رابعا: وظيفة الأمة في العون والنصح:
القيام بوظيفة العون والنصح، بصورة فردية أو جماعية، هـو من مقتضيات الحكم الصالح القادر على تأمين مصالح الأمة، وهو ما يمكن تحقيقه من خلال وظائف الأفراد وواجباتهم تجاه المؤسسة السياسية، بالطاعة للأوامر وإبداء الرأي والنصح عبر المنابر المتاحة، من المسجد والصحافة... إلخ، بصورة فردية، ولكن تتأكد مع ذلك ضرورة وجود مؤسسات العون والنصح التي تحفظ بقاء نفسها بنفسها، وتطور نفسها بنفسها، من خلال قنواتها الداخلية وتفاعلها مع قضايا الأمة وعلاقاتها وروابطها مع المؤسسة السياسية، التي يجب عليها إقامة مؤسسات النقد والنصح البناء،
[ ص: 114 ] التي تؤدي إلى تنبيه المؤسسة الحاكمة بأخطائها وإعطاء المشورة المناسبة لها، وطرح الخيارات الممكنة والمتاحة للاستفادة القصوى من القدرات والإمكانيات.
وهاتان الوظيفتان من أهم الواجبات الكفائية ، وقد ضمنهما " الخليفة الراشد
أبو بكر ، رضي الله عنه ، أول خطاب سياسي وجهه للأمة، حيث قال: «أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني» "
>[1] .. إن الخليفة الأول يؤكد في هـذه الخطبة القصيرة التي يعلن فيها نهجه السياسي أن وظيفة الأمة وواجبها تجاه الخليفة هـو العون والطاعة في المعروف، والنصح والنقد والتصويب والتقويم عند الخطأ والإساءة أوسوء التصرف.. ولأجل تفعيل هـذا المبدأ تأتي ضرورة إقامة مؤسسات الاحتساب المجتمعي، لتقوم بعمليات النصح والتنبيه على الأخطاء، ليس في الاقتصار على الواجبات الفردية
[ ص: 115 ] الشخصية فقط -كما يراد له- بل في ساحة حركة البلاد العامة، في التنمية والبناء والإدارة وضبط التصرفات... إلخ. وهذا الأمر من الواجبات الكفائية ذات الأثر البالغ في تأمين الحكم الصالح، الذي ذكرنا وجوبه، وما لايتم الواجب إلا به فهو واجب .
والفقهاء، وإن اتفقوا على وجوب الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنهم اختلفوا حول وجوبها، عينيا أو كفائيا.. فجمهور الفقهاء
>[2] يرى أن الحسبة من الواجبات الكفائية ، التي إذا قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين.. يقول
الإمام النووي ، رحمه الله: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية»
>[3] ؛ ويقول
ابن تيمية ، رحمه الله: «والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية»
>[4] ؛ > ويقول
الشاطبي ، رحمه الله: «والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي »
>[5] [ ص: 116 ] ويقول صاحب روضة الطالبين: « الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية بإجماع الأمة»
>[6] .. وذهب بعض العلماء إلى أن الحسبة من الواجبات العينية على كل مسلم
>[7] .
وهذا الخلاف الدائر هـو في القيام بأعمال الحسبة الفردية، على حسب قدرة الناس وفهمهم ومساحات عملهم، لكن يبقى أن القيام بها يشكل صمام الأمان للاستقامة وحفظ مصالح الناس.. يقول ابن كثير
>[8] في تفسير قوله تعالى:
( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هـم المفلحون ) (آل عمران: 104) : «والمقصود من هـذه الآية أن تكون فرقة من هـذه الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه، كما ثبت في صحيح
مسلم ( عن أبي هـريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من رأى منكم منكرا فليغيره [ ص: 117 ] بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) >[9] .
ولكن الأمر الذي تظهر بداهته في كفايتها هـو إقامة مؤسسات وآليات النصح والمراقبة والمساءلة، وهي مؤسسات المجتمع المدني، تترجم مبادئ الدين والشريعة حول المصالح العامة وتعمل على التحقق من وصولها إلى درجة الكفاية.
ولا بد أن نذكر هـنا أن وظيفة الحسبة قد عدها العلماء من وظائف الدولة، فهي التي تقيم المحتسب وتعينه حتى يقوم برقابة نشاط الأفراد في مجالات خرق المثل، والقيم، والأخلاق، والدين، والاقتصاد
>[10] ، الأمر الذي أدى إلى أن تكون عمليات الاحتساب موجهة نحو سلوك الأفراد وانضباطهم، فانحسر بذلك مفهوم الاحتساب المجتمعي، الذي يمكن أن تمارسه مؤسسات المجتمع المدني، رقابة وضغطا على أعمال الدولة، لتكون وفقا للمصالح العامة ومقتضياتها.
[ ص: 118 ] لذلك لابد، في حالة اعوجاج تصرفات الدولة أو انحراف توجهاتها عن تحقيق مصالح الناس، من استحداث آليات مدنية ضاغطة لدفعها نحو الاستقامة والعودة بها للسير وفقا للمصالح العامة، دون تعريض استقرار الدولة والثبات فيها للخطر، وهذا هـو الأمر المطلوب الغائب عن كثير من عقلياتنا وممارساتنا في الساحة الإسلامية عموما، وهو من آثار حقبة الانعزال التي فرضت على الدين ليعجز عن ترشيد الحياة العامة.
ولأجل صلاح الحاكم، فقد رغب الشارع الحاكم في اتخاذ البطانة الصالحة، التي تحثه على الخير وتمنعه عن الشر، ولا تمسك عن إبداء النصح، وقد جرى العمل على هـذا في عهود المسلمين الزاهرة، فقد سأل كثير من الصحابة النبي (عن سبب تصرفه تصرفا معينا، كسؤال بعض الأنصار عن سبب إعطائه من الغنائم للمهاجرين ما لم يعط للأنصار،
>[11] وكانت هـذه الأسئلة ترد أحيانا في معرض
[ ص: 119 ] الاعتراض الذي يطلب الجواب عليه، وأحيانا في معرض الاستفسار، وأحيانا في معرض إبداء الرأي الآخر.
فمراقبة أفراد الشعب ونصحهم للحاكم كان أمرا معروفا شائعا ومألوفا لدى جمهور الشعب في صدر الإسلام، بل كان واقعا بالفعل، فكانت مراقبة السلطة، والنقد وحرية إبداء الرأي في مجال الحكم والمحاسبة للحكام، ماليا وسياسيا، مبادئ دستورية معترفا بها ومنصوصا عليها في الكتاب والسنة، وكانت عرفا من الأعراف السياسية السارية يومئذ
>[12] ؛ وبقي التسليم النظري بهذه المبادئ مستمرا بين المسلمين، خاصتهم وعامتهم، ولكن التطبيق العملي لهذا المبدأ أخذ في الضعف ابتداء من العصر الأموي، وكاد يهمل فيما بعد من جانب الحكام؛ الذين أصبحوا ملوكا وسلاطين على الطريقة الكسروية.
>[13] [ ص: 120 ] ولا بد أن نشير هـنا إلى أن نظام الإسلام قد عد ما سماه الغرب حقوقا سياسية واجبات دينية « واجبات كفائية »، أمرت الأمة بمجموعها بالقيام بها، تأثم عند التقاعس عن ذلك، خلافا للمصطلح المعاصر « الحقوق السياسية » الذي يعطي لصاحبه الحق في القيام به كما يعطيه الحق في التنازل عنه وعدم القيام به، الأمر الذي نتج عنه التعسف السلبي لاستخدام «الحق»، ولذلك سادت في أفق القانون والتشريعات الحديثة مناقشات واسعة حول الحقوق: هـل هـي (رخص) أم (وظائف) ؟ وهو خلاف كاد أن ينتهي إلى جعل «الحق» وظيفة، وهو ما سبقت الشريعة الإسلامية إلى حسمه منذ أربعة عشر قرنا.. فقد قرر الإسلام أن يقيم المجتمع على «مسئوليات» بدلا عن أن يقيمه على «حقوق»، ففي المسئولية إذكاء لإيجابية الأفراد، ويقظة للضمائر، وحركة وئيدة نحو الصالح العام.
>[14] وهذا ما تقرره خطبة الخليفة الأول، رضي الله عنه ، حين جعل وظيفة الأمة تجاه الخليفة هـي العون والتقويم، فكان الإسلام بذلك هـو الأسبق في ربط الحقوق والحريات العامة بالواجبات المجتمعية، إذ ناط هـذه الحريات بتحقيق المصلحة العامة،
( يقول النبي صلى الله عليه وسلم : كلكم راع [ ص: 121 ] وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته ) >[15] ؛
( ويقول : الدين النصيحة... ) >[16] .
كما ربط الإسلام خيرية الأمة واستمراريتها بحسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الله تعالى:
( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران:110) ،
( ويقول صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ) >[17] ..
( ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ... والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، [ ص: 122 ] ولتقصرنه على الحق قصرا... أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم ) >[18] .
( ويقول صلى الله عليه وسلم : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هـلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ) .
>[19] ولعل من أدق التعبيرات وأبلغها عن ذلك
( قول الرسول صلى الله عليه وسلم : قل الحق ولو كان مرا ) >[20] ( وقوله صلى الله عليه وسلم : ألا لا يمنعن رجلا هـيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه ) >[21] ؛
( وقوله صلى الله عليه وسلم : لا يحقر أحدكم [ ص: 123 ] نفسه، قالوا: يا رسول الله! كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أمرا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس.. فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى ) >[22] .
فهذه الأحاديث تدل بوضوح على وجوب ممارسة النقد وإبداء الرأي والقول الحق عند الحاكم، الأمر الذي يدل، من وجه آخر، على ضرورة إنشاء المؤسسات التي تقوم بهذا الأمر تجاه المؤسسة السياسية في هـذا العصر، أو يصبح ذلك جزءا من المؤسسة السياسية نفسها.