- رشيد الدين أبو حليقة
أما الطبيب «
رشيد الدين أبو حليقة » فمن نوادره في العلاج النفساني
>[1] : أنه جاءت إليه امرأة من الريف، ومعها ولدها، وهو شاب قد غلب عليه النحول والمرض، فشكت إليه حال ولدها، وأنها قد أعيت فيه من المداواة، وهو لا يزداد إلا سقما ونحولا. وكانت قد جاءت إليه بالغداة قبل ركوبه، وكان الوقت باردا. فنظر إليه واسـتقرأ حاله، وجـس نبضه. فبينما هـو يجس نبضه قال لغلامه: ادخل ناولني الفرجية حتى أجعلها علي. فتغير نبض ذلك الشاب عند قوله تغيرا كثيرا واختلف وزنه، وتغير لونه أيضا، فحدس أن يكون عاشقا. ثم جس نبضه بعد ذلك فتساكن. وعندما خرج الغلام إليه وقال له: هـذه الفرجية. جس نبضه فوجده أيضا قد تغير، فقال لوالدته: ابنك هـذا عاشـق، والتي يهواها اسمـها فرجـية. فقالت: أي والله يا مولاي، هـو يحب واحـدة اسمها فرجية، وقد عجزت مما أعذله فيها، وتعجبت من قولـه لها غاية التعجب ومن اطلاعه على اسم المرأة من غير معرفة متقدمة له بذلك.
ومع أن «ابن أبي أصيبعة» في تعليقه على هـذه الحالة يذكر أن مثلها قد عرضت «لجالينوس» لما عرف المرأة العاشقة، إلا أن رشيد الدين أبو حليقة هـو أول من عالج مثل هـذه الحالات من الأطباء العرب، وعنه انتقلت طريقة
[ ص: 144 ] المعالجة إلى الأجيال اللاحقة، حتى وصلت إلى علم النفس الحديث الذي يفسرها بما يلي:
يعد تشخيص
أبي حليقة لهذه الحالة تشخيصا ممتازا؛ لما اعترى المريض من اضطراب في النبض عند سماع اسم المعشوق، حيث ينتابه حالة تهيج انفعالي مصحوبة بعمليات عصبية وفسيولوجية، حيث تصل إلى أحد المراكز داخل لحاء المخ يسمى «Hypothalmaus»، تنبعث منه رسائل عصبية إلى العضلات المختصة. كما تؤثر المثيرات العصبية في المراكز العليا في المخ، وتؤثر في العمليات الفسيولوجية المتصلة بالانفعال. كما تهبط هـذه المثيرات إلى الجهاز العصبي المستقل أو الذاتي، وهو الجهاز الذي يتحكم في المتغيرات الفسيولوجية في الأفعال، ومن هـذه التغيرات: زيادة ضغط الدم، زيادة سرعة النبض، اتساع الممرات الهوائية الموصلة للرئتين، واتساع حدقة العين، وإفراز العرق. ويزداد سكر الدم، ويزيد إفراز هـرمون الأدرينالين، ويقف شعر الرأس، ويعاق الهضم، وتزداد ضربات القلب
>[2] . وعلى ذلك فإن انفعال العاطفة لدى العاشقين يؤدي إلى زيادة ضربات القلب، التي تعد مفتاح التشخيص في مثل هـذه الحالات.
ولقد أدرك الطب العربي آثار الحالة النفسية للإنسان في وظائف أجهزة الجسم المختلفة؛ فالحالة النفسية في الانقباض والفرح والهم والغم والخجل
[ ص: 145 ] تؤثر تأثيرا مباشرا في سلوك الإنسان، وقد تؤدي إلى الجنون وفقدان العقل. والأمراض النفسية الشديدة يحتاج علاجها إلى بحث دقيق وعميق، وهذا ما فعله الأطباء العرب المسلمون وطبقوه بالفعل في أقسام الأمراض العقلية في البيمارستانات؛ حيث فطن العرب والمسلمون إلى ضرورة تخصيص أماكن خاصة لمعالجة أصحاب الأمراض العقلية، فكان يخصص لها قسم في كل بيمارستان، يتلقى فيه المريض عناية خاصة من أطباء حاذقين ومهرة في فنون العلاج النفسي
>[3] .
وقد وصل الاهتمام بهؤلاء المرضى حدا إلى الدرجة التي
معها
>[4] : كانت أقسامهم في بيمارستانات بغداد، ودمشق، والقاهرة، وقرطبة، تفرش بفرش من القطن في ردهات يتوفر فيها الهدوء والهواء الطلق والنور، وعليهم مشرفون يتعهدونهم بالأشربة المسكنة والمرطبة، ويغذونهم بمرق الدجاج وأنواع الألبان، بينما الموسيقى تصدح خلفهم بألحان شجية، وفي بعض البيمارستانات مثل بيمارستان حلب خص المريض بخادمين ينزعان عنه ثيابه كل صباح، ويحممانه بالماء البارد، ويلبسانه أنظف الثياب، ويحملانه على أداء الصلاة، ويسمعانه قراءة القرآن:
( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) (الرعد:28) ،
ويخرجان به إلى الهواء الطلق.
[ ص: 146 ]