4 - منهج البحث والإنجازات العلمية وأثرها في اللاحقين وفي (الآخر)
إذا كان
جابر بن حيان قد اطلع على التراث العلمي اليوناني وتأثر به في بعض جوانب تفكيره، إلا أنه اتخذ التجربة سبيلا إلى التثبت من صحة الآراء والنظريات اليونانية التي وقف على دراستها، وفي التميز بين العقلية اليونانية والعقلية العربية في البحث والدرس يقول (
غوستاف لوبون ) : (إنك لا تجد عالما يونانيا استند في مباحثه إلى التجربة، مع أنك تعد مئات من العرب الذين قامت مباحثهم الكيميائية على التجربة، فجابر بن حيان أستاذ
لافوازيه أبي الكيمياء الحديثة)
>[1] .
ولم تكن تجريبية جابر مجرد معرفة بالخبرة، بل كانت عبارة عن ازدواج بين العقل والعمل، كما ينص المنهج التجريبي الحديث الذي صاغه علماء الغرب المحدثين، حيث (يمر المنهج العلمي التجريبي أو الاستقرائي بمراحل ثلاث؛ الأولى: هـي مرحلة البحث، والثانية: هـي مرحلة الكشف، والثالثة: هـي مرحلة البرهان. فالجانب العقلي يتمثل في المرحلة الثانية وهي الكشف، ويتمثل الجانب التجريبي في المرحلتين الأولى والثالثة، وهما البحث والبرهان.
ويصرح
جابر بأن منهجه العلمي التجريبي قد ضمنه بصورة كلية في كتابه (الأصول) : (قد عملته بيدي وبعقلي من قبل، وبحثت عنه حتى صح وامتحنته فما كذب)
>[2] .
[ ص: 73 ] وهذا وصف دقيق لما يقوم به الباحث العلمي الحديث؛ إذ أن جابرا قد زاوج بين الفرض العقلي وبين التجربة التي تأتي لتأييده أو تكذيبه. ويجعل جابر الدربة (التجربة) محكا للتميز بين العالم وغير العالم؛ فالأول يصل بالتجربة إلى نتائج جديدة، والثاني يعطل البحث العلمي، (فمن كان دربا كان عالما حقا، ومن لم يكن دربا لم يكن عالما. وحسبك بالدربة في جميع الصنائع أن الصانع الدرب يحذق، وغير الدرب يعطل)
>[3] .
وإذا كانت التجربة -في التصور العلمي الحديث- تزود العلم بالأساس المادي الذي يثبت وجهة نظر الباحث فيما سبق له أن لاحظه من الوقائع
>[4] فإن
جابر بن حيان قد فطن إلى هـذا المفهوم وطبقه بصورة فعلية.
ويؤكد ذلك
دكتور زكي نجيب محمود حيث يقول: فمن قراءة نصوصه استطعنا أن نتلمس مذهبه في خطوات السير في طريق البحث العلمي، وهي تتلخص في ثلاث خطوات رئيسة؛ الأولى: أن يستوحي العالم من مشاهداته فرضا يفرضه ليفسر الظاهرة المراد تفسيرها. والثانية: أن يستنبط من هـذا الفرض نتائج تترتب عليه. والثالثة: أن يعود بهذا النتائج إلى الطبيعة ليرى هـل تصدق أو لا تصدق على مشاهداته الجديدة؟ فإن صدقت تحول الفرض إلى قانون علمي يركن إلى صوابه في التنبؤ بما عساه أن يحدث في الطبيعة لو أن ظروفا بعينها توافرت
>[5] .
[ ص: 74 ] ولم يغفل جابر بن حيان دور الملاحظة أو المشاهدة الحسية، تماما كما في المنهج العلمي الحديث؛ ففي المقالة الأولى من كتاب: (الخواص الكبير) ، يقول
>[6] : (ويجب أن تعلم أنا نذكر في هـذه الكتب خواص ما رأينا فقط دون ما سمعناه أو قيل لنا أو قرأناه، بعد أن امتحناه وجربناه، فما صح أوردناه، وما بطل رفضناه، واستخرجناه نحن أيضا وقايسناه على أقوال هـؤلاء القوم) .
فالملاحظة الحسية هـي المصدر الصحيح لتحصيل العلوم والمعارف، وهي أيضا وسيلة لتقييم آراء الآخرين فما تثبته فمقبول، وما لم تثبته فمرفوض.
وينصح جابر بضرورة قراءة الكتب والتحصيل النظري قبل إجراء التجارب. ومع اعترافه بأن عملية الاطلاع على ما في الكتب النظرية تقتضي تعبا وكدا، إلا أنها هـي الخطوة الأساسية الأولى في البحث إذا أراد الباحث الوصول إلى الحقيقة بعد التجربة، يقول
جابر : (اتعب أولا تعبا واحدا، واجمع وانظر واعلم، ثم اعمل، فإنك لا تصل أولا، ثم تصل إلى ما تريد)
>[7] .
يتضح مما سبق أن جابر بن حيان قد اتبع المنهج العلمي بأدق تفاصيله. وقد أدى به هـذا إلى إحراز نتائج مهمة في تقدم علم الكيمياء. بيد أن التطور الذي حدث في مجال هـذا العلم لم يكن في مجال المنهج فحسب، وإنما امتد ليشمل نسق المعرفة العلمية فيه؛ فجابر وهو من أبرع وأعظم الكيميائيين العرب عرف كثيرا من العمليات الكيميائية؛ كالتبخير ، والتقطير، والترشيح،
[ ص: 75 ] والتكليس، والإذابة، والتبلور، والتصعيد. وربما كانت بعض هـذه العمليات معروفة عند القدماء ممن ممارسوا الصنعة، لكنها لم تكن معروفة كعمليات أساسية في الكيمياء
>[8] .
وبفضل تطبيقه للمنهج التجريبي كان جابر بن حيان أول من استحضر حامض الكبريتيك بتقطيره من الشبه، وسماه: زيت الزاج، واستخرج حامض النيتريك (ماء الفضة) ، وسماه: (الماء المحلل) ، وكان يعرف باسم: (روح الملح) ، ووصف هـذا الحامض بأنه نوع من المياه الحادة التي تصيب المعادن. وهو أول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استخرج نترات الفضة (حجر جهنم) ، وثاني كلوريد الزئبق (السليماني) ، وحامض النيتروهيدروكلوريك (الماء الملكي) .
وهو أول من لاحظ ما يحدث من ترسب كلوريد الفضة عند إضافة محلول ملح الطعام إلى محلول نترات الفضة. وينسب إلى جابر أيضا استحضار مركبات أخرى؛ مثل كربونات البوتاسيوم، وكربونات الصوديوم، وكربونات الرصاص القاعدي، والزرنيخ، والأثمد (الكحل: كبريتيد الأنتيمون) .
كما عرف استخدام ثاني أوكسيد المنجنيز في صناعة الزجاج. وجابر هـو أول من أدخل طريقة فصل الذهب عن الفضة بالحل بواسطة الحامض. ولا تزال هـذه الطريقة تستخدم إلى الآن في تقدير عيارات الذهب في السبائك الذهبية وغيرها، كما عرف جابر تصفية المعادن وتنقيتها من الشوائب المختلطة بها
>[9] .
[ ص: 76 ] كما تعبر مؤلفات جابر الكيميائية عن مرحلة مهمة من مراحل تطور الكيمياء العربية؛ إذ أنها تعد (دائرة معارف علمية، وتعطينا ملخصا لعلم الكيمياء في عصره)
>[10] . وهذا ما حذا (
بجورج سارتون ) أن يطلق على المدة التي تقع بين عامي (132-185هـ، 750-800م) : عصر جابر بن حيان؛ وذلك لمجهوداته العظيمة في علم الكمياء
>[11] . وكان لكمياء جابر ومؤلفاته فيها أثر واضح في تطور علم الكيمياء.
وكان لكيمياء جابر ومؤلفاته فيها أثر واضح في تطور علم الكيمياء العربي عند اللاحقين من الكيميائيين العرب، وعند (الآخر) الغربي، ويمكن الإشارة إلى ذلك فيما يلي:
يصرح صاحب (روضات الجنات)
>[12] .
بعد أن فرغ من حديثه عن
خالد بن يزيد بن معاوية ، وكيف أنه أبدع في كتابه: (الفردوس) ، ما لا يخفى على أهل التحصيل، بالإضافة إلى ماله في المنثور من كتب أخرى ومصنفات عالية استفاد منها، يصرح بأن من بعده
الأستاذ الكبير جابر بن حيان ، فإنه الأستاذ العظيم الشأن الذي هـو أستاذ كل من وصل بعده على هـذه الصناعة.
وإذا تتبعنا من جاء بعد جابر من مشاهير علماء المسلمين في الكيمياء، وجدنا
الرازي الطبيب يرجع الاهتمام بدراسة الكيمياء إلى إدراكه أن
[ ص: 77 ] موضوعها يتصل اتصالا وثيقا بدراسة الطب، ولذلك نراه يصنف كتابا قيما في الكيمياء أسماه: (سر الأسرار) ، ويعرف في العالم الغربي باسم:
>[13] Libersecre Torum. وهذا الكتاب يبين أن الرازي قد عني بعلم الكيمياء، وصرف جهودا كبيرة في إجراء التجارب الكيميائية المختلفة. وكان في أول عمله في هـذا المضمار يسعى على الحصول على ملح الأكسير؛ لأنه كان من القائلين بإمكان تحويل المعادن، وأن ذلك أقرب إلى الممكن منه إلى الممتنع، ووضع كتاب رد به على
الكندي ، الذي دحض هـذه الدعوى وأنكرها. واستند الرازي في رأيه هـذا إلى نظرية تركيب المواد المنسوبة إلى جابر بن حيان، الذي كان الرازي يكن له كثيرا من الاحترام والتقدير
>[14] ، وينعته في كتبه الكيميائية بقوله: (
أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان )
>[15] .
فآمن
الرازي بأن جميع المواد تتألف من أربعة عناصر، كما قال جابر بن حيان، ولذلك كان تحويل معدن إلى آخر محتملا. وغاية الرازي من ذلك تتفق وما رمى إليه جابر بن حيان من تحويل المعادن الخسة إلى ذهب وفضة بواسطة الأكسير
>[16] .
ومع أن
الشيخ الرئيس ابن سينا (370 - 428هـ، 980 - 1037م) قد أنكر إمكان تحويل المعادن أو العناصر الخسيسة إلى ذهب وفضة، وسخر
[ ص: 78 ] من الكيميائيين في عصره الذين اعتقدوا ذلك، وشكك في قدرتهم على تحويل مواد صلبة من عنصر إلى أخر
>[17] . فإنه سلك مسلك جابر بن حيان من حيث الاعتقاد في تكوين المعادن، وجاءت نظريته في هـذا الموضوع مطابقة لنظرية جابر إلى حد كبير
>[18] .
وفي النصف الثاني من القرن الخامس، وأوائل القرن السادس الهجري يطالعنا كيميائي عربي الأصل وهو
الطغرائي (453 - 515هـ، 1061 - 1121م) بكتابه: (جامع الأسرار) ، الذي يبين فيه أنه اطلع على كثير من الكتب اليونانية المترجمة وكتب جابر المتوفرة في زمانه، إضافة إلى اطلاعه على بعض كتب
أبي بكر الرازي ، ولا سيما كتابه: (سر الأسرار) . ومن بين كل هـؤلاء يمجد الطغرائي جابر بن حيان لتمكنه من الصنعة
>[19] .
ولم يتوقف تأثير جابر بن حيان على الكيميائيين العرب فحسب، بل امتد هـذا التأثير إلى العالم الغربي أو (الأخر) ، وكان له دور ملموس في تأسيس وتطور الكيمياء الحديثة.
لقد جاء
المسيو بارتيلو في الجزء الثالث من كتابه: (الكيمياء في العصور الوسطى) ، المنشور في باريس عام 1893م، بتحليل دقيق للكيميائيين العرب، ويعتقد أن كل مادتهم يمكن تقسيمها إلى قسمين؛ أحدهما: إعادة تعبير عن
[ ص: 79 ] بحوث الكيميائيين الإغريق في الإسكندرية، والثاني بحوث أصلية، ولو أنها مؤسسة على الدراسات الاسكندرانية، ويعتبر كل هـذه المادة الأصلية أثرا من أثار ما قام به جابر بن حيان الذي يصبح بهذا في لكيمياء في مكان أرسطو من المنطق، وينشر بارتيلو في كتابه ستة مؤلفات لجابر، واعتبرها ممثلة لكل المادة الكيميائية العربية
>[20] التي أدت قيام علم الكيمياء الحديث.
ولقد ترجمت مؤلفات جابر إلى اللاتينية في وقت مبكر بمعرفة روبرت الشستري ( ت 1144م ) وجيرار الكريموني ( ت1187م )
>[21] وترجم أيضا " مجموع الكمال " لجابر بن حيان الى الفرنسية سنة 1672م
>[22] وكانت هـذه المؤلفات من ضمن الأسس المهمة التي قام عليها علم الكيمياء الحديث.
من كل ما سبق يمكننا الزعم بان جابر بن حيان صاحب مدرسة كيميائية مميزة، قدمت انجازات علمية موثقة ( بتطبيق المنهج التجريبي) وكانت بمثابة الأسس التي عملت على تطور الكيمياء العربية فيما بعد عصر جابر، وساعدت في تأسيس وقيام علم الكيمياء الحديث. وبهذا يتضح تأثير ( الأنا) في (الآخر) ، بصورة جلية.
[ ص: 80 ]