
- كيفية تعبئة وحشد القوى والوسائل المتاحة، واختبار الأكثر ملاءمة من بينها.
- الطريق إلى تعبئة وحشد القوى والمواد اللازمة.
- سبل استغلال العوامل الإيجابية، وإتاحة الظروف المناسبة لنموها.
- تحديد العوامل السلبية، ووضع الخطط والظروف الملائمة لحصرها.
[ ص: 162 ]
- الوعي بأهمية تنسيق استخدام العوامل والوسائل والظروف والقوى ووضعها في نسق واحد مترابط يحقق التكامل والتفاعل.
- كيفية تحريك النسق الموضوع بما يتلاءم مع تحقيق الأهداف.
- التشديد على مراعاة المواءمة مع المواقف المتغيرة والمرونة وفق الظروف المتجددة، والقدرة على الحركة الواسعة بسرعة كافية.
وبعد،
ولعلنا هنا ننتهي بما بدأنا به..
فإذا كان الجزء الأخير يؤكد لنا ضرورة التكامل والتنسيق، فإن الخطوة الأساسية للنظر الشامل المتكامل، هي الاستناد إلى عقيدة لها رؤاها المجتمعية الشاملة المتكاملة، ألا وهي العقيدة الإسلامية.
لكن العقيدة، كما أكدنا، وأكد كثير غيرنا، ليست شعائر تؤدى فقط، وليست أفكارا تمتلئ بها عقولنا وقلوبنا، وإنما هي كذلك «سلوك» نسلكه مع خالقنا سبحـانه وتعالى، ومع أنفسـنا، ومع الناس، والاستعانة في هذا بما أفاء الله به على الإنسان من مستويات تقدم معرفي، وخاصة في علوم التربية وعلم النفس، مما يعطي في جملته تأكيدا عمليا بأن هذه العقيدة تملك ما لا حصر له من إمكانات بناء الإنسان.
تلك هي سبيلنا:
( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة ) ،
وهي سبيل نفر:
( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) .
[ ص: 163 ]