مقدمة:
لم يكن الإنسان في أي مرحلة من مراحل تاريخه بعيدا عما يمكن اعتباره ممارسة لعملية التفكير والحوار مع (الآخر) ، واستخدامهما في التغلب على مشكلات الواقع الذي كان يعيش فيه، وذلك بدءا من العصر البدائي، وحتى مجيء الإسلام.
فعاشت الإنسانية تطبيقا لما أنتجته قريحة المفكرين والعلماء على مر العصور، وهو ما عرف اصطلاحا بـ: « الحضارات »، تلك التي تنوعت بحسب المكان والزمان، وتدافعت تطبيقا لسنة الله في أرضه:
( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ) (البقرة: 251) .
فسنة الله اقتضت أن يكون لبعض الحضارات السئدد الحضاري في مقابل خمود البعض الآخر، وذلك لفترات زمانية محددة، ثم تتبدل الأدوار... وهكذا، مع الأخذ في الاعتبار أن سنة الله «التدافعية» اقتضت أيضا -لكي تتحقق- أن تشكل الحضارة الإنسانية في مجملها سلسلة مشتركة الحلقات بين الأمم، بحيث تحمل كل حضارة بين طياتها مبدأ الأخذ من سابقتها، والعطاء للاحقتها. وبذلك تتحقق منظومة «التكامل» الإنسانية.
وتمثل الحضارة الإسلامية حلقة مهمة جدا -إن لم تكن أهم الحلقات- في سلسلة الحضارة الإنسانية، التي لا يمكن أن يكتمل بناؤها بعيدا عن أسس ومبادئ تلك الحضارة المجيدة.
[ ص: 29 ] ومن هـنا تأتي هـذه الدراسة في «الحضارة الإسلامية» مركزة على معظم العلوم التي سادتها، وأثر تلك العلـوم في الحضارات الأخرى، أو (الآخر) . وفي هـذا السبيل تحاول الدراسة أن تجيب عن مجموعة من التساؤلات تمثل فرضياتها الرئيسة؛ هـي:
- هـل شهد المجتمع العلمي الإسلامي اهتماما بالعلوم إبان ازدهار حضارته؟
- ما طبيعة العلوم في البيئة الإسلامية في بداية نهضتها العلمية؟
- كيف تعامل العلماء مع تلك العلوم التي انتقل معظمها من الأمم الأخرى ؟
- هـل استطاع هـؤلاء العلماء أن يبتكروا علوما جديدة لم تكن موجودة لدى أسلافهم؟
- هـل قدم العلماء العرب والمسلمون إضافات أصيلة في العلوم التي بحثوا فيها، عملت على تطورها وتقدمها، وأثرت في الحضارة اللاحقة، وفي بقية الإنسانية عموما، أو (الآخر) ؟
أسئلة منهجية وجوهرية تحاول هـذه الدراسة الإجابة عنها، وذلك من خلال تقسيم موضوعاتها بعد هـذه المقدمة إلى ما يلي:
الفصل الأول:
الخوازمي أنموذجا للعلوم الرياضية. وفيه بدأت بموجز عن حياة الخوارزمي وتكوينه العلمي، ثم وقفت بصورة موجزة على التطور العلمي والتاريخي للرياضيات، وذلك لكي أقف على أبعاد الإنجاز الذي تم على يد الخوارزمي باعتباره أهم وأكبر علماء الرياضيات المسلمين. وبعد
[ ص: 30 ] أن تعرضت لأهم إنجازاته الرياضية حاولت بيان أثر هـذه الإنجازات في اللاحقين وفي (الآخر) .
الفصل الثاني:
جابر بن حيان أنموذجا لعلم الكيمياء، بدأت الحديث فيه عن نشأة
جابر ، وأثرها على توجهه العلمي، الأمر الذي قادني إلى الوقوف على البنية المعرفية في فكره، وأثر (الآخر) فيها، وكذلك بنية المدرسة العلمية التي شكلها جابر. ثم أفردت بقية صفحات الفصل للحديث عن منهج البحث العلمي عند جابر، وكيف استطاع بتطبيق ذلك المنهج أن يصل إلى إنجازات علمية مهمة، كان لها أثرها الكبير في اللاحقين، وفي (الآخر) .
الفصل الثالث:
أبو بكر الرازي أنموذجا لعلم الطب، وفيه تناولت
الرازي كأهم وأكبر أطباء العصور الوسطى قاطبة، وصاحب مدرسة طبية امتد تأثيرها منذ زمانه وحتى بداية العصور الحديثة، وقد تم البحث في هـذه المدرسة من خلال عدة نقاط هـي:
أولا: قوام المعرفة الطبية السابقة على عصر الرازي.
ثانيا: المنطلقات الإبستمولوجية (المعرفية) التي انطلق منها الرازي، وأثر (الآخر) فيها.
ثالثا: مدرسة الرازي العلمية.
رابعا: خصائص العمل العلمي عند الرازي.
خامسا: إنجازات الرازي وأثرها في اللاحقين له، وفي (الآخر) .
الفصل الرابع: إبداع الطب النفسي العربي الإسلامي، وأثره في (الآخر) ، وفيه حاولت بالدليل العلمي إثبات أن العرب والمسلمين كان لهم السبق في ميدان الطب النفسي، حيث استند العلاج النفسي خلال عصور التاريخ قبلهم إلى السحر، ورد المرض النفسي إلى قوى شريرة في استخدام
[ ص: 31 ] الرقى والتمائم والتعاويز. وفي المقابل تصدى الأطباء العرب والمسلمون لعلاج الأمراض النفسية. وقد أتيت -خلال صفحات هـذا الفصل- بأمثلة لحالات كثيرة عالجها الأطباء العرب، وسجلوا بذلك سبقا على الحضارة الغربية؛ قديمها وحديثها، تلك التي اعترف أشهر علمائها النفسيين المحدثين بفضل العرب والمسلمين في هـذا الميدان. وذلك يعد من أبرز نماذج تأثير (الأنا) في (الآخر) .
الفصل الخامس:
بنو موسى بن شاكر أنموذجا لعلوم الفلك والميكانيكا والهندسة والفيزياء. وفيه بدأت بمقدمة موجزة توضح أن تاريخ العلم العربي الإسـلامي شهد العديد من الجماعات العلمية «الأسرية» التي يربط أفرادها -قبل الاشتغال بالعلم- علاقات دم أو قرابة، ومن أمثلتها -في الفترة التي حددها البحث- جماعة
بختيشوع ، وجماعـة
حنين بن إسـحق ، وجماعة
ثابت بن قرة . ثم تعرضت لجماعة بني موسى بن شاكر، بأعضائها: محمد، وأحمد، والحسن، كجماعة فلكية، ميكانيكية، هـندسية، فيزيائية، متسائلا عن المبادئ العلمية التي سادت بينها وبين غيرها من الجماعات العلمية الأخرى، وانتهيت إلى أن جماعة بني موسى بن شاكر قد استطاعت من خلال العمل العلمي الجماعي أن تقدم إنجازات علمية أفادت منها الإنسانية جمعاء، واعترف بها (الآخر) .
الفصل السادس: نتائج الدراسة، وفيه حاولت إبراز نتائج الدراسة، التي حاولت فيها أن أجيب عن الفرضيات المطروحة في هـذه المقدمة.
والله أسأل التوفيق، فمنه العون والسداد، وإليه سبحانه المقصد والمآب.
[ ص: 32 ]