2 - البنية المعرفية في فكر جابر وأثر (الآخر) فيها
نشأ
جابر بن حيان في عصر كان يولي اهتماما كبيرا بالترجمة عن الأمم الأخرى، ولا سيما اليونان القدماء. ومع هـذا فإن حماسة العرب في نقل تراث الأوائل إلى لغتهم، وإعجابهم بفلسفة
أرسطو ، وطب
أبقراط وجالينوس ، وفلك
بطلميوس ، وصيدلة
ديسقوريدس ، كل هـذا لم يمنع العقل العربي من أن يكون حرا في نقد الآثار التي تستهويه وتمحيص حقائقها، والكشف عما يحتمل أن تتضمنه من زيف وبطلان
>[1] . فلم يكن جابر -كغيره من علماء العرب- مجرد ناقل عن الذين ترجموا من اليونانية إلى العربية، لكنه بعد أن درس العلم اليوناني واستوعبه استطاع أن يضيف إليه من إبداعات عقله العربي الإسلامي. ففي كتاب: (إخراج ما في القوة إلى الفعل) ، عالج مفهوم القوة والفعل اليوناني من خلال إبداعاته الخاصة. (فسبب كون الفعل وجود ما في القوة، فالقوة إذن مادة الفعل. والقوة طبيعة الفعل لا غير، والفعل منفعل الطبيعة التي هـو القوة)
>[2] . وشرح جابر بالأمثلة ما يخرج من القوة إلى الفعل، وما يمنع، وما يمكن.
وكذلك أخذ جابر فكرة الكيفيات الأربع اليونانية؛ الحرارة، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة. وعالجها من خلال رؤيته الخاصة. ومن ذلك وصفه للكواكب؛ فالحارة إذا حلت في البروج الحارة كان قرين الحرارة اليبوسة،
[ ص: 63 ] وكان عنها ثوران النيران والزيادة والنقصان في مادتها، وحماء الزمان -وهو المسمى: القيظ- وجفاف الشجر والنبات، ويبس الأشياء وحماؤها، وثوران الصفراء في الأجسام... واحتراق الألوان، وسمرة الصغار الذين في الأرحام وسوادهم، ونقصان المياه... وهبوب الرياح الوبيئة المحرقة والمتلونة كالريح الحمراء والصفراء، وتلهب البحر، وانعقاد الحجارة الشريفة كالكبريت والياقوت، وما أشبه ذلك
>[3] .
فمن خلال الفكرة اليونانية استطاع جابر استنتاج العديد من المشاهدات مثل جفاف النبات، ويبس الأشياء، واختلاف لون البشرة عند بني الإنسان، وهبوب الرياح وأسبابها، وثورة البراكين.
ويعتبر كتاب: " الأحجار على رأي بليناس " من أوضح الدلائل على تأثر جابر باليونان (الآخر) ؛ إذ عرض لكلام بليناس في الموازين (واستخرج ما يحتاجه إليه من هـذه الموازين على رأيه في جميع الأشياء)
>[4] أولا، ثم تعرض بالنقد لهذه الآراء وقال: " إنا نرى في الموازين والحروف رأيا غير رأي بليناس وليس مخالف غيره "
>[5] إذ أن طريقة بليناس في الموازين وإن كانت حسنة إلا أنها صعبة التحقيق. ( ومن أحب طريقنا فهو أسهل وأنقص؛ لأنه قريب من التحقيق )
>[6] . وبهذا الطريق الذي سماه جابر ( الميزان) استطاع أن يتوصل إلى الأوزان النوعية للمعادن والمواد الكيماوية.
[ ص: 64 ] وفي الكتاب الذي وضعه الأستاذ (
فاروه ) عن : (التركيب الكيميائي لبعض العملات العربية القديمة) ، نجد الأدلة التي تشير إلى أن جابرا قد عرف الميزان الحساس، ووصفه وصفا دقيقا
>[7] . أفادت منه الأجيال اللاحقة بعد عهد جابر وحتى العصر الحديث الغربي.
ولم يكتف جابر بدراسة بليناس من اليونان، بل درس تراث أرسطو، وعلوم غيره من الإغريق، كما قرأ
فرفريوس ، ودرس
أفلاطون وجالينوس وأقليدس وبطليموس ، ودرس نظريات
أرشميدس ، وليس في كتب الحضارة الإسلامية عن الكيمياء كتب مثل كتب جابر تكشف عن المعرفة الواسعة بتصانيف القدماء، وتمتاز بهذه الإحاطة الموسوعية
>[8] .
ولم يكن الأثر اليوناني وحده بمثابة البنية المعرفية التي انطلق منها جابر، بل نشأته الإسلامية أيضا؛ ومن دلائل ذلك أنه قدم تفسيرات للمعجزات، حيث يقول : (يكون ظهور المعجزات في العالم لنهاية الاعتدال، وتكافئ الطبائع في الكمية والكيفية، فالكيفية للحار والبارد والرطب واليابس، والكمية تكافؤ الأقدار؛ لئلا يكون أحدها غالبا للآخر)
>[9] .
[ ص: 65 ] وكذلك أثرت الثقافة الإسلامية على جابر في محاولة التعرف على خصائص زمن الأنبياء والفلاسفة، (فإن كانت الكواكب الحارة الرطبة نازلة بالبروج الباردة اليابسة وقارب هـذا في الكون، فكان مثل زمان الفلاسفة واستخراج العلوم وأمثال ذلك. وإنما لم يساو هـذا الزمان ذلك الزمان ؛ لأن الإضافة إلى الحرارة في الأول اليبوسة، فهي أقوى للكون، وفي هـذه الحال الحرارة ممازجة للرطوبة فهي ضعيفة , والأول زمان الأنبياء الذين هـم أتم أشكال الناس)
>[10] .
وتبدأ انطلاقة جابر بعد قراءات واسعة وعميقة للفكر اليوناني (الآخر) ، الذي اعتمد على بعض نظرياته مثل فكرة (الطبائع الأربع الأولية) ، التي منها نشأت الكائنات جميعا، أو فكرة تحويل المعادن، ولكنه سينتهي إلى نتائج علمية نرى أنها تختلف بالنوع والكيف وليس بالدرجة عن الفكر اليوناني الذي بدأ منه، حيث أسهم في بناء المنهج التجريبي في مقابل المنهج التأملي العقلي الذي برع فيه اليونان واكتملت فيه العبقرية الإغريقية
>[11] . وذلك ما سيتضح في موضع لاحق.
كما أخذ جابر مادة الكيمياء من مدرسة الإسكندرية (الآخر) ، التي كانت تقول بإمكان انقلاب العناصر وتحولها، بعضها إلى بعض. وأخذ مع
[ ص: 66 ] هذه الكيمياء فيضا من الفلسفة الهيلينية والآداب السحرية والتصوف الشرقي والروحية الإيرانية
>[12] .
وتعتبر مسألة إمكان قيام علم الكيمياء في العقل والفعل على حد سواء من أهم البنيات الأساسية التي دارت حولها معظم أبحث جابر بن حيان.
والكيمياء : مقصود بها الوسائل التي يستطيع بها الكيميائي أن يبدل طبائع الأشياء تبديلا يحولها بعضها إلى بعض، وذلك إما بحذف بعض خصائصها أو بإضافة خصائص جديدة إليها؛ لأنه إن كانت الأشياء كلها ترتد إلى أصل واحد، كان تنوعها راجعا إلى اختلاف في نسب المقادير التي دخلت في تكوينها، فليس الذهب -مثلا- يختلف عن الفضة في الأساس والجوهر، بل هـما مختلفان في نسبة المج، فإما زيادة هـنا أو نقصان هـناك، وما على العالم إلا أن يحلل كلا منهما تحليلا يهديه إلى تلك النسبة كما هـي قائمة في كل منهما، وعندئذ يرتسم أمامه الطريق واضحا إذا أراد أن يغير من طبيعة هـذا أو ذاك
>[13] .
وهكذا تصور جابر عدم استحالة قيام الكيمياء في مقابل امتناع أو بطلان هـذا العلم أصلا عند بعض العلماء والمفكرين
>[14] . ويتعجب جابر
[ ص: 67 ] من المنكرين للكيمياء بدعوى أن (العلم لا يصل إلى ما في الطبيعة)
>[15] . متسائلا : (كيف لا يصل إلى الطبيعة، وهو يصل إلى ما بعد الطبيعة ويستخرجه؟)
>[16] . والصنعة هـي : (نفي كل شيء لا يشاكل، وتأليف كل شيء يوافق، وإصلاح الطبائع، ومزاوجة الذكر منها بالأنثى، وتعدليها بالحرارة والرطوبة واليبوسة بأوزان معلومة معتدلة)
>[17] .
والبحث الحديث يتجه إلى إحلال النسب الكمية محل الخواص الكيفية في كل تفسيرات الوجود. فجابر يرى أن الطبائع تتغير، ولكى تتغير لا بد وأن تفقد ماهيتها الكيفية؛ كي تستحيل إلى ماهية أو طبيعة أخرى
>[18] ؛ فالنحاس يمكن أن يخرج لك منه رصاص ويعود إلى النحاسية
>[19] . ولا يعرف ذلك إلا العالم الكيميائي التام الذي يستخرج ما في الطبيعة، وهذا صعب المنال على من لا علم له
>[20] .
ويبرر
جابر صعوبة علم الكيمياء على غير المتخصصين بأن للطبيعة أسرارا يمتنع أو يعسر خروجها على عامة الناس؛ إما لاختفائها عن الحواس،
[ ص: 68 ] وإما للطافتها ودقتها. وكلا الحالين لا يمنعان العالم المتخصص من إخراج ما في القوة إلى الفعل
>[21] .
وعلى ذلك يتضح أن هـناك فرقا كبيرا جدا بين كيمياء جابر بن حيان والكيمياء القديمة. فعلى الرغم مما بين النوعين من تشابه في التعبير الاصطلاحي في كثير من التفاصيل الجزئية، فإن كيمياء جابر تختلف عن الكيمياء التي سبقتها؛ سواء في الروح والاتجاه، أو في التفاصيل والجزئيات؛ إذ تتسم كيمياء جابر بالاعتماد كثيرا على التجربة واستبعاد الخوارق. فهي كيمياء ذات اتجاه عملي عقلي واضح، يباعد بينها وبين الكيمياء القديمة التي كثيرا ما تلجا إلى الرؤيا الوجدانية، وتمعن في استخدام الخوارق في التفسير. ومن حيث التفاصيل الجزئية فإن ابن حيان يعنى بالكيمياء العضوية على وجه الخصوص، كما يستخدم ملحا لم يعرفه القدماء، وهو ملح النشادر
>[22] .