ثانيا: أدبيات الاستماع
ربما تكون مهارة الاستماع من أصعب مهارات الاتصال. فمهارات التكلـم والقراءة والكتابة تتم بقصد وبغير قصد، وبتخطيط وبغير تخطـيط، في حين أن المرء يسـمع يومـيا ما يريد وما لا يريد، وما يعنيه ومالا يعنيه، فيهتم بما يهمه ويدع مالا يهمه، إلا أنه في الحالتين مارس السمع والاستماع.
ولعلنا لا نتعسف حين نفرق بين السمع والاستماع، فالسمع من الحواس الخمس، وهو وظيفة طبيعية تقوم بها الأذن، أما الاستماع فهو مهارة تحليل ما نسمعه، واتخاذ موقف ما، فهو يعتمد على الاستيعاب والتركيز والتفكر في ما نقلته إلينا الأذن، فالسمع أداة الاستماع. بيد أن الاستماع محكوم بعمليات عقلية مختلفة أهمها الفهم والتحليل والاستنتـاج والتمييز، وتتم هـذه العمليات فور الاستماع وبعده. لذلك تحتاج مهارة الاستماع إلى ذهن صاف قادر على الإدراك والربط والحفظ والتلخيص.
على أن للاستماع أدبيات أساسية لا مناص من التدرب عليها، فهي تتأتى بالمراس والتمرين والتعود، وأهمها:
[ ص: 114 ]
- تهيئة الذهن للتلقي، وذلك بإقصاء ما يشغله أو يشتته من أفكار جانبية لا علاقة لها بالمادة المسموعة.
- الشعور بأهمية النص الملقى على السمع، فذلك مما يحفز على حسن الإنصات.
- اتخاذ الجلسة أو الوقفة المناسبة في أثناء الاستماع، فبعض أوضـاع الجلوس، أو الوقوف تشتت التركيز.
- الامتناع عن القـيام بحركات يدوية أو رجلية يمـكن الاستغناء عنها، وذلك كي لا تفوت عليك الفرصـة في ملاحقة دقائق صغيرة مما يلقى عليك. فمن ينظر إلى مجالس المسئولين الكبار واجتماعاتهم وندواتـهم ومؤتمراتـهم يجد كيف يضـع المسئول يده اليسرى أو اليمنى على ركبته أو جنبه، وأحيانا يضع إحدى راحتيه فوق الأخرى، وذلك إشعارا للآخر بالاحترام والمواجهة الملتزمة بآداب الجلوس.
- التوجـه بالنظر إلى الملقـي، قارئا كان أم خطيبـا أم معلما أم متحدثا أم محاورا، فذلك مما يشعره باهتمامك واحترامك لما يقول، ويدفعـه إلى الاسـتمرار في تواصـله بوجـدان يقظ وروح عالية وهمة جادة.
[ ص: 115 ]
- تجنب مقاطعة المتحدث في أثناء حديثه، ووطن نفسك على الصبر ومراجعة مداخلتك مرارا إلى أن ينتهي من حديثه.
- تعود احترام آراء الآخرين مهما خالفوك في الرأي، ففي آرائك أيضا ما لا يروق لهم، لأنك في النهاية آخذ بما أنت مقتنع به ومطمئن إلى صوابه، يضاف إلى ذلك أن الاستماع الجيد لوجهة نظر (الآخر) يجعلك قادرا على التمـييز الدقيق، فإما أن تزيد تعـلقا برأيك، وإما أن تعـدل أو تصحح من وجهات نظرك.
- إذا كنت مسـتمعا لمـادة علـمية أو أدبـية تلقى عـليك من المذياع مـثلا، فحاول أن تناقش وتتأمل ما سمعت، ثـم لا بأس أن تدون ملخصـا في ما اسـتمعت إليه، فقد تدعوك الحاجـة إلى العودة إليه.
- إن مهارتي الاستماع والتكلم مقرونة إحداهما بالأخرى، فأنت حينما تستمع فإنما أنت أمام متكلم، وكذلك عندما تتكلم فأنت أمام مستمع. وعن طريق إتقان مهارتي الاستماع والتكلم تنشأ قدرتك على الحوار وتتقوى عزيمتك وخبراتك على المحادثة، وفن الخطاب.
[ ص: 116 ]
والمتلقي المستمع ذو ثلاثة مستويات:
1- سامع عادي، يتلقى المادة المسموعة فيأخذ منها ما يريد في وقت وجيز ولا يعني نفسه بتحليل ما سمع، وربما وصل السامع العادي إلى مسـتوى السامع الساذج الذي تلتقط أذنه الكلام وتقذف بـه دون اهتمام.
2- مستمع يتلقى ما يسـمع فيتذكره، ويحلله ويقـلبه على غير وجه، ويئولـه فيفسر ويستنتج ويصـل إلى أحـكام واضحة لها سمة التقويم.
3- منصت يؤدي ما يفعله كل من السامع والمستمع، ويضيف إلى ذلك مهارة خاصة في استيعاب المادة المسموعة ونقدها أو تشربها بعمق، فهو مستمع مبدع مثل القارئ المبدع، الذي يفوق القارئين العادي والناقد. والإنصـات أرفع درجات الاستماع، وهو تأمل كامل بالمسموع، يديره العقل والقلب والوجدان وسائر أنشطة التفكير القلبي.
وإذا تأملنا قولـه تعالى:
( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) (الأعراف:204)
نقف على دلالات الإنصات ونعرف أن السمع بدرجته الأولى لا يكفي لتدبر النص
[ ص: 117 ] القرآني المسموع ولا بد من الإصغاء والاستماع والإنصات بكامل الجوارح والمدارك، فالآية تشير إلى المستمع المبدع أو المنصت.
وليس المقصود من مهارة الصمت أو الاستماع ذلك الصمت الطبيعي التلقائي، إنما الصمت المفكر المتأمل الذي يقصد الروية قبل الكلام، أو الصمت الفلسفي العميق في قراءة ظواهر الخلق والتكوين، «فالصمت ماهية أصيلة للجوانية والحياة الباطنية، والذين يعرفون كيف يصمتون هـم وحدهم القادرون على الكلام بشكل أصيل»
>[1] .
ولا شك أن «كيجورد» هـنا يعني الصمت الواعـي القادر على تحليل ما يسـمع، وليس الصـمت المتحـقق عن عجز في الكلام وتحليل الرؤية.
ويبدو أن «كيجـورد» كرر رأي عبدالمـلك بن مروان في مسألة الكلام والصمـت حين قال: إن من تكـلم فأحسـن قدر أن يصمت فيحسن، وليس من صمت فأحسن قادرا على أن يتكلم فيحسن
>[2] .
[ ص: 118 ]
غير أن سـوء الاستماع يبلبل أفكارك ويشتتها ويوقعك في خلط المعاني وتشـتيتها، فمثلما تحب أن يقبل عليك مستمعك بوجهه وانتباهه، أنصـت لمحدثك لتتدبر ظواهر كلامه وبواطنه، فتبلغ هـدفك.
ولعل كتاب (الإنصات فهم ماوراء الكلمات)
لمادلين آلين وانطـوانيت لوشا من أهم الكتب التي حـللت أبعاد الاستماع بصفته مهارة الاتصـال الأهم، فعرف الاتصـال وأشار إلى أسـلوبه وإلى الحواجز بين المسـتمع والمتحدث، وركز على الانصات الذاتي للنفس، وأبان أفضل السبل في جذب المستمع إلى المتحدث، ثـم ناقش في الفصـل السـابع الأخير مسـألة الإدراك الحسي، وماذا يدرك العقل، وكيف تعمل الانطباعات الأولى في الاتصال، وقدم نموذجا للاتصال يحتوي على مجموعة من الأسئلة للمستمع والمتحدث.
>[3] [ ص: 119 ]