موجبات التعريب
//14 أ- الموجب الديني
يعد تعلم اللغة العربية من إقامة الدين، ومعرفتها فرض عين؛ لأن القرآن والسنة لا يفهمان إلا بتعلم العربية، " وقد كتب
عمر رضي الله عنه إلى
أبي موسى الأشعري قائلا: «أما بعد، فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عربي».. " وفي حديث آخر " عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «تعلموا العربية، فإنها من دينكم " »
>[1] . لأجل ذلك انبرى الفصحاء البوازل إلى الدفاع عن العربية وصيانتها من تحريفات المضللين وأوهام الشداة المقصرين؛ لأنهم أدركوا أن قوة اللغة العربية وصفاءها وخلودها، إنما هـي صفاء لغة القرآن. ولقد ظل ارتباط اللغة العربية بالقرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة ثابتا كما ثبتت في الراحتين الأصابع. بل إن حركات التصحيح التي شهدتها العربية، سواء من حيث طرد بعض الألفاظ من حظيرة الفصحى أو تغيير دلالة ألفاظ أخر، ناهيك عن إضافة تعابير جديدة، بله المعركة التطهيرية التي تمخضت عنها ظاهرة اللحن، كان الغرض منها نشدان الفهم الصحيح لنصوص الدين. ولقد اكتسبت اللغة العربية الفصحى سمة القداسة من خلال
[ ص: 143 ] هـذا الارتباط، فأضحى الحفاظ عليها وصونها شكلا من أشكال الحفاظ على القرآن الذي تكفل رب العزة باستمراره لسانا عربيا مبينا لا تشوبه أي شائبة، كما ورد في قوله تعالى:
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9) ،
وقوله:
( قرآنا عربيا غير ذي عوج ) (الزمر:28) .
وقد أثمر هـذا الارتباط ثمارا موسقة نزلت على العربية فآتت أكلها بإذن ربها. فهذا
أبو جعفر النحاس يعرض لقضية إعراب القرآن، وذاك
الفراء يتناول معاني القرآن،
وابن قتيبة يفصل القول في تأويل مشكل القرآن، وآخرون يخوضون في إعجاز القرآن، وهلم جرا من الدراسات التي فازت بقدح القصل، إسوة بالرسول الكريم الذي كان يكره سمـاع اللحن، حيث لم يتردد عندما لحن بحضرته أحد الأعراب من قول:
( ارشدوا أخاكم فقد ضل ) >[2] داعيا إلى تعلم العربية وترك العجمة في قوله :
( من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية، فإنه يورث النفاق ) >[3] بل إنه - عليه أزكى الصلوات- غير أسماء بعض المسلمين رغبة منه في تزيين الاسم وإبعاد بعض الدلالات المنفرة مثل (مرة، وجهل، وحرب، وأصرم، وعتلة، وحباب، وعاصية، وجعيل...) وآية ذلك أنه كان مع المسلمين في أثناء غزوة الخندق رجل اسمه (جعيل) فأمر رسول الله أن يستبدل بهذا الاسم اسما آخر هـو عمرا كما يتوضح من تغني المسلمين بهذا الحدث في أثناء حفر الخندق:
[ ص: 144 ] سماه من بعد جعيل عمرا وكان للبائس يوما ظهرا
بمثل هـذه التوصيفات تقوى رصيد اللغة العربية، وتأكدت عزتها القعساء بين الأمم، عربية نقية صافية صفاء عين الديكة. فما بال أبناء العربية اليوم قد ازوروا عن إحكام نسج ثوبها القشيب، وتوطينها في النفوس، حتى كادت اللغات الأجنبية أن تزويها في حدود جد ضيقة، ناهيك عن وبال العاميات التي تصر على الإجهاز على ما تبقى من نصاعتها من خلال سعيها إلى قلب معانيها كما يتوضح ذلك من خلال هـذه اللفظة: (بدل واستبدل وتبدل) التي انتشرت عدواها من العامية إلى الفصحى في إطار ما يسميه علماء اللسانيات التطبيقية «التداخلات اللغوية» حيث نقول بالعامية: (بدلت أو استبدلت الدراجة بالسيارة) قاصدين أن المتروك هـو الدراجة. وقد درج كثير من الشداة المتفاصحين على نقل هـذه العدوى إلى الفصحى، بحيث لم يسلم من ارتكاب هـذا الفحش حتى الذين يعدون أنفسهم أمراء البيان، والذين يحاطون بهالة تجعلهم في معزل عن أي مغمز يهدد فحولتهم المزعومة. إن حاجتنا إلى التعريب دينية.. وإلا، كيف يمكن فهم كثير من الآيات الكريمات إذا جعلنا القواعد التي تحرس العربية وراءنا ظهريا؟ من يحوز شرعية حراسة العربية: هـل القواعد المقررة التي فرغ مـنها، بحيث لا يجوز إلغاؤها أو تفتيق بديل يناقضها، أم استعمالات المتكلمين التي هـوت بها أحراش اللهجات إلى دركات الجهل بخواص التركيب؟
[ ص: 145 ] أسئلة عديدة تتطلب الإجابة عنها الإيمان بمستقبل أفضل للغة عربية لصيقة بالكتاب والسنة، تحذوهما حذو النعل بالنعل، مع فتح الأبواب لكل جديد لايضر بالأصول. وهي أمنية غالية هـي منا على طرف الثمام إذا «تنبهت الإرادات العربية إلى أن هـذه اللغة الفصيحة هـي مساك الهوية العربية الإسلامية، وهي طوق نجاتنا المتبقي في خضم هـذا اليم الكوني اللجي الفاغر أشداقه للابتلاع والاقتلاع»
>[4] ورحم الله «الفريق المعلمي» عضو مجمع القاهرة حيث قال: أحمي حمى الفصحى وأفخر أنها لغتي بها جاء الكتاب المنـزل وبها أحاديث النبي المصطـفى وبغيرها القرآن لـيس يرتل
ب- الموجب القومي
تعد اللغة بمنـزلة الظل من الإنسان، فهي عنوان الشخصية القومية، ومكون مهم من مكونات الأمة.
[ ص: 146 ] إنها «صورة وجود الأمة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودا متميزا قائما بخصائصه، فهي قومية الفكر، تتحد بها الأمة في صور التفكير وأساليب أخذ المعنى من المادة.. والدقة في تركيب اللغة دليل على دقة الملكات في أهلها، وعمقها هـو عمق الروح ودليل الحس على ميل الأمة إلى التفكير والبحث في الأسباب والعلل، وكثرة مشتقاتها برهان على نزعة الحرية وطموحها، فإن روح الاستعباد ضيق لايتسع، ودأبه لزوم الكلمة والكلمات القليلة. وإذا كانت اللغة بهذه المنـزلة، وكانت أمتها حريصة عليها، ناهضة بها، متسعة فيها، مكبرة شأنها، فما يأتي ذلك إلا من روح التسلط في شعبها والمطابقة بين طبيعته وكونه سيد أمره، ومحقق وجوده، ومستعمل قوته، والآخذ بحقه، فأما إذا كان منه التراخي والإهمال، وترك اللغة للطبيعة السوقية، وإصغار أمرها، وتهوين خطرها، وإيثار غيرها بالحب والإكبار، فهذا شعب خادم لا مخدوم، تابع لا متبوع... لا يطيق أن يحمل عظمة ميراثه... وهو إذا انقطع عن نسب لغته، انقطع من نسب ماضيه، ورجعت قوميته صورة محفوظة في التاريخ، لا صورة محققة في وجوده، فليس كاللغة نسب للعاطفة والفكر... وما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار»
>[5] . يتبدى من خلال هـذه القولة أن اللغة العربية الفصحى هـي طوق نجاتنا في هـذا الزمن العولمي الجارف، وأنها هـي الكنـز الثمين الذي إذا لم يوجد من يعض عليه بالنواجذ، ويخلصه من عبث العابثين، فستمتد إليه الأيدي لتعكر صفوها، وتنفث فيها الألسن سمومها، وتشيع فيها البلبلة التي تفضي إلى سوء أحوال الأمة؛ لأن العبث باللغة يفضي إلى اضطراب الأذهان وفساد
[ ص: 147 ] المعاملات، بل إن هـوان اللغة القومية على أهلها يضع صوى ومنارات في الطريق للغات الأجنبية كي تقوم مقامها. وما ذلك إلا من تداني الهمم، وضعف الحمية، وخمود المنـزع القومي الذي تتبارى اللغات الأجنبية في الحرص عليه، إلى درجة أن أحد أعضاء مجلس النواب الأمريكي رفع عقيرته مرددا: «إننا نضع القوانين لمعاقبة المجرمين الذين يسـرقون ويقتلون، فلماذا لا نضع القوانين لمعاقبة الذين يفسدون اللغة»
>[6] .. أما الفرنسيون فإن لهم صولات وجولات في صيانة لغتهم التي بدأت الإنجليزية تمطرها بوابل من الاصطلاحات العلمية. هـذا هـو حال اللغات الأجنبية الذي هـو في تنازع بقاء لايفتر، رغم أنها تندرج ضمن الشجرة الواحدة، فماذا نحن فاعلون تجاه لغتنا التي لانستنكف من حشوها بجيش من الألفاظ والعبارات الأجنبية، التي لا تمت إلى عبقرية العربية بصلة، وإنما كان الكسل اللغوي الذي أصابنا هـو المسوغ الذي جعل الألسنة تعتورها على هـذه الشاكلة، رغم أن مقابلها العربي أشهر من القمر: البيداغوجي: بدل استعمال التربوي الميكروسكوبي: بدل استعمال المجهري، الكومبيوتر: بدل استعمال الحاسوب، الفاكس: بدل استعمال الناسوخ أو البريد المصور.
[ ص: 148 ] السيكولوجي: بدل استعمال النفسي، الساندويتش: بدل استعمال الشطيرة، أو طوروت: بدل استعمال الطريق السيار أوالطريق السريع، أو اصطلاح = الوخي الاستراتيجية: بدل استعمال الألب، الراديو: بدل استعمال المذياع. ما أكثر السهام الحوابة التي نطلقها في معاركنا اللغوية الصامـتة، وما أشد حيرتنا وتخبطنا ذات اليمين وذات الشمال، ونحن في نجوة عن هـذه الوضعية، التي تنطفئ فيها أمنيات العربية، لمجرد التهديد من كل بغاثة. وأي بطش لبغاثة؟ ألم يأن للذين يبصرون قحم الطريق أن يهدونا سبل السلام، بدل أن يتركونا في ملتقى النجدين تائهين وجلين؟ هـل يستطيع اكتساح اللغة الفرنسية في المغرب العربي، وبلاد الشام، واللغة الإنجليزية في بقية بلدان المشرق العربي، أن يطربنا بأزيز طائراته، وهدير مزمجراته، كما تطربنا دلالة هـذه الأمثال العربية المغرقة في البداوة، التي لم تستطع «العولمة» وزبانيتها أن تذهب بالنسغ واللثى الذي يسيل من أساريع شجرتها الوارفة الظلال؟ ألق السمع أيها العربي، ثم قارن أي التعابير قد أشبعت فيك حاجة نفسية تجد لها لذة لا تعدلها لذة. هـل قول: ترك له الحبل على الغارب، وأطلق له العنان، أم عبارة: أهمل فرملتها، وترك كباحتها هـملا؟ إذا كنت تطرب لهذا المثل العربي الذي مازال يحتفل بأدوات لم يعد لها حضور كثيف
[ ص: 149 ] في حياتك، ولا تعبأ كثيرا بالعبارتين الأخريين، فاعلم أن الانجذاب الذي انتابك بإزاء العبارتين يعود سببه إلى عبقرية اللغة التي أرضعتك بلبان أمنا العربية، وبمركبات أزاهيرها السحرية. أما النفور الذي تحسه بالنسبة إلى عبارتي الفرملة والكباحة، فإن مرده: النفور من ثقافة قارورات المركبات الصناعية التي يمكن تمتك شرابها وتلمظه عند الطلب، وبمجرد هـجئه، تتمرد على القارورة فتلقيها؛ لأن علاقتك بها ليست سوى علاقة بنوة مزورة، مثل شجرة السرو ليس لها رطب ولا جنى.
ج- الموجب الثقافي والحضاري
الثقافة هـي الخميرة التي تفضي عناصر تركيبتها إلى تحويل عجين العربية من فطير إلى خبز صحي، تظل أعين الأمة إليه روامق، وأسياف الأعداء عليه بوارق. إنها معسلة النحل المملوءة بخلاصة تويجات وأزاهير الأمة الذي يحوله دأب النحل إلى عسل فيه شفاء للناس. أما إذا أصاب النحل داء يقتل دأبه، فإن المعسلة تبقى مجرد مومات. ولقد تنبهت الأمة العربية الإسلامية إلى هـذه الحقيقة في سالف عهدها فصرفت سأوها إلى العلم والمعرفة، وكان سدم علمائها وخلفائها نقل العلوم والمعارف التي عند الأمم الأخر مثل
اليونان والفرس والسند والهند والرومان ، وتم هـذا النقل بوساطة الترجمة التي نشطت حركتها في عهد
المأمون حتى أصبح «بيت الحكمة» أشهر من القمر بالنسبة إلى ترجمة العلوم التطبيقية إلى العربية. ولم يمض وقت طويل حتى قام
الخوارزمي بوضع علم الحساب الهندي في قالب عربي، وتبعه
ابن ماسويه [ ص: 150 ] وحنين بن إسحاق في الطب،
وأبو الريحان البيروني ،
وحسن بن خصيب ،
وفضل بن حاتم في الفلك، وغيرهم. فأين الأمة الآن من الازدهار الثقافي الذي شهد به الأعداء؟ وهل استطعنا أن نواجه جيوش العولمة والأمركة بما واجهت به الحضارة العباسية ثقافة الأمم الأخرى التي صهرتها في كيانها، وتوسعت في دلالات الألفاظ العربية، مولدة ومشتقة ومعربة، حتى خرجت العربية مظفرة متوجة بأكاليل الظفر، تضع لكل علم اصطلاحا عربيا ملائما، وتستنكف أن تنطق أسماء المعارف التي ترجمتها بأسماء أهلها، لأنها تعلم أن البقاء على ما ليس منه بد يعد إهدارا لشخصيتها، وتساهلا يغري الأمم الأخرى بالزحف على لغتها رويدا رويدا حتى يصيبها في المقتل، إن استطاع الى ذلك سبيلا؟ هـل فهمنا هـذا الدرس، واستنفرنا جهودنا لإعادة مسرحة التجربة العربية الرائدة؟ لا شك أن «الأمة اليوم في مرحلة اختبار واختمار: اختبار لقدرتها على البقاء مع شدة البلاء، واختمار لقدرتها على تحمل البلاء من أجل البقاء. ولن يغنيها في الاختبار وعلى الاختمار»
>[7] سوى سن سياسة تعريبية ناجعة يقوم بها متنطسون أكفاء تجمعهم هـيئة عربية واحدة مثل مكتب تنسيق التعريب،
[ ص: 151 ] وتتوفر فيهم شرائط أهمها: الاختصاص في العلم والفن، والتضلع من الفصحى، ناهيك عن إتقان اللغات الأجنبية الغنية بالعلوم والمعارف. وما عدا هـذه الخطة، فلن يكون سوى جري وراء سراب وهم «العولمة» ، التي ضرب بسور بيننا وبين امتلاك نواميسها وأسرار عبقريتها، فبقينا منفعلين متلقين، ومستهلكين.
د- موجب التربية والتعليم
الحق الذي لا يمترى فيه أن الأبحاث العلمية والتربوية واللسانية تثبت أن هـناك علاقة بين امتلاك المعرفة وبين لغة التدريس، فالمتعلم الذي يتلقى المعرفة بلغته الوطنية يستوعب ما يتلقاه بسرعة، ويدمجه في منظومته المفهومية، ويستطيع أن ينقله إلى الآخرين نقلا غير منقوص. أما المتعلم الذي يتلقى المعرفة نفسها بلغة أجنبية، فإن مظهره العام يجلو ثلما وفجوات يحتاج رتقها جهدا مضاعفا. لذا فإن جودة التعليم مرهون باستخدام اللغة الوطنية، وإن تحقيق التقدم بمفهومه الشامل لن يتأتى أبدا لأي شعب من دون استخدام لغته الرسمية. فهل هـضمنا نحن –العرب- هـذه الحقيقة؟ هـل نحن مستعدون لتقبل بدهيات الأمور؟ إن استقراء واقع الأمم-ضعيفها وقويها- يوضح انتفاء أي مساومة في اسـتعمال اللغة الوطنية في التـعليم، فهي الرأسمال الضروري لتطوير العلم، كما أن العلم لا يمكن أن تزكو ثماره من دون اللغة. وتمكن الإشارة في هـذا الصدد إلى تجارب كل من
الصين الشعبية والعملاق الياباني وغيرهما من
[ ص: 152 ] البلدان التي شيدت نهضتها العلمية انطلاقا من مقوماتها الثقافية التي تمثل فيها اللغة النبع الصافي الذي يمد شجرة المعرفة بالأمواه الضرورية للنمو. وإذا ولينا وجهنا شطر الأقطار العربية، فإن واقع المسألة اللغوية يبدو مدلهما، قد عسعس فيه التردد المريب بالنسبة إلى الأطوار التعليمية التي يجب أن يشملها التعريب، ففي الوقت الذي عربت فيه
سوريا والعراق ومصر التعليم الجامعي، تصر البلدان العربية الأخرى على استعمال اللغات الأجنبية في الجامعة، أو في أحسن الأحوال، لا ترى بأسا في إدخال العربية إلى الجامعة، ولكن تشترط انزواءها في قطاعات محددة مثل: الدراسات الإسلامية، والفلسفة، والاجتماعيات، والآداب، أما القطاعات العلمية الأخر، فإن اللغات الأجنبية -الإنجليزية في المشرق، والفرنسية في المغرب- هـي صاحبة السيادة التي لا تفتأ تترك العربية على مثل مقرف الصمغة، فنتج عن ذلك تقلص ظل العربية وضمورها، حتى كادت أن تجمد الدماء في عروقها، رغم ما حباها به الله من ثراء معجمي. وقابلية في الاشتقاق، وقدرة على التوليد، ودراية بكل القواعد التي تكثر نسلها.
قال تعالى:
( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) (الكهف:109)
بل إن إصرار الغافلين من هـذه الأمة على ركوب هـذه السبيل الضالة المضللة، أفضى إلى اعتبار التعريب أداة إقصـائية في المجـتمع، حيث تسـد أبواب المناصب في وجـه المعربين، ولا يستفيدون من فرص الشغل المتاحة، التي يحتكرها المحظوظون الذين تلقوا تعليمهم الجامعي بإحدى اللغتين المشار إليهما.
[ ص: 153 ] وإذا أضفنا إلى هـذا المشهد المظلم، وضعية الكتب المدرسية العربية من حيث الإخراج، ومن حيث بناء البرامج، واستغلال الحوافز النفسية التي تساعد على اجتذاب الطلاب وتغريهم بالتعلم، «واختيار أنسب الطرق لترسيخ المعارف في الأذهان، فتلذ لديهم العربية كما يلذ أشهى مرغوب، وهم في ميعة شبابهم، وتصبح الصحة والإصابة في ما يكتبون ملكة راسخة في عقولهم، مع إشعارهم أن تعلم اللغة لا ينتهي فور مغادرة المؤسسة التعليمية، وإنما هـو سلوك ينمو وينضج تبعا لتعاقب الملوان، وفي مواقف حياتية تتسم بالتعدد...»
>[8] ، قلت إذا أضيف إلى كل هـذه المثالب تقصير المؤسسة التعليمية عن أداء دورها في صيانة العربية وتجديد ثوبها، ناهيك عن عدم توفر العربية -في وقتنا الحاضر- على الوسائل التقنية التي تتوفر عليها اللغات الأجنبية، حيث يحس دارس العربية أن لغته لم تدخل مجالات ترفيهية غزتها اللغات الأجنبية، ومن ثم يشعر بالرغبة في تجاوز هـذا النقص؛ الذي يزج به من دون شك في شرك هـذه اللغات، فإن تعريب التعليم الحق يملي علينا وضع الخطط، وبناء البرامج المغرية الشائقة، وتقديم المعارف في أطر فنية مشبعة لنهم المعرفة، وتحديد كمية المعارف الملائمة لكل مرحلة، ناهيك عن اعتماد التدرج الدقيق الذي لا يقصر عن الدقة ذاتها؛ التي تعتمدها وكالات الفضاء في أثناء صناعة السفن الفضائية، وبذلك نستطيع أن نضمن إقبال المتعلميـن على برامجنا باللغة العربية، تماما كما يقبلون على دروس تمارين الرياضة البدنية.
[ ص: 154 ] هـ- الحاجة إلى صيانة الاعتزاز بالعربية /14
في عالم التكتلات الدولية الكبرى وانتشار وسائل الإعلام التي تلتقط الصورة التقاطا حيا من كل مكان، من دون أن يكون لأحد سلطان على حركة انتشارها ورواجها، أضحى من الواجب على الأقطار العربية:
أولا: إنتاج المعلومة الملائمة في أسرع وقت، وقد لاحت تباشير هـذا الفتح من خلال الفضائيات العربية الملتزمة بالقضايا العربية..
وثانيا: مضاعفة الجهد على صيانة الهوية العربية الإسلامية التي يسعى الأعداء إلى تشويهها. ويجب أن تركز هـذه الصيانة على الإشباع القيمي لفئة الشباب، وبعث روح التميز لديهم من خلال تخطيط برامج تعليمية تنمي لديهم حب الوطن، وتغرس في نفوسهم الاعتزاز بالعربية، وبوحدة الأمة ومصيرها المشترك، وتذكي في نفوسهم روح المبادرة، وتشجعهم على التمسك بالإنسية العربية، وتحبب إليهم التطبع بالقيم النبيلة والدفاع عنها، من خلال اعتبارها الملاذ الوحيد للحفاظ على التميز في عالم منفتح لا يؤمن بالضعيف. أما أم المعارك التي يجب على نابهة الأمة أن تخوضها في هـذا الباب، فهي الحرص على محاربة مركب النقص تجاه كل ما هـو عربي، حيث غلبت على شبابنا وشيوخنا وكهولنا النظرة الاستصغارية تجاه كل ما هـو عربي، حتى أن بعض مصانعنا تستنكف من كتابة العربية على منتوجها الذي تصدره إلى
[ ص: 155 ] الأسواق العربية، وتستبدل بالعربية لغة أجنبية أخرى. وما ذلك إلا من تداني الهمم، والسقوط في مهاوي الاستهانة بالإنسية العربية؛ ومن ثم الحرص على طلب العزة عند غيرنا، والتعلق بأذياله. إن الاعتزاز بالعربية لغة يوفر القاعدة المشتركة الروحية والثقافية والاجتماعية التي تجعلنا قادرين على مواجهة الهجمة الشرسة التي تهدد وجودنا الحضاري. إن الضياع النفسي الذي يحسه أبناء الأمة، ليس له من دواء سوى التمسك بالقيم النبيلة التي أودعها رب العزة في قرآنه، وبذلك وحده لن نحـتاج إلى التسـول لامتلاك ما في يد (الآخر) ، لأنه لن يعطينا إلا الفتات وخشارة المائدة التي تطيل زمن رقنا وعبوديتنا. فيا أولي النهى اعملوا على استرجاع مصداقية الكيان العربي، واحرصوا على اجتثات الأحراش التي تشكك في الهوية العربية لصالح ولاءات؛ لن تجـني منها الأمة لا رطبا ولا جنى. إن أي تأجيل لهذه الأسبقيات، لا يعني إلا التأخر في ميدان المغالبة الذي رفعت الدول العظمى سيفه على المستضعفين، الذين لن تعترف بهم جيوش «العولمة» المارقة.
[ ص: 156 ]