ثانيا: سيادة الاستبداد الفردي:
إن سيادة الاستبداد تعرقل دائما كل محاولات الإصلاح السياسي، وهي تراهن على الحفاظ والتشبث بالكرسي والسلطة أكثر من أي شيء آخر؛ تخاف النقد والنصح ووجود مؤسساته الضابطة، ويصبح مطلوبا من الجميع، في ظلها، أن يتحركوا وفقا لرغبة السلطة.
ولعل من أخطر تداعيات الاستبداد السياسي أن علاقة الحاكم مع شعبه تقوم على الشدة، بينما تلين قناته مع الآخرين؛ يستخدم القوة مع الشعب والضعف مع قوة الخارج
>[1] .
لذلك فإن سيادة الاستبداد السياسي تؤدي وتشجع التدين الفردي وعدم التدخل في شئون السلطة المستبدة، فتنحسر من ثم الواجبات الكفائية عن الواقع، ممارسة وتفعيلا، أو يتراجع فهمها في إطار القضايا المصيرية للأمة، لينحصر في قضايا المصير الفردي، من دفن وكفن وجنازة... إلخ.
[ ص: 94 ]
يقول عبد الرحمن الكواكبي عن الاستبداد: العلم قبسة من نور الله، وقد خلق الله النور كشافا مبصرا ولادا للحرارة والقوة وجعل الله العلم مثله وضاحا للخير فضاحا للشر، يولد في النفوس حرارة وفي الرءوس شهامة، وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد، لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم، فإذا نبغ فيهم البعض ونالوا شهرة بين العوام، لا يعدم وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره بنحو سد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد .
نعم ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم، وسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، وغيرها من العلوم الممزقة للغيوم، المبسقة الشموس، المحرقة للرءوس.
>[2] نخلص مما ذكرنا إلى أن الاستبداد قد ساهم بشكل كبير في تهميش المسئوليات المجتمعية على ساحة اهتمامات خطاب الإصلاح الديني، أو خطاب علماء الدين عموما، الذي اشتغل بتأكيد المسئوليات الفردية، وعلى التدين المظهري والشكليات المعروفة، بعيدا عن الخوض في مقتضيات نظام العدالة والمساواة وحقوق المواطنين والمسئولية تجاه الضعفاء والفقراء والعاطلين ومستويات الأجور والتأمين الصحي... إلخ.
[ ص: 95 ]