أولا: أزمة الفكر والفهم والتدين:
إن أول ما يتبدى لنا، حين ننظر إلى القرنين الأخيرين، ذلك الضباب الشديد المحيط بحقيقة الإسلام في نفوس كثير من المسلمين، والبعد المتزايد عن هـذه الحقيقة في الحياة الواقعية؛ هـناك فساد في التصور والسلوك، فكثير من المفاهيم الإسلامية فسد وانحرف في حس الأجيال المتأخرة، ولم يعد شيء منها يشبه أصله الذي كان عليه يوم أن نزل هـذا الدين من عند الله.
فمفهوم «لا إله إلا الله» مثلا، الذي يشكل أساس الإسلام كله وأكبر أركانه، تحول إلى كلمة تقال باللسان لا علاقة لها بالواقع، ولا مقتضى لها في حياة كثير من المسلمين، أكثر من أن ينطق بها بضع مرات في اليوم والليلة، فضلا عما أحاط بالعقيدة من خرافات وبدع.
ومفهوم العبادة الواسع، قد انحصر في شعائر التعبد، التي أصابتها العزلة عن واقع الحياة، كأنها شيء ليس لها أي مقتضى في الحياة الدنيا ولا تأثير!
ومفهوم القضاء والقدر، الذي كان في صورته الصحيحة قوة دافعة رافعة، صار، في صورته السلبية، قوة مخذلة مثبطة عن العمل والنشاط والحركة والأخذ بالأسباب.
[ ص: 90 ] وأما ربط مفهوم الحياة الدنيا بالحياة الآخرة، الذي يجعل من الدنيا مزرعة للآخرة، فقد تحول إلى فصل كامل بين الدنيا والآخرة، فأهملت عمارة الأرض ( التنمية ) حين أهملت الدنيا من أجل الآخرة، ونسي الناس موقف النبي ( من عمارة الأرض والترغيب فيها والحرص عليها وأمر المسلم بها، حتى ولو لم تتحقق له منها الفائدة المادية في الدنيا، فهو القائل (:
( إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل ) >[1] . وفضلا عن ذلك كله فقد خلت حياة الناس من روح الدين، وأصبحت الحياة كلها تقاليد موروثة أكثر مما هـي عبادة واعية لله، أو منهج مترابط يحكم الحياة.
>[2] فالعقلية المسلمة أصيبت بقصر في الفهم لأبعاد مقتضيات الاستخلاف على الأرض، وقصرت عن الاستنباط والاعتناء بالسنن الكونية المتعلقة بالنهوض والسقوط للحضارات، التي جاء القصص القرآني لتأكيدها، حيث تتضاعف آياته عن آيات الأحكام، التي استنبط
[ ص: 91 ] منها هـذا الكم الهائل من التراث الفقهي، وأغلب هـذه الأحكام يتعلق بالواجبات العينية ، فيما أهمل الفقه المتعلق بمقتضيات نهوض الحضارات وسقوطها، الذي تكون حمايته بالواجبات الكفائية ، التي شرعت لأجل الحفاظ على خيرية الأمة، ووسطيتها، وشهودها، وأداء دورها الراشد والمرشد وسط الأمم، وبقي هـذا الجانب من الفقه مهملا، جيلا بعد جيل، ولم ينل حظه من الاهتمام المطلوب من العقليات الدينية والإسلامية، وقد اتكلت الأجيال اللاحقة على جهود السابقين.
لقد نال التراث الفقهي قدرا كبيرا من التقديس، حيث البيئة العلمية في أغلب الأحيان كانت وما تزال لا تسمح للاستدراك على السابقين، الأمر الذي أدى إلى تهميش الفقه بالسنن الكونية في العقلية المسلمة، وعدم التشجيع لعلوم الحياة والاستفادة من التجارب البشرية لتحقيق أهداف النهوض والتنمية والتقدم، وأغراض الدفاع.
وكانت نتيجة ذلك، العجز عن الاستفادة والسير وفق مقتضيات دراسة الأسباب للوصول إلى الأهداف وتمثيل الأمة الوسط وتحقيق شهودها في مجريات الأحداث وصناعة مستقبلها؛ والعجز كذلك عن الإفادة من الكائنات الأخرى والطاقات المسخرة، المستعصية إلا على من تعلم مقدمات ومعارف التسخير والاستغلال لهذه الطاقات.
[ ص: 92 ] لقد تقدم الآخرون في هـذه المجالات واستفادوا من الإمكانات والطاقات الموجودة في الكون، مما مكنهم من التفوق الذي جاء ثمرة لتناسقهم مع مقتضيات السنن الكونية، وقد استغلوا هـذا التفوق للبطش والتنكيل بنا، وسلب إمكاناتنا، وهدر طاقاتنا، والتخطيط لإبقائنا في دائرة الخدم لأهدافهم ومصالحهم، وفي النتيجة فقدنا التوازن في عملية التدافع بين الحق والباطل، وبدأ التفكير في التعامل مع الواقع بناء على «فقه الضعف»، مع كثرتنا وكثرة عتادنا، الذي لا نملك حق استعماله إلا ضد شعوبنا.
وعلى الرغم من ذلك كله، فإن هـذه الأزمة الفكرية بدأت، كما أرى، في التلاشي وسط حركات الإصلاح النيرة في العالم الإسلامي.. ولئن كانت الأمة الآن مكبلة، والله المستعان، إلا أن عزائم النشء لا تؤمن باليأس ولا تعرف إلا الجهد والسعي والتعرف على سنن التقدم والنجاة، وهذا ما يبشرنا بأن المستقبل للعدالة والحق، وأن الظلم والطغيان لا مستقبل لهما، وإن ظهرت قوتهما أمام الجميع، وهذا ما تؤكده سيرورة التاريخ في حياة البشر.
[ ص: 93 ]