خاتمة
وخاتمة المطاف أن غربة العربية من غربة الدين، وهذه الوشيجة التي تجمع العربية بالدين ترقى بـها وتشرفها، وترفعها درجات عليا، إلى جانب ما يرفعها من كونها اللسان المبين للقرآن الكريم. فما من معول من معاول الهدم وجه إلى الدين إلا وكانت العربية هـدفا مقصودا بالتبعية. ولقد سعى الخصوم على مر التاريخ، إلى القضاء على عقيدة الأمة ولغتها وقيمها الحضارية، قضاء مبرما، بأسلحة فتاكة وسموم نفاذة وأصوات مجلجلة ومقابح مستأسدة. فلما استعصى عليه الأمر، وأدرك أنه أوهى معوله بضربات طائشة لم تضر المضروب إلا أذى طفيفا، لم يأل جهدا في بث الشبهات ونثر بذور البلبلة حول الدين واللغة، والتخليط على الناس، وتشويه صورة التراث في أعين أبنائه.
وإن غربة هـذه الأمة لهي محمودة؛ فللأزمنة دلائلها، ودلائل زمان نحن فيه لا تترك أدنى شك في أن هـذه الأمة التي ختمت فيها الرسالة، وحملت القيادة، مدعوة للقيام بهذه المهمة الجليلة، مهمة إقالة البشرية من عثرتها، هـذه الأمة التي هـجعت هـجعة طويلة، ولاذت بالقشور قرونا طويلة، سيمت خلالها شتى ضروب المحن، أصبحت مدعوة من جديد أن تنتفض لتنـزع عن نفسها أغلال التخلف والاستعمار، وتكشح ظلمات الهوان، وتعمل على ترميم ما انهار من عزيمتها واسترداد ما ضاع من حقها. [ ص: 99 ] وإن غربة العربية في ديارها وبين أبنائها وذويها، لهي غربة محمودة؛ لأن صفة الغربة فيها تدل على قدرتها على البقاء واستعصائها على عوامل الإزالة والزوال، فلو لم تكن على هـذه الصفة من الهجران أو شبه الهجران، لطواها النسيان.
وإنها لغربة موجبة لا سالبة؛ لأن الحياة الثقافية ما زالت عربية الطابع في عمومها، ولأن الفكر العربي ما زال ينمو ويتطور ويزدهر داخل المنظومة اللغوية العربية. وهذا الإقبال يدل على الحاجة الماسة المتجددة إلى العربية، على الرغم مما يعتريها ويعترض طريقها من عوائق.
إن الخصم يبذل الوقت والنفس والمال وينفق الرخيص والنفيس لمحو مقومات الأمة واستئصالها، وفي مقابل ذلك لا نكاد نبذل شيئا يذكر لمواجهة حرب الاجتثاث، ولا نأخذ أهبة ولا نفاجئ خصما بضربة أو بصد عن هـجمة، مع العلم أننا محاسبون على التقصير في حق هـذه الأمة، بالقدر الذي نحن محاسبون به على التفريط في حق هـذا اللسان الكريم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. [ ص: 100 ]
التالي
السابق