- أولوية التراث
أولوية التراث، كوسيلة لتوليد المصطلحات الجديدة بتحري لفظ منه يؤدي معنى اللفظ الأجنبي أو يقاربه، أمر منطقي وبديهي، بخاصة في لغة كالعربية غنية بتراثها الفكري والعلمي وتجاربها الحضارية مما أتاح لها تراثا وحصيلة لغوية قلما تأتت لغيرها من اللغات. وبالفعل، فقد ساعد هـذا [ ص: 105 ] التراث منذ مطلع القرن التاسع عشر في إيجاد وصياغة الكثير من المصطلحات المقابلة لذاك السيل العارم من الألفاظ التي جوبهنا وما نزال نجابه بها، وهذا وضع لم يتسن للكثير من الناطقين بلغات أخرى.
لكن الإفادة المصطـلحية من التراث ظلت محدودة، فلم يفد منها عمليا إلا قلة من الرواد الذين تسنى لهم، إضافة إلى سعة الاطلاع اللغوي، سعة اطلاع في مادة التراث التي لها تعلق باختصاصاتهم؛ لأن سعة الاطلاع اللغوي في أقصـاها لا تتجاوز عادة مادة المعجم العربي؛ والمعاجم العربية، للأسف، لم تعر هـذه الناحية الاهتمام الذي نرى نحن اليوم أنها تستحقه. فالمعجميون العرب في محاولاتهم جمع اللغة، حتى في أوسعها، أهملوا جل ما اعتبروه منافيا لمفهوم الفصاحة الذي انطلقوا منه. فهم حصروا الفصحى زمانا بعصور معينة (ليس منها عصور الازدهار العلمي العربي) ، ومكانا بجماعات معينة (ليس منها جماعات العلم) ، فحرموا اللغة من الكثير الكثير من المصطلحات التي ازدهرت بها علوم العربية؛ بحجة أنها مولدة أو أعجمية أو دخيلة أو معربة.
ما من شك أن إمكانات التراث تظل محدودة على سعتها وأهميتها، لأسباب منها أن علوم العصر التي تجابهنا بالآلاف المؤلفة، بل بالملايين من المفاهيم والمصطلحات اللازمة لها، هـي مفاهيم علمية جديدة يكاد عمر معظمها لا يعود لأكثر من مئة عام؛ كما إن الكثير من المصطلحات التي يعمر بها التراث، في العلوم التقليدية، بخاصة، قد وضع لها اصطلاحات ترسخت على مدى عدة أجيال من الاستعمال، وقد لا يكون من السهل استيعابها لتنافس المصطلحات التي استقرت. لكن نقول: إن مصطلحات هـذا [ ص: 106 ] التراث يجب أن ترى النور؛ وسيكون فيها حتما الكثير مما يمكن الإفادة منه قياسا أو مجازا أو استعارة أو تحوير معنى؛ وكلها من وسائل توليد المصطلحات المتعارفة. كما إن المصطلح المتميز لن يعجز عن منافسة المصطلح الأسبق إن توافرت فيه خصائص الدلالة والدقة والرقة والعيوشية.
التالي
السابق