الأبعاد الاجتماعية لمهارات الاتصال
الهدف من إتقان مهارات الاتصال أن يعد الإنسان نفسه للحياة، ولا يكون الإعداد للحياة وافيا وكافيا ما لم يتم التدريب على مهارات الاتصال باللغة، مقروءة أو مسموعة أو مكتوبة. فاللغة أداة الاتصال الأولى، بعد أن كان الصوت والإشارة أداتي الاتصال قبل نشوء اللغة.. وبنشوء الكتابة واختراع الطباعة وازدهار وسائل الاتصالات الحديثة غدا الاتصال التقني بوسائله الجديدة ( الهاتف ، والمذياع ، والتلفاز ، والناسوخ ، والأقمار الصناعية ، وشبكات الإنترنت ) أبرز ظاهرة عالمية حديثة.
ويعتمد إنجاز هـدفك من الاتصال على مقدار مهاراتك في إتقان عمليتي الإرسال والاستقبال، فإذا أتقنتهما فإنك على الأغلب ستؤثر في (الآخر) وتقنعه بوجهة نظرك، وخاصة إذا كانت أدواتك التعبيرية
[ ص: 41 ] مؤداة بأسلوب جميل يناسب مقتضى الحال، ويلائم طبيعة الشخص المقابل، وينسجم مع طبائعه ومع ما في نفسه من رغبات وأهداف.
فإذا أدركت ما يريد (الآخر) وكنت مطمئنا إلى ما تريده أنت، فما عليك إلا أن تستدرج محاورك إلى الاقتناع برأيك عن طريق اهتمامك برأيه واحترام رغباته، فالإقناع «هو الجهد المنظم المدروس الذي يستخدم وسائل مختلفة للتأثير في آراء الآخرين وأفكارهم، بحيث يجعلهم يقبلون ويوافقون على وجهة النظر في موضوع معين.. ويكون الإقناع مباشرا وغـير مباشـر، فأما المباشر فيخاطب الفرد أو الجمهور بشكل تلقائي دون مواربة، وأما غير المباشر فيكون في العادة متواريا، ولكنه يدفع المتلقي إلى استنتاج الأمور بنفسه واتخاذ القرار من تلقاء نفسه، فيشعر بالرضا والراحة النفسية»
>[1] .
ويكون الاتصال إما ذاتيا، وهو عملية تتفاعل وتأخذ مكانها داخل المرء نفسه، فهي إذن عملية شخصية بحتة يتم فيها مخاطبة الإنسان لذاته، كإمعان النظر في العمل، أو بمحاسبة أنفسنا بعد حديث مع شخص عزيز علينا، أو في التفكير في أمر سنتخذ فيه
[ ص: 42 ] قرارا، أو تهيئة أنفسنا للقاء
>[2] ؛ وإما خارجيا مع شخص، فيكون الاتصال مباشرا بالحواس الخمس والعقل والوجدان، وهو أوسع أنواع الاتصال اليومي وأهمها. أما نوع الاتصال الثالث فهو الاتصال بالجمهور، ويكون من فرد إلى مجموعة أفراد، كالخطابة أو الحديث الإذاعي أو المتلفز أو حديث المعلم لتلاميذه وغير ذلك من أشكال الاتصال بالجماهير.
وقد تتداخل أنواع الاتصال المذكورة في وقت واحد، فيكون الإنسان مخاطبا نفسه وغيره في أثناء الحوار أو الكتابة ولا سيما الكتابة التأليفية.
ويمكن أن أعتبر طرائق الاتصال بالآخرين علما قائما بذاته، وطرائق الاتصال إذا لاقت لدى طالبها ما يعززها ويوسع آفاقها ويمنحها أصالتها ومعاصرتها غدت مهارات تجعل من صاحبها إنسانا ناجحا ومتميزا، محققا أهدافه بيسر وجمال.
فطرائق الاتصال بفروعها الأربعة، الاستماع والتحدث والقراءة والكتابة، تحتاج من طالبها إلى أمرين اثنين جامعين هـما: الطبع والصنعة.
[ ص: 43 ]
أما الطبع فما كان لدى الشخص من موهبة مجبولة فيه، أي الاستعداد الشخصي الفطري.
وأما الصنعة فهي ما يكتسبه الشخص من علوم ومعارف ينالها بالدراسة والإطلاع والمثابرة على اكتساب أصول هـذا العلم وفصوله. فالطبع وحده غير كاف وإن كاد يشارف خبرة الصنعة، والصنعة وحدها غير كافية وإن كانت تتدانى بعفويتها إلى الطبع. بيد أن الكمال يكمن في أن يكون طالب علم الاتصال مطبوعا ومصنوعا في آن معا، وذلك قمة التأهيل الشامل لإتقان هـذا العلم الاجتماعي القديم المتجدد، الذي له شواهده وملامحه وركائزه في نصوصنا الدينية والتاريخية والأدبية، وفي مجموع موروثنا العربي القديم.
فأنت ملاق في القرآن الكريم كل ما يفصح عن عبقرية النص القرآني في توصيل المعنى باستخدام طرائق الاتصال الأربع، على اختلاف حضورها. وأنت ملاق كذلك نماذج رفيعة من فنون الاتصال في سـير الصحابة والتابعين والولاة ونخبة من عامة القوم، كما أن تجليات فن الاتصال تبدت ساطعة في النصوص والمواقف الأدبية والاجتماعية التي ورثناها عن السلف.
الحياة شبكة واسعة من العلاقات النفعية المتبادلة، ولغتك وسيلة إيصال فكرك، لا، بل هـي فكرك نفسه، فأنت إذا تواجه الحياة باللغة
[ ص: 44 ] المفكرة وبمهاراتك في توصيلها واستقبالها. فالإنسان الناجح يتصالح مع نفسه أولا فيعرف ما يريد وما لا يريد، فيقوم بعد ذلك بالتوفيق الممكن بين إرادته وإرادة (الآخر) ، وبذلك يستطيع أن يبلغ ما يمكن أن نسميه «تسويق الذات» .
وتسويق الذات بدلالته الاجتماعية يعني أن تكون «فنان حياة»، ذا دراية واسعة بعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأخلاق، وعلم نفس اللغة الذي يعد أهم مرتكزات مهارات الاتصال؛ لما يوفره لك من ذخيرة معرفية بكيفية انتقاء المفردات والتراكيب والأساليب البيانية في التعبير، ومعرفة أنسب مداخل الكلام ومخارجه، يزاد على ذلك حسن توقيتك في كل ما تقوم به من اتصال مع (الآخر) .
وعليه؛ فإن إتقان مهارات الاتصال يصقل القدرات الأربع (الاستماع والقراءة والكتابة والتكلم) ويجعلها مؤهلة للتأثير الفاعل في غيرها، فمن أي الأركان نظرت إلى مهارات الاتصال فهي قدرات شخصية خالصة تتأتى لطالبها بالمران والدربة وتعزيز الموهبة إن وجدت. ولما كانت موهبة مهارات الاتصال أمرا استثنائيا، فإننا والحالة هـذه عامدون إلى مضاعفة الجهد في تنمية مهارة اكتساب فن الاتصال بالدرس والممارسة والمحاكاة والتجريب والتطبيق.
[ ص: 45 ]