غربة اللسان من غربة العلم
لا يخالف عاقل في فضل العلم وجليل محله، فهو على رأس الفضائل، وأحقها بالتقديم، وأسبقها في استيجاب التعظيم، وهو السبيل إلى خير المنازل، والدليل على كل الفضائل، وذروة المناقب وسنامها، ولولاه لما بان الإنسان من سائر الكائنات إلا بالصورة والهيئة.
هذا، ولقد أصبح في زماننا مهجورا مزهودا فيه، حيث أصغر الناس أمره وتهاونوا فيه، فأصبح يعاني غربة وقلة، نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين قال في الحديث الذي رواه
إسمـاعيل بن أبي أويس عن
مـالك عن
هـشام ابن عروة عن أبيه
[ ص: 53 ] ( عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : ثم إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) >[1] .
فأكثر الناس في هـذا الزمان ناكبون عن سبيل العلم، متطيرون من اسمه، متضايقون من أهله، والناشئ منهم راغب عن التعليم، والشادي تارك للازدياد منه، والعلماء غرباء في ديارهم، مغمورون بين ذويهم وعترتهم، وسـوق الجهل والدنيا في تنام وازدياد، وسوق العلم قد أصابها الكساد، لقلة عناية أهله بحفظه، والبواعث إليه قلت، والحوادث الصارفات عنه عظمت وجلت.
هذا، وإن النكبة التي حلت في زماننا بالعلم هـي «تناقص أطرافه وفشو أدواته»: ذلك أن المدنية المعاصرة كلما تقدمت ازدادت اكتشافا للوسائل والأدوات التقنية المتطورة التي صنعت لنشر العلوم وإذاعة المعارف، وسهلت على الإنسان سبل الحياة، ويسرت له اليوم ما كان بالأمس عسيرا. فقد شهد هـذا العصر دفقة واسعة في وسائل اللقانة
>[2] والتعليم، لم تترك صغيرة ولا كبيرة في ميادين البرامج والمناهج وطرق التبليغ والتبسيط إلا ارتادتها؛
[ ص: 54 ] فقد تنوعت هـذه الوسائل تنوعا لافتا، حيث ضمت الكتب والمجلات والحواسيب والملصقات والإعلانات والألعاب الهادفة والمنبهات المثيرة للحواس، ووضعت الروائز وامتحنت المتعلم وحملته على سرعة الاهتداء وحسن الجواب...
أجل، ما عرف العالم مرحلة كثرت فيها الوسائل لنقل المعلومات والمعارف، كالمرحلة التي هـو فيها، الصحف أكثر من الهم على القلب، والكتب بجميع أصنافها تقفز من العدم إلى الوجود قفز الجنادب، ومحطات الإذاعة والإرسال لا تفتر عن بث الأخبار صغيرها وكبيرها، وبث المعارف والعلوم دقها وجلها...
ولو تأملت قيمة المعارف والعلوم التي تتلقاها الأجيال الناشئة اليوم، لوجدت أنها معارف ضعيفة معرضة للنسيان والضياع، مطبوعة بالعجلة والسطحية، مشروطة بالمنبهات التي إذا توافرت حضرت تلك المعلومات والمعارف، وإذا غابت غابت، وإذا قدر لك أن تحاور شباب اليوم، لوجدت كثيرا منهم - في الأغلب الأعم - مفتقرين إلى أدبيات الحوار وطرق المناظرة وطول النفس ومنهج الإقناع والتسلسل المنطقي... وهي أمور كانت منتشرة يوم لم تكن هـذه الوسائل الهائلة متوافرة، فلما اندفع سيل المخترعات والتقنيات التلقينية قل العطاء وتراجعت القدرات، وتخرج على مدرسة التقنيات الحديثة جيل مرهق الفكر منهك الحواس، أتعبته المنبهات وبات يلتمس مطلوبه في الألعاب المسلية والأنشطة المروحة.
[ ص: 55 ]
ولا شك أن السبب في ذلك كله أن العلوم والمعارف أفرغت من مضمونها وجردت من مكنونها، فأصبحت أصنافه ومصنفاته كثيرة ونكته قليلة، وأنواره ساطعة وثماره عزيزة، وأجسامه جمة وأرواحه نزرة، وما ذلك إلا لأن العلم فصل عن مكارم الأخلاق، فانحسر هـذا الفصل عن السفاسف والأخلاق، وأصبح المدرس مجرد ملقن للتلميذ لا يختلف حاله عن حال الآلات الملقنة التي تؤمر فتستجيب، وأصبح التلميذ موكولا إلى نفسه وهو يتعلم ويتلقى، وفصلت هـذه المعارف عن التربية والتوجيه وخلق الانضباط والاستماع، وأسفرت هـذه المناهج المفرغة الجوفاء عن جيل من المدرسين كانوا بالأمس تلاميذ، فأثمروا ما بذر فيهم، وانتصبوا أمام أفواج كثيرة من التلاميذ فبثوا فيهم ما لقنوا أو ما هـو دون ذلك، ولكنهم لا يملكون لهم علما ولا تربية ولا خلقا، إلا القليل منهم، واستمر هـذا الخط في دوران مغلق.
ولا تسأل عن آثار هـذه المناهج العلـمانية الفاصلة في المجتمع برمته، وما تزوده به من ظواهر تربوية غريبة، تطبعها الأنانية والسطحية والعجلة، وتفتقر إلى من يسير أمورها ويقضي مآربها ويأخذ بيدها، ولكنها أعطيت زمام تسيير الشئون العامة، وحملت المسئوليات الجسام، فكانت وبالا على البلاد والعباد. ورأس الداء كله هـو «فشو مريع لأدوات العلم، وتناقص لأطرافه» لما فصل عن مرجعيته العقدية والخلقية. فليس النقص في وسائل نشر المعرفة، ولكن النقص في طبيعة المعرفة ذاتها وما ينبغي أن ترمي إليه من إعادة تشكيل الإنسان وفق أصوله الحضارية الأولى، ثم ما يفرضه العصر من
[ ص: 56 ] تحد ومواجهة، ومن حرب حضارية كونية، و «عولمة» تمتص خصوصيات الأمم وثقافتها، وتلقي بها في يم التمييع والتضييع، فتصهر عناصر القوة في كل ثقافة، وتشل قدرتها عن كل تأثير وغلبة وتوجيه، فتحرمها من إفادة الثقافات الأخرى بتجارب إنسانية خاصة يمكن أن تنتقى وتصير نافعة في حياة الأمم والحضارات. فمن المعلوم أن النظام الدولي الجديد صيغة تفتقر إلى نظام، ونظرية في التحضر تفتقر إلى حضارة مؤطرة، وجسد يفتقر إلى روح، وصيغة ذات نظام موهوم ألقي بها في دنيا الناس لابتلاع الثقافات القومية والتهام كل الثوابت، وطوفان جائح يهدد بإغراق كل شيء؛ لأنه عنوان على «الزمن الغربي الجديد» الذي وصل إلى مرحلة يضيق عندها بالاختلاف والتنوع
>[3] هـذه هـي العقبة الكأداء التي ينبغي أن تقتحمها المعرفة في الوقت الراهن، وهذا هـو التحدي الذي تواجهه وهي تلتمس طريقها إلى عقول الناس وقلوبهم، مؤزرة بإطارها الحضاري ومذهبها العقدي وتصورها السليم الذي يربط العلم بأساس الأخلاق والإيمان.
[ ص: 57 ]