فن الاتصال (مقترحات وتوصيات عامة)
اعلم أن صدق اتصالك بالله سرا وعلانية هـو سبيلك الآمن والمأمون لصدق اتصالك بالحياة الدنيا، فإن امتلأ قلبك وعقلك بحب الله وتقواه وشكرانه عظم إيمانك به هـاديا لك في ما يصدر عنك من قول أو فعل أو شعور.
فالإيمان جوهر كل طمأنينة، فإذا اطمأننت بنور الله فيك تطهرت جوارحك وحواسك ولا سيما عينك وأذنك ولسانك. وستنتقل عينك من مهمتها الباصرة إلى مرتبة البصيرة النافذة، وسترقى أذنك بوظيفتها السمعية إلى مستـوى الاستماع الذكي بالقلب والعقل، وسيهتدي لسانك إلى درجة محمودة من القول الحكيم.
واعلم أن حواسك وجوارحـك إنـما هـي آلات تنفـيذية تنجز ما تملـيه عليها إرادتك الذاتية الصادرة عن نفسك، قلبا وعقلا، فإن لم تكن متصالحا مع نفسك فكيف ستقيم مع الآخرين اتصالا ناجحا؟
إن بعدك عن مـكاشفة النفـس لتعرف مالك وما عليك هـو شـكل من أشـكال الموت الخفي، إني أعـيذك من أن تكون ميتا [ ص: 131 ] في الحياة. فعد إلى نفسك -يا رعاك الله- لتحاورها وتعاتبها وتنقيها من الشوائب والأتربة، فبذلك تقوى شخصيتك وتصقل، وتتحصن استعدادتك الفطرية والمكتسبة، وتسير واثق الخطى إلى مبتغاك، وستبلغ –إن شاء الله– مشارف المنهج الجمالي، وستكون عند الله راضيا مرضيا، وعند الناس رائدا محبوبا.
أما وقد حسن إيمانك، وتمكنت من التفاهم مع نفسك، فهذه طائفة من المقترحات والتوصيات التي تعينك على إتقان مهارات الاتصال، وسيلتك الأولى لإتقان فن الحياة:
- وطن نفسك على اكتساب حصيلة لغوية تكون مئونة اتصالية كافية من مفردات وتراكيب وعبارات. واحرص على سلامة لغتك، نحوا وصرفا وإملاء وحسن أداء وتعبير، إن أنت كتبت وإذا نطقت، فلسانك السليم الجميل مدخلك إلى عقول الناس وقلوبهم.
- تعود قراءة القرآن الكريم، صمتا وجهرا، بتدبر وأناة لكي يستقيم لسانك وتغنى لغتك ويصلح فكرك، ففي كتاب الله خزائن متجددة من المعارف والعلوم وأساليب الاتصال.
- استنر بأساليب الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا وحكمة وبراعة صياغة، فأنت ملاق فيها فنا ملهما من الاقتصاد اللغوي والتصوير الفني المعبر عن مواقف الحياة خير تعبير. [ ص: 132 ]
- تمون بموفور من الشعر العربي الفصيح، فهو وسيلة ناجحة إلى استقامة لغتك، وتدريب ملكة خيالك، وصقل تذوقك الأدبي.
- استشهد في كتابتك وفي نطقك بالحكم الرفيعة، والطرائف الملائمة، والأخبار التاريخية، وبالمواقف القديمة والحكايات ذات العلاقة بغرضك التعبيري، فإن الحكم والطرائف أسانيد الرأي تقع في نفس المتلقي موقع البهار الجيد من الطعام.
- تحر دقة التعبير في اتصالك، واستخدم الأساليب اللغوية المناسبة للإفصاح عن الحقائق وظاهر المعنى إن كان موقف الاتصال يحتاج إلى المنطق أو يعبر عن قضايا علمية خالصـة، واجتهد في أن يكون كلامك أو كتابتك على جمال صياغة أدبية، إن كان موقف الاتصال يتطلب حضور الوجدان والمشاعر والتعبير عن أحوال النفس، بهجة أو حزنا.
- انهل من علوم النفس والاجـتماع والسياسة والاقتصـاد ولو قليلا من كل علم، أي (من كل بحر قطرة ومن كل روض زهرة) فإنما حصيلتك الثقافية المعرفية مؤازرة لك في دعم رأيك وغرضك من الاتصال. [ ص: 133 ]
- تهيأ للموقف الاتصالي قبل مباشرته، ويلزمك لذلك تخطيط أفكار الموضـوع، وترتيب أولوياتها، وتدرج من الأهم للمهم في تنسيق مدروس.
- تعرف الفروق الدقيقة الفاصلة بين مبادئ (المجاملة، والديبلوماسية، والنفاق) . فالمجاملة فضيلة منشودة، تحبب الناس بعضهم ببعض.. وتكون المجاملة بإلقاء التحايا وبشاشة الوجه عند الحديث، والنظر إلى مكلمك باهتمام، واحترام رأيه حتى ولو كان مخالفا رأيك، أو بإضفاء عبارات التكريم والتقدير في رسائلك الشخصية، فللمجاملة حدود وآداب تعرفها في الممارسة، ويستشعرها عقلك وخبرتك وقلبك، وبخاصة عندما يكون موقفك الاتصالي مع من هـم أكبر منك سنا وأوفر علما وأسمى مكانة.
أما الديبلوماسيـة، فهي درجة عالية من درجات المجاملة، تصيب فيها حاجتين: الأولى طمأنينة من تتصل معه وحسن استقباله لك، والثانية تيسير سبيل مهمتك في ألفة منسجمة مع المبادئ العامة للفن الديبلوماسي القائم على علاقات متعارف عليها، وأصبحت من ضمن ما يسمى [ الإيتيكيت ] أو [ البرستيج ] شريطة أن لا تتنازل عما يسيء إلى عقيدتك أو أمتك أو شخصيتك. فأنت هـنا تعتمد المرونة الذكية الحذرة. [ ص: 134 ]
وأما النفاق الاجتماعي، فهو الوجه الخشن الرديء للمجاملة، يحط من قدرك، ويرفع قدر أناس قد لا يستحقون مدحك وثناءك. والفرق بين المنافق (المرائي) والمجامل الجيد أن المنافق يبالغ في مدحه الرجل فيحسن القبيح فيه.
فاعلم أن الذي يتقبل منك النفاق إنما يسر لك التحقير والمذمة ويظهر لك السرور والرضا. فأنت بالنفاق لا تحترم نفسك فكيف تريد من الآخرين أن يحترموك ؟ وإذا احترموك فهو احترام زائف كاذب يعود عليك بسوء العاقبة. فاعرف -وفقك الله- حدود كل من المجاملة والديبلوماسية والنفاق الاجتماعي.
- الوعد عقد معنوي بين الناس، فلا تخن أمانة العقد بإخلاف المواعيد؛ لأن خلف الموعد ليس من شيم المؤمن، فهو يغيظ الموعود، ويلحق الضرر بوقته وبجدول مواعيده، وربما يعود الضرر عليك كذلك، وإذا اضطررت لنقـض الوعد فلتجتهد في إبلاغ الموعود بذلك قبل زمن الموعد، وإذا لم تقـدر فليكن اعـتذارك له جـميلا وافيا كي تدوم ثقة المتصلين بك.
- جميل أن تبدو مع شريكك في الاتصال واثقا من نفسك، ولكن إياك أن تبلغ الثقة بنفسك درجة الغرور والغطرسة والزهو [ ص: 135 ] الكاذب، فذلك مما يكرهه الناس فيك. فالتواضع فضيلة تحبب الآخرين فيك وتقربهم منك، شريطة أن لا يقودك تواضعك إلى المسكنة والمذلة. فإذا تواضعت بذل نال منك السفيه وجرؤ عليك الخسيـس، إن التواضـع المتذلل لا يكون إلا لله، لأن الله يرفعك، أما العبد فيشمت بك ويخس من قدرك. لذلك تجنب أن يحس المتلقي بأنك دونه في المكانة أو أعلى منه كذلك. ولكل مقام مقال.
- من الحميد أن تعتز بعقيدتك ووطنك وأمتك وحضارتك، فذلك مدعاة لأن يحترمك الآخرون، ومصدر قوة لشخصيتك، بيد أن الاعتزاز الفائض عن الحاجة قد يصل بك حد التعصب والانغلاق، وحاشاك أن تقع في العصبية المقيتة أو الإقليميـة الضيقة أو العنصرية الممجوجة، أو الفئوية المغرضة، فأكرمنا عند الله أتقانا، وأدنانا منـزلة وقربا يوم القيامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاسننا أخلاقا.
- يحسن بك أن تتزود بالثقافة والمعلومات والمعارف اللازمة لموقف اتصالك أو المتوقع المرور بها، فأنت بسعة اطلاعك على الخفايا والظواهر تأمن الوقوع في أخطاء تحذر منها.
- لا بأس أن تتدرب على الكلام والحوار والمناقشة وفن الكتابة وأدب الاستماع في بيتك وبين المقربين منك، وبينك وبين نفسك، [ ص: 136 ] كي تتحصل على الدربة التي تزيـد من دافعيتك وخبرتك ومقدرتك على الاتصال الناجح.
- إن مرونتك في الاتصال وحلمك ورحابة صدرك وسعة أفقك ومهارة استيعابك لطبائع الآخرين فضائل ضرورية، تسنـد مهمتك، وتيسر لك سبل نجاح اتصالك.
واعلم أن كل ما ذكر سابقا من مقترحات ووصايا إنما هـي في كفة، واطلاعك الواسع الدءوب على مهارات الاتصال الأربع وأدبياتها في كفة أخرى، فاحرص على هـذا الميزان العادل، ولا بأس أن تتزود بمهارات استخدام اللغة الإشارية (لغات الجسد) : لغة العيون، ولغة الأصابع، ولغة البسمة، وسائر فنون الإيماء.
واعلم كذلك أن حسـن الهيئة، والهندام، والظهور بمظهر الوسامة والأناقة، واتخاذ اللباس المناسب للموقف الاتصالي المناسب، وخاصة في المحاضرات والندوات والاحـتفالات والحوارات ومجالس النقاش، مما يدفع الآخرين إلى حسن الاستماع لك، ويحفزهم على الاهتمام برأيك.
والله أعلم. [ ص: 137 ]
السابق