بين التعريب والترجمة إذا كان المرء لا يستطيع ادعاء لي أعناق أغلب التعالقات المفترضة بين التعريب والترجمة، فضلا عن بحث الأطراف والقواصي، فإن أفضل طرائق البحث في هـذا الموضوع التذكير بأن الترجمة تعد بوابة التعريب، وأن على المترجم أن يقف أمام النص المراد نقله موقف الناسك المتعبد، ويعقد معه صلات حميمة حتى يفتح له مغالقه، ويسلمه كنوزه وأثماره. لأجل هـذا حذر المنظرون للترجمة، منذ عهد
الجاحظ ، من الوقوع في حبائل هـذا الفن العلم، واشترطوا شرائط أكتفي منها بقضية استواء «اللسانين»
[ ص: 138 ] التي جعلها
الشاطبي فرض عين بالنسبة إلى المترجم، ولا سيما الدلالة اللغوية التابعة التي تستوجب أمورا عديدة عليها مدار الأسلوب،حيث يقول: «للغة العربية من حيث هـي ألفاظ دالة على معان نظران: أحدهما: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مطلقة دالة على معان مطلقة، وهي الدلالة الأصلية. والثاني: من جهة كونها ألفاظا وعبارات مقيدة دالة على معان خادمة، وهي الدلالة التابعة. فالجهة الأولى هـي التي يشترك فيها جميع الألسنة، وإليها تنتهي مقاصد المتكلمين، ولا تختص بأمة دون أخرى. فإنه إذا حصل في الوجود فعل لزيد مثلا كالقيام، ثم أراد كل صاحب لسـان الإخبار عن زيد بالقيام تأتى له ما أراد من غير كلفة. ومن هـذه الجهة يمكن في لسان العرب الإخبار عن أقوال الأولين ممن ليسوا أهل اللغة العربية وحكاية كلامهم. ويتأتى في لسان العجم حكاية أقوال العرب والإخبار عنها. وهذا لا إشكال فيه. وأما الجهة الثانية فهي التي يختص بها لسان العرب في تلك الحكاية، وذلك الإخبار، فإن كل خبر يقتضي في هـذه الجهة أمورا خادمة لذلك الإخبار، بحسب المخبر، والمخبر عنه، والمخبر به، ونفس الإخبار في الحال والمساق، ونوع الأسلوب من الإيضاح والإخفاء والإيجاز والإطناب وغير ذلك... وإذا ثبت هـذا فلا يمكن من اعتبر هـذا الوجه الأخير أن يترجم كلاما من الكلام العربي بكلام العجم على حال، فضلا عن أن يترجم القرآن، وينقل إلى لسان غير عربي إلا مع فرض استواء اللسانين في اعتباره عينا، كما إذا استوى اللسانان في استعمال ما تقدم تمثيله ونحوه. فإذا ثبت ذلك في اللسان المنقول إليه مع لسان العرب أمكن أن يترجم أحدهما إلى الآخر... »
>[1] .
[ ص: 139 ] انطلاقا من أن الترجمة أنواع، فهي تارة تحصيلية، وأخرى توصيلية، وثالثة تأصيلية، وهلم جرا من التسميات مثل: الترجمة العلمية ، والترجمة البيانية ، والترجمة الآلية ، والترجمة عن بعد ، والترجمة التعاقدية ، والترجمة المنـزلية ... فإن أغلب الذين خاضوا عباب هـذا اليم يحذرون من الترجمة والترجمان. فالترجمان أفعى ذات لسانين، والترجمة بمثابة قبلة من خلف حاجز زجاجي. لكن الترجمة عندما تكون أمينة تصبح مثل الخيول التي تنقل الحضارة، والجسور التي تجتازها الشعوب للتزاور والتعارف، وباب ندلف منه إلى معارف الأمم المتقدمة، لأجل إشباع الحاج الضرورية، وإثراء التجارب الحضارية للأمم الأخر. إنها محرض ثقافي يفعل فعل الخميرة بالأفكار الفطيرة، ناهيك عن دورها في إغناء اللغة بالاصطلاحات الجديدة، ومساعدتها على مد جسور التلاقح بين الأمم، أملا في انتزاعها من دهاليز العزلة، إلى دنيا العلم والمعرفة، كنتيجة لاعتماد خطة التقارض من الإنجازات الناجحة. يتضح من منطوق هـذه الأقوال أن التعريب ليس هـو الترجمة «لأن الترجمة هـي نقل الأفكار والمفاهيم من لغة إلى أخرى على أدق صورة، ودون تشويه المعنى. أما التعريب فهو الرجوع إلى اللغة القومية بالتفكير بهذه اللغة، والتعبير بها بالأساليب الصحيحة لحفظ أصالتها وخصائصها»
>[2] . الترجمة إذن عملية نقل المعرفة، علمية كانت أم أدبية، وعندما يلقى سؤال الغرض
[ ص: 140 ] من الترجمة: هـل لمجرد النقل فقط، أم للتلاقح مع الثقافة المترجم منها لتنمو الثقافة الأخرى وتزكو ثمارها، «وتصبح أكثر قدرة على الإسهام في الثقافة العالمية، وفي النهضة العلمية العالمية، فهذا هـو التعريب، إذن فالتعريب مصطلح يجب أن يطلق على ما نقصده من عملية الترجمة، وهو أن نجعل الثقافة العربية المعاصرة على المستوى المعروف عالميا، وأن نمضي بها قدما، بحيث نساهم في تقدم المعرفة الإنسانية بشكل عام»
>[3] .