تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله القائل:
( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) (التوبة:122) ، ذلك أن القيام بأعباء الاستخلاف الإنساني، وإقامة العمران البشري، وبناء الحضارة، والاضطلاع بالتنمية المستدامة، واستفراغ الجهد للخروج من عهدة التكليف والمسئولية في أكثر من مجال، يتطلب النفرة من الأمة جميعا، لتغطية شتى المساقات
( فكل ميسر لما خلق له ) كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم (أخرجه
البخاري ) .
فالأعمال والأعباء في الحياة متفاوتة ومتنوعة ومتعددة، وعملية الاضطلاع بها جميعا تتطلب مهارات متنوعة، وقدرات متفاوتة، وقابليات متعددة ومتمايزة، ولعلنا نقول هـنا: إن الله خالق الحياة والأحياء، العالم بما خلق، العالم بمتطلبات القيام بأعباء الاستخلاف وإقامة العمران وبناء الحضارة الإنسانية، التي تهدف إلى تحقيق سعادة الإنسان في معاشه ومعاده، خلق الناس بقدرات ومواهب ومؤهلات وقابليات متنوعة، صالحة بمجموعها لبناء الحياة، وبكل مجالاتها.
[ ص: 5 ]
ولما كانت الأعمال والمهام في هـذه الحياة تتطلب مهارات متنوعة ومتفاوتة فقد خلق الله القدرات والمؤهلات التي يمتلكها البشر متنوعة ومتفاوتة، حتى يكون بين الأعمال والمهام في بناء الحياة، وبين البشر، أدوات وأصحاب هـذا البناء، تواعد والتقاء..
( فكل ميسر لما خلق له ) .
فالناس - كما هـو معروف- ليسوا نسخة واحدة مكررة، بصورهم وأشكالهم ومواهبهم وألوانهم ورغباتهم وسماتهم، ولو كان ذلك كذلك لاستحالت الحياة واستحال الاجتماع والتعاون والتكامل، لذلك لم يكتف بعض المفكرين ورواد النهوض بالقول: إن الناس يختارون أعمالهم وتخصصاتهم حسب مؤهلاتهم وقابلياتهم، وإنما الأعمال أيضا هـي التي تختار الناس الملائمين لها، بما يمكن أن يطلق عليه مصطلح «الاصطفاء المسلكي».. فقد يختار بعض الناس بعض المجالات الخطأ، لسبب أو لآخر، لذلك فلا نستغرب أن يرفضهم العمل، ويصعب عليهم الانسجام معه والاستمرار والإبداع فيه، فيتحولون إلى ما يلائمهم.. فليس الأمر اختيار الأعمال وإنما هـو أيضا اختيار الأشخاص.
وهذا ينفي، بطبيعة الحال ومنطق القدرات وواقع الحياة، أن يتمتع الإنسان بكل القدرات وجميع المواهب التي تمكنه من القدرة
[ ص: 6 ] على الإنتاج والعطاء في كل المجالات، ولو امتلك القدرات جميعها لافتقد الأوقات والعمر الذي يمكن من جميع المعارف.. وإن صح بعض ذلك في المجتمعات الرعوية الأولى، حيث محدودية الأدوات وانكماش الآفاق وبساطة الحياة، فإن استحالة ذلك بادية في العصر الزراعي، ومن ثم أكثر ظهورا في العصر الصناعي، فكيف الحال الآن العصر الإلكتروني؟!
فأي محاولة للادعاء بذلك يكذبها الواقع، ويرفضها قانون الحياة وسنن الاجتماع وتطور المجتمعات وتنميتها،
( فكل ميسر لما خلق له ) .. ولا يعني هـذا الحديث أن الإنسان ميسر لكل شيء، ومستغن بنفسه عن الآخرين، فقد خلق وأهل للمشاركة في شيء، فإذا أحسنه وأبدعه وأتقنه كان لبنة قوية مكينة في المدماك الاجتماعي الكبير، الذي يقيمه الناس جميعا، ويشارك في بنائه الناس جميعا.
والصلاة والسلام على الرسول القدوة الأنموذج، الذي كان يؤكد تنوع القابليات والقدرات والمؤهلات في تقسيمه للأعمال وتكليفه لأصحابه الكرام بالمهمات المتنوعة، فمن يصلح لأمر قد لا يصلح لآخر، بل ويوجه إلى ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم :
[ ص: 7 ] ( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأقرؤهم أبي ، ولكل أمة أمين وأمين هـذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ) (أخرجه
الترمذي ) .
وهو القائل:
( فكل ميسر لما خلق له ) ، فإذا عرف الناس إمكاناتهم وقابلياتهم، وعرفوا أعمالهم، وأحسنوا اختيارها، والتوجه إليها، استقامت الحياة، وانسجمت العلاقات، وأنتج الفعل الحسن، الذي توفر له النية والرؤية السليمة، والأدوات الصحيحة، والقابليات المناسبة، أي توفر له الإخلاص والصواب.
وبعد:
فهذا «كتاب الأمة» الخامس بعد المائة: «إحياء الفروض الكفائية.. سبيل تنمية المجتمع» للدكتور عبد الباقي عبد الكبير ، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في محاولته الدائبة لمعاودة إخراج الأمة المسلمة لتستأنف رسالتها وتحقق الغاية من وجودها في تطهير المجتمع الإنساني من المظالم والمنكرات وإلحاق الرحمة بالعالمين جميعا، استجابة لقوله تعالى:
( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن [ ص: 8 ] المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110) وقوله تعالى:
( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (الأنبياء:107) .
ذلك أن الأمة التي تشكلت من خلال كتاب (القرآن الكريم) وتكونت من خلال ثقافته وفكره، وقدمت للإنسانية تجربة حضارية تاريخية حققت إنسانية الإنسان، وساهمت في هـدايته، وأوقفت أصل الشر في العالم، الذي ينشأ معظمه من تسلط الإنسان على الإنسان، ونسخت التأله، وسوت بين الناس أمام الله الخالق، وكان محورها وشعارها: كرامة الإنسان وحرية اختياره، تحت عنوان:
( لا إكراه ) (البقرة:256) ، و
( لست عليهم بمصيطر ) (الغاشية:22) ،
( وما أنت عليهم بجبار ) (ق:45) ،
( فإنما عليك البلاغ ) (آل عمران:20) ، لذلك اعتمدت الرسالة الإسلامية المثاقفة والمناقشة والمحاورة والمناظرة والمفاكرة والدعوة، سبيل بناء العقل الإنساني، ونموه، وإنتاجه، وإبداعه، وليس التسلط والإرعاب والإرهاب والمواجهة والإكراه.
لقد أخرجت الأمة الإسلامية من خلال كتاب –كما أسلفنا- بكل ما في هـذه الكلمة من أبعاد، وجاءت حضارتها للإنسانية من خلال كتاب، وجاءت نكساتها ونكباتها من خلال تخليها عن أخذ
هذا الكتاب بقوة، وذكر ما فيه. لذلك نعتقد أن الأمة، بكتابها
[ ص: 9 ] وقيمها التي استطاعت أن تنشء حضارة إنسانية، لما يعف عليها الزمن حتى اليوم، هـي أمة، على الرغم من تراجعها، قادرة على استئناف فعلها الحضاري إذا استطاعت أن توفر الظروف والشروط لميلادها الأول، طالما أن كتابها ما يزال محفوظا، وتجربتها الحضارية التاريخية ما تزال شاهدة لها وعليها، ولا أدل على ذلك من أن الاستقراء التاريخي، على المستوى العام والخاص، يؤكد أن الأمة كلما استطاعت أن تستمسك بالقرآن، وتستلهم التجربة الحضارية التاريخية، تحقق لها النهوض، وكلما انسلخت عن كتابها وتغربت عن حضارتها كان التراجع والانحطاط والعجز والتخلف.
من هـنا ندرك، وبكل الاطمئنان، أن الإشكالية هـي في عالم الأفكار، في المسألة الثقافية، ليس في افتقارنا لقيم ومرجعية وإنما بكيفية التعامل معها؛ لذلك فإن الميدان الحقيقي للفعل والنهوض هـو إعادة تصويب عالم الأفكار والتشكيل الثقافي، وهذا لا يتحقق إلا بتوفير الحرية والاختيار، والتمحور حول قوله تعالى:
( لا إكراه ) ، والانطلاق منه لممارسة سائر الأنشطة التربوية والاجتماعية والسياسية...إلخ، فنحن أولا وأخيرا أمة تشكلت من خلال كتاب، ومعاودة تشكيلها، بعد أن تقطعت أمما، لا يكون إلا من خلال ذات الكتاب، بكل متطلباته.
[ ص: 10 ] ولعل وسائلنا في العودة إلى هـذا الكتاب غير الموصلة، وكيفيات التعامل معه، تبقى مدانة؛ لأنها تعاني من خلل ما؛ ولأنها لم تحدث المطلوب، ولم تتحقق الأمة اليوم بالخيرية التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم :
( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) (أخرجه
البخاري ) .. وهذه الخيرية العظيمة، ليست متحققة بالاقتصار فقط على حفظ القرآن، على ما في حفظه من الخير العميم، ذلك أن التعلم والتعليم الذي يشير إليه الحديث هـو غير الحفظ، بل مرحلة تدبر وتفكر ونظر تتجاوز الحفظ والمشافهة، وإن كان الشائع في أوساط المسلمين أن الحفظ والتحفيظ هـو العلم بالقرآن وتعليمه.
لذلك نقول: إن الميدان الفكري والثقافي هـو المنطلق، وهو محل الفعل الحضاري، وسبيل النهوض ومعاودة إخراج الأمة من جديد، وأن المعرفة هـي القوة الحقيقية لنهوض الأمم ونموها، وأن الميادين الأخرى تصبح، إن لم تكن من لوازمه وحمايته وتأمينه، نوعا من هـدر الطاقة، إن لم نقل ضربا من العبث وانعدام الجدوى، أو الضرب في الحديد البارد؛ فعملية النهوض والتغيير تبدأ من داخل النفس بتغيير مجموعة الأفكار المنتجة للواقع، استجابة لقوله تعالى:
( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11) .
[ ص: 11 ] ومن هـنا جاء اختيارنا المرابطة في الموقع الثقافي، ودعوتنا المستمرة لاكتشاف مواطن الخلل وديمومة ممارسة التقويم والمراجعة والمدافعة، وإعادة النظر، وبناء العقل الناقد، والتمحيص للأفكار والرؤى والمواقف والمسلمات، في كل الواقع الثقافي، وإعادة معايرته وتقويمه بقيم الكتاب والسنة، والاستهداء بالتجربة الحضارية التاريخية، ووضع الواقع في موضعه المناسب من السيرة النبوية، لضبط عملية الاقتداء والتأسي؛ مع اعترافنا المسبق بصعوبة المرتقى وما يمكن أن يشكله من استفزازات للتقليد والمألوف من جهة، وبسبب الخوف مما قد يتعرض له الفكر والتفكير والاجتهاد الفكري من الخطأ والصواب من جهة أخرى، إضافة إلى البطء الشديد في عملية التحويل الثقافي التي قد تقتضي صبرا ومعاناة، وقد تستغرق جيلا كاملا، هـذا إذا صحت الخطوة.
فالتعامل مع المسألة الثقافية ومنهج بناء النخبة، عقل الأمة، وما يعتور ذلك من عثرات وإشكاليات وخطأ وصواب وما يتطلب من الصبر على ما يصطدم به من حماس واستعجال وتأثيم في الداخل، ومن مواجهة من (الآخر) ، يعتبر من الصناعات الثقيلة، أو ما يمكن أن يسمى صناعة البنية التحتية للأمة، كما يقال، فالله تعالى يبين من أول
[ ص: 12 ] طريق الدعوة للرسول القدوة ( أن المهمة عظيمة، والأمانة ثقيلة، قال تعالى:
( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) (المزمل:5) ،
( فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا ) (الإنسان:24) .
ولعلنا نقول: إن الخطوة الأولى تتمثل في معرفة الحق الموحى به، والانطلاق منه في بناء القدرة على امتلاك المعايير المجردة في الحكم على الأمور، حتى تجيء بعدها خطوة الفعل صائبة، ذلك أن بناء الطائفة القائمة بالحق، التي هـي خميرة النهوض ووسيلة التجديد والاحتفاظ بالقيم في فترات الأزمات، وتجسيد القيم في سلوكها، وتشكيل عقل الأمة الذي يضبط مسيرتها، ويبين لها طريقها، ويسدد خطاها وتناصحها، وتقديم الأنموذج الذي يثير الاقتداء، هـو محور الفعل الثقافي،
( يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله... ) (أخرجه
مسلم ) .
فوجود هـذه الطائفة التي تقوم بالحق، وتجسده، وتمارس التصويب والتجديد، هـي من لوازم الرسالة الخاتمة، حيث توقفت النبوة وانقطع الوحي، ونيط أمر التجديد والاجتهاد والتصويب بهذه الطائفة، من ذلك نرى أن
( قول الرسول صلى الله عليه وسلم : لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر [ ص: 13 ] الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله... ) ليس مجرد إخبار صادق وتقرير لحقائق، وإنما هـو، من بعض الوجوه، مسئولية وتكليف للأمة، للعمل على بناء هـذه الطائفة التي تضطلع بالتصويب، وبها تتحقق الخيرية.
وبالإمكان القول هـنا: إن العمل على تشكيلها وقيامها يأتي على رأس « الفروض الكفائية »، التي بها يكون بقاء الأمة، ونماء المجتمع، وتحقق الخيرية والتنمية الاجتماعية المستدامة.
وقد لا نجافي الحقيقة ونقع في المغالاة إذا رأينا أن سبب التخلف والتراجع، الذي منيت به الأمة المسلمة وما تزال، يتمثل في غياب مفهوم « الفروض الكفائية » بشكل عام، أو انكماش هـذا المفهوم في ذهنية مسلمي عصر الانحطاط، وعدم استشعار التكليف والمسئولية تجاهه، واقتصاره على مجالات وميادين تتناسب مع ذهنية التخلف؛ لأنها تقع على هـامش الحياة، أو تكاد تكون خارج حياة المجتمع، إن لم نقل: إنها ارتحلت من المدن والمجتمعات والحركة والحياة إلى المقابر والمآتم والجنائز، فاقتصر مفهومها وميدانها على الصلاة على الميت وتجهيزه وتكفينه ودفنه، أو -كما يقول بعض شيوخنا الكرام- أن
الأمة في الحقب المتخلفة، بسبب انطفاء الفاعلية والحيوية، أو لأنها في
[ ص: 14 ] حالة احتضار، لا تبصر من « الفروض الكفائية » إلا أحكام الجنائز والموتى (!)
ونعتقد أن الإشكالية تتمثل في غياب الوعي والإدراك لأنواع « الفروض الكفائية » وأبعادها، والرؤية الصحيحة لأحكامها الشرعية وتكاليفها، ومسؤوليتها في الدنيا والآخرة، ودورها في التنمية والاجتهاد والمجاهدة المستمرة في ارتياد آفاق جديدة تقع في إطار مسؤوليتها، وبذلك فهي تأتي على رأس التكاليف الشرعية، إن لم نقل: في مقدمتها.
فالمعروف، فقها وشرعا، أن الفروض والتكاليف الشرعية هـي نوعان: « فروض عينية » و « فروض كفائية ».. أما « الفروض العينية » فهي التي تجب على كل إنسان بعينه، بذاته، وفق استطاعته، ولا يخرج من عهدة التكليف الشرعي إلا بأدائها والاضطلاع بها، وهي تمثل واجبات فردية واقعة أصلا بمقدور الفرد واستطاعته، ولقد وجدت في الأصل لتزكية النفس وبنائها وتهذيبها والارتقاء بها وتحضيرها للفعل الاجتماعي السليم، فهي تكاليف فردية، والمسئولية عنها أمام الله فردية، يحكمها قوله تعالى:
( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) (الأنعام:164) وقوله:
( فإذا نفخ في الصور فلا [ ص: 15 ] أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) (المؤمنون:101) ،
( وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) (مريم:95) ، ويكاد يأتي في مقدمتها العبادات جميعها، التي تشكل البنية التحتية واللبنات الأولى في البناء الاجتماعي؛ لأن ذلك ينطلق ويبدأ من الفرد.
وأعتقد أن مصطلح « فروض » له دلالاته النفسية والشرعية بالنسبة للمؤمن، وإن كانت « الفروض العينية »، بل الكثير منها، يبدأ بالفعل الفردي الذي يصب في محصلته ونتائجه وأهدافه في الفعل الجماعي، ويشكل ضميمة له، حتى إن بعض العبادات أو «الفروض العينية» لا تؤدى إلا بجماعة أو مع جماعة، وبذلك يتشكل حس الفرد الاجتماعي، وينمو ويزكو هـذا الحس بالمساندة والمشاركة والمنافسة في العمل الصالح واستباق الخيرات.
وأما « الفروض الكفائية » فهي واجبات اجتماعية، أو تكاليف شرعية اجتماعية، المسئولية عنها جماعية، تضامنية، حيث لا ينجو الفرد من المسئولية عنها، ولا يخرج من عهدة التكليف ما لم تحقق الأمة بمجموعها الإنجاز لها والكفاية لمجتمعها.
ووجهة «الفروض الكفائية» بالدرجة الأولى المجتمع، بحيث تتحقق الكفاءة والكفاية لمؤسساته جميعا، السياسية والتربوية والاقتصادية والتنموية... إلخ.
[ ص: 16 ] والآيات والأحاديث التي تنذر بالمسئولية عن التقاعس والتقصير في الأداء كثيرة وكثيرة جدا، لعل في مقدمتها فقدان خيرية الأمة.. وفقدان هـذه الخيرية، التي تشكل المناخ السليم للتربية وللبناء والانطلاق، ينتهي بالأمة إلى التخلف، والعجز عن أداء رسالتها، ذلك إذا لم توفر الأمة الطوائف التي تنفر لتحقيق الكفاية في الثغور جميعا، قال تعالى:
( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (آل عمران:104) ، ويقول تعالى:
( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) (الأنفال:25) .
ولعل استفهام السيدة
زينب بنت جحش ، رضي الله عنها ، يلفت النظر هـنا عندما سألت الرسول صلى الله عليه وسلم
( أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث ) (أخرجه
البخاري ) .
فمدافعة الظلم والفساد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحقيق الرقابة العامة على المجتمع والفرد والدولة، يأتي على رأس « الفروض الكفائية »، يقول الرسول (:
( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) (أخرجه
الترمذي ) .
[ ص: 17 ] والإشكالية لم تقتصر على انكماش مدلول « الفروض الكفائية » أو غياب أبعادها، وانعدام الإحساس بالمسئولية الشرعية عنها، والثواب العظيم بأدائها، وإنما تجاوز الأمر إلى شيوع الروح السلبية التواكلية في فهمها والتعاطي لها.
ف «الفروض الكفائية» يعرفها الفقهاء واللغويون ويقدمونها على « الفروض العينية » بأنها: واجبات اجتماعية، أو جماعية، إذا قام بها بعض أفراد الأمة خرجت الأمة بذلك من عهدة التكليف، وبرئت من المسئولية. والمعروف أن مدلول كلمة: «قام بها» يعني اضطلع بها على الوجه الأكمل، وحقق الكفاية المطلوبة للأمة، وليس إذا باشرها بعض أفراد الأمة أو مارسها وجاءت النتائج دون تحقيق حد الكفاية.. ولا بأس أن نأتي بمثال توضيحي للفكرة، فلو افترضنا أن بلدا ما بحاجة إلى مائة طبيب متخصص لتأمين الحالة الصحية، وفقا للمعايير الموضوعية، فإن وجود ثمانين طبيبا في هـذه البلدة لا تحقق الكفاية، وبذلك تبقى الأمة آثمة حتى تبلغ العدد المطلوب.. هـي اسمها « فروض الكفاية »، فإذا لم تتحقق الكفاية يبقى الثغر الاجتماعي مفتوحا، ويبقى التكليف قائما، وتبقى المسئولية عنها تضامنية وفردية.
[ ص: 18 ] وبذلك نقول: إن ذهاب بعض الأفراد، أو نفرة بعض الأفراد للاضطلاع بهذه الواجبات، دون التغطية المطلوبة، لا يعني بحال من الأحوال أنهم كفوا الأمة وأخرجوها من المسئولية.
هذا إضافة إلى أن أبعاد ومجالات «الفروض الكفائية» لم تدرك تماما ولم تتحقق عمليا في الذهنية الإسلامية المعاصرة، وخاصة في حقب التخلف -كما أسلفنا- ذلك أن نفرة بعض المسلمين أو طوائف من المسلمين للمجالات الحياتية المتعددة والمتنوعة، للتخصص فيها والتفقه فيها، هـو استجابة لتكاليف الدين، وهو من أرقى وأمثل صور التدين والتفقه في الدين.
فاستدراك التخصصات العلمية، في الشعب المعرفية جميعا، وتحصيل ما تحتاجه الأمة من الآفاق المتجددة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، أو بلوغ حد الكفاية، هـو من تكاليف الدين.. فدراسة الطب والهندسة والصيدلة والكيمياء والتمريض والعلوم التقنية والعلوم الاجتماعية والإنسانية، والاضطلاع بهذه الواجبات الاجتماعية، هـو من الفروض الدينية الكفائية، لذلك نكرر القول: لو تخصص بعض
الأفراد، وحاجة الأمة لأكثر من العدد الذي تخصص لتحقيق الكفاية، لم نقم بالفرض الكفائي.
[ ص: 19 ]
وقد لا نستغرب أن يذهب بعض الفقهاء إلى تقديم «الفروض الكفائية» في المرتبة على «الفروض العينية»؛ لأن أثر «الفرض العيني» يقتصر على الفرد بالدرجة الأولى، أما «الفرض الكفائي» فيستوعب مصالح الأمة جميعا؛ والمصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة، وإن كنا لا نرى المقابلة في هـذه القضية والاشتغال بأيهما أفضل عن الفعل المطلوب، وإنما الأمر في نظرنا قائم على التكامل وليس التقابل.
ومن اللافت للنظر حقا أن يستخدم القرآن لفظ «النفرة»:
( فلولا نفر ) ، ذلك أن مصطلح «النفرة» غالبا ما يستخدم للاستجابة لداعي الجهاد، وكأن «النفرة» المطلوبة هـنا لاستدراك المعارف والفقه بالتخصصات المتنوعة والاجتهاد فيها هـو جهاد من الجهاد، بل لعله ميدان الجهاد الذي يصنع النصر في المواقع جميعا؛ لأن المعرفة هـي القوة المرنة التي تحرك سائر القوى وتوجهها.
فإذا كانت «النفرة» للجهاد، بمفهومه الواسع، والجهاد الحربي بعض جوانبه إذا توافرت شروطه وظروفه، إذا تهددت الأمة باعتداء، فرض عين، لحماية الحرية والحيلولة دون الفساد والطغيان، وتحقيق
[ ص: 20 ] حرية الاختيار، ويكون «فرض كفاية» بمفهومه الواسع؛ وإذا كانت «النفرة» لفقه العلوم والمجاهدة وتحقيق التخصصات التي تحتاجها الأمة في شتى الميادين تكون فرض عين وتكون فرض كفاية أيضا، فإن كلا الأمرين من تعاليم الدين وتجليات التدين في المجتمع.
إن «النفرة» لكلا المجالين تبدأ «فرض كفاية» وتتحول إلى «فرض عين» لمن اختارها، لا يجوز له أن يولي دبره وينكفئ عنها ويخلي الميدان، وبذلك يصبح فرض الكفاية «فرض عين» أيضا ويثاب المرء بأيهما آكد.
والحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها هـنا هـي أن آفاق «فروض الكفاية» تكاد تكون غائبة تماما عن حس المسلمين، ولعل السبب في ذلك مناخ التخلف.. كما أن الإحساس بأنها من الدين عمليا غائب تماما، حتى ولو ادعينا غير ذلك؛ لذلك فقد لا نستغرب أن نرى الكثير من المتدينين يغادرون اختصاصاتهم التي بدأت كفروض كفائية وانتهت كفروض عينية، يغادرونها لممارسة العبادة أو الوعظ والإرشاد، ويخلون مواقعهم ليمتد بها (الآخر) في داخلنا، وتبقى ثغور الجسم الإسلامي مفتوحة، بسبب صور من التدين المحزن، ومع ذلك نرفع أصواتنا عاليا في النكير على من يحاول فصل الحياة عن الدين،
[ ص: 21 ] أو فصل المجتمع عن الدين ونتهمه بشتى التهم؛ لكننا بانكماش الحس الديني عن الأنشطة المتعددة، المعرفية والعلمية، وعدم اعتبارها من العبادات، نمارس عمليا إخراج الدين من خضم الحياة.
وإن كانت الأحداث والممارسات المتتالية، في مواقع ثقافية وجغرافية شتى، بدأت تؤكد أن الدعوة إلى فصل القيم الدينية عن الحياة الإنسانية واعتبارها شأنا فرديا، لون من الخداع السياسي والتدليس الثقافي، ذلك أن الشأن الفردي هـو ركيزة الشأن الاجتماعي وجزء منه، وأن الدعوة للعلمانية انتهت بها إلى ضروب من العنصريات والممارسات والأيديولوجيات التي تنأى عنها جميع القيم الإنسانية؛ لقد أصبحت دينا جديدا مشبعا بالروح العنصرية والانحياز، وتنكرت لأبسط المبادئ التي دعت إليها.
ولعل من ملامح تكريس التخلف أن الاجتهاد في معظمه تركز حول فقه العبادات، وتبحر حتى لا يكاد يدع استزادة لمستزيد، حيث تطرق لكل الوجوه والاحتمالات، مع أن الاجتهاد في العبادات محدود ومحدود جدا، حيث هـي بطبيعتها ثابتة
لا ينالها التطوير والتطور والتجديد، إلا في بعض الجزئيات، إن لم نقل الجزيئات.
[ ص: 22 ]
فتحول معظم الاجتهاد إلى هـذا المحل، وانكماشه أو غيابه في مجال « الفروض الكفائية » ظاهرة مخيفة ومحبطة، وتحول، إذا استمرت، دون تطور المجتمع ونموه واستقلاليته وقدرته على المساهمة الإنسانية.
وخلاصة الأمر، أنه لا بد من النقد وإعادة التقويم والمراجعة لصور التدين، واكتشاف مواطن الخلل.
وقد يكون من المستغرب أن نتخلف نحن ويدرك (الآخر) التخصصات العلمية ودورها وأهميتها في بناء حضارته، والترويج لرسالته، وقيمه ومنتجاته.
إن «الفروض الكفائية» تتطلب الكثير من الاجتهاد في بيان أبعادها، وأحكامها، ومجالاتها، وفلسفتها، ودورها في تقسيم العمل وإتقانه، وتحقيق الميول والمواهب المختلفة، وتوفير الفرص الكاملة للمواهب المتنوعة، وامتلاك القدرة على توظيفها ووضعها في الموضع المناسب، لتساهم في التنمية الشاملة، وتؤدي إلى إعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة على الحاجة والمصلحة والمنفعة، والثواب قبل ذلك كله.. ولا بد لإعادة وصل الدين بالحياة، والحضور الفاعل لقيم الدين في خضم الحياة، من إبصار دور «الفروض الكفائية»
[ ص: 23 ] ودورها في بناء المجتمع وتنميته، وتطوير الرؤية بحسب تطور الحياة لتبلغ آفاقا جديدة ومتطورة.
إن « الفروض الكفائية » هـي السبيل لبناء مؤسسات المجتمع وتحقيق التكافل الاجتماعي.. فهي فروض تتطلب الكفاءة لتحقق الكفاية.. ففي ساحة «الفروض الكفائية» نجد أنفسنا ومواهبنا وميولنا وفروقنا الفردية ومجالاتنا الكبرى للعطاء فيما نحسن، والتخلص من الرجل الملحمة، الذي إن كان ملائما فهو ملائم للعصر الرعوي، وتجاوزا للعصر الزراعي، أما العصر الصناعي، والآن الإلكتروني، فيصبح دليلا على التخلف والتراجع.. والذي يدعي معرفة كل شيء نأسف أن نقول: إنه قد لا يعرف شيئا في عصر التخصص و «الفروض الكفائية».
ولعل من نعمة الله على الإنسان أن ربط هـذا الجهد في المجالات جميعا وتلك المجاهدة والمجالدة بالثواب
( ... فإن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله... ) (أخرجه
الطبراني ورجاله رجال الصحيح) ، ووضع أسسا نفسية تربوية أو أصولا نفسية معرفية للنفرة لتحقيق «الفروض الكفائية».
[ ص: 24 ]
فالأخوة ومتطلباتها واستحقاقاتها، والرحمة ومجالاتها، والإيثار وثمراته، والعفو ودوره، والعدل وثوابه، والتطوع ودوره، وقبل ذلك وبعده الثواب العظيم، لابد أن تستخدم محرضات نفسية، لتأتي «الفروض الكفائية» محركات اجتماعية، لتحقيق التنمية المستدامة، التي تقتضي إعادة النظر بمفهوم «أهل الحل والعقد» ليصبح مؤسسة من المتخصصين في القضايا المطروحة، الذين يكفون الأمة بوضع الخطط الاسـتراتيجية لمستقبلها، ووضع الأوعية الشرعية لحركتها، بما يحفظ عليها طاقاتها وإمكاناتها ويضعها في الموضع الملائم.
إن «الفروض الكفائية»، إضافة إلى أنها تكليف شرعي، هي رؤية استراتيجية مستمرة للنمو والتنمية.
وبعد،
فهذا الكتاب، يعتبر محاولة لوضع خطوة على الطريق الطويل، وإيقاظ الحس والوعي الإسلامي بأبعاد «الفروض الكفائية»، التي تتطلب توفر الكفاءات في المجالات المتعددة، لتحقيق الكفايات، لعل هذا الإحساس يتحول إلى إدراك لأهمية هذه الفروض في تحقيق التنمية المستدامة للمجتمع، وتوسيع دائرة البعد الديني، واستشعار الثواب والعقاب للفعل الإنساني، وإعادة القيم الدينية إلى خضم الحياة
[ ص: 25 ]
والانطلاق منها لتحقيق سائر التخصصات، التي يتولد معها إعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية وحماية المجتمع من التفكك والتخلف، وإناطة الأمور بأهلها، بأهل الخبرة، والتحول إلى بناء « أهل حل وعقد » منطلق من « الفروض الكفائية »، حيث الأعمال في الحياة لا تتطلب مهارات واحدة، وميول واحدة، وإنما
( ...كل ميسر لما خلق له ) ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكأن بين المهارات والأعمال تواعدا والتقاء.
إن مسألة بناء الوعي «بالفروض الكفائية» لا يسعها كتاب ولا كتب وإنما هـي رؤية جماعية استراتيجية، تتطلب فتح باب الاجتهاد فيها على مصراعيه، وإنتاجا مشتركا في الميادين كلها، وتنمية للحس الديني ليشمل الفعل البشري في أنشطته المتنوعة والمتكاملة.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[ ص: 26 ]