تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله المربي، الذي جعل القرآن سبيل الهداية للتي هـي أقوم،
فقال تعالى:
( إن هـذا القرآن يهدي للتي هـي أقوم ) (الإسراء:9) ،
والذي أدب الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه، ذلك أنه على الرغم من تنوع وتعدد محاولات ومشاريع الإصلاح والنهوض ونظريات التربية وسياساتها، لمعاودة بناء الإنسان الصالح للوراثة الحضارية، يبقى القرآن هـو منهج الإصلاح والصلاح، ومحور الهداية والاهتداء للتي هـي أقوم، ويبقى الاقتداء بالرسول الأنموذج، الذي كان خلقه القرآن، العنصر الأساس والفعال في إخراج الأمة من جديد.
والذي يجعل القرآن مؤهلا للقيام بمهمة إخراج الأمة من جديد، أن القرآن كان، ولا يزال، محل إجماع المسلمين، بكل فرقهم وتجمعاتهم ومذاهبهم ووجهاتهم.. ومن القرآن الكريم، ما تزال جميع الفرق والمذاهب والمناهج والتجمعات والجماعات الإسلامية تحاول اكتساب مشروعيتها، سواء في ذلك من قاربت الحق ومن باعدته.
[ ص: 5 ]
ولعل كون القرآن حمال أوجه، كما ورد عن سيدنا
علي ، رضي الله عنه هـو الذي جعل المجال رحبا والمدى واسعا للعطاء في حركة الفقه والفهم والفكر؛ وكون القرآن رسالة النبوة الخاتمة، التي انتهت إليها أصول الرسالات السماوية، وتجربة النبوة التاريخية من لدن
آدم عليه السلام وحتى بلوغ صورة الكمال والاكتمال، جعل من القرآن عمقا تاريخيا ومعرفيا وثقافيا وحضاريا ومنجم عبر وسنن وقوانين اجتماعية تتطلبها عملية النهوض، هـذا إضافة إلى أنه، قبل ذلك وبعده، وحي من من الله وبلاغ وبيان من المعصوم، نزل من خالق الإنسـان الذي يعلم من خلق، بكل مكوناته وحـالاته ومتطلباته وفطرته، فهو بذلك منطـلق الهداية للتي هـي أقوم، وسبيل معاودة بناء الإنسان الصالح، وإخراج الأمة من جديد، واسترجاع خيريتها.
وقد تكون الإشكالية الكبرى -فيما نرى- تتمثل اليوم في غياب المناهج وأدوات التوصيل والتواصل مع القرآن وصناعة وبناء سبل الهداية بالقرآن للوصول للتي هـي أقوم، ذلك أن القرآن بكل ما يمتلك من عطاء وتربية وبناء لا يثمر في فراغ، ولا ينبت في هـواء، على الرغم من عقيدتنا بأن أمر الله إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، إلا أنه إنما تتحقق هـدايته للبشر من خلال عزمات البشر، وخطط وبرامج من وضع العقل البشري، لتنـزيله على واقع البشر، والاجتهاد في تربية البشر على الطريق القرآني القويم، للوصول للحياة، التي هـي أقوم.
[ ص: 6 ]
ولعلنا نقول: إن نزول القرآن منجما، حيث استغرق تنـزيله على واقع الناس، ومعالجة مشكلات الحياة، ثلاثة وعشرين عاما، جعله يستوعب أصول القضايا والمشكلات الإنسانية جميعا، على مستوى الفرد والأمة والدولة والعالم، وأمكنه من تقديم الأنموذج المتكامل لكل الحالات التي يمكن أن تعتري البشر، بما فيها حالات الكمال بعد الاكتمال، حيث أصبح الأمر منوطا بالإنسان للامتداد بهداية القرآن للتي هـي أقوم، وذلك بوضع الأسس والمناهج التربوية وتنمية المهارات، وامتلاك القدرة على تجريد النص القرآني والأنموذج النبوي من قيود الزمان والمكان وتوليده في كل زمان ومكان، وامتلاك القدرة تربويا على وضع الحاضر، بكل مكوناته، في الموقع المناسب لمسيرة بناء الأنموذج.. وهذا الاجتهاد والفعل بلا شك ثمرة فهم بشري، وفقه بشري، وتربية بشرية للارتقاء بالفعل البشري للتي هـي أقوم.
والصلام والسلام على النبي القدوة، الذي ختمت به النبوة، وكمل به الدين، وتوقف عنده الوحي؛ وكان خلقه القرآن؛ الذي اعتمد العقل أداة لفقه الوحي، والامتداد به، والاجتهاد في تنـزيله على واقع الناس، وإبداع الوسائل والبرامج وتنمية المهارات للارتقاء بالإنسان للتي هـي أقوم.. لقد كان صلى الله عليه وسلم ، محل تجسيد قيم الوحي، بشرا من البشر، خضع لكل ما يخضع له البشر من الظروف والقوانين الطبيعية، في حمله، ومدة حمله، وولادته، ورضاعه، ويتمه، وصباه، وشبابه، وزواجه، وحياته، ومرضه، وشفائه، وخطئه وصوابه،
[ ص: 7 ] وغضبه ورضاه، ونصره وهزيمته، وموته... إلخ، الأمر الذي جعله أنموذجا لاقتداء البشر في حالاتهم كلها.
ولسنا الآن بسبيل بيان دور الأنموذج في التنشئة، والتزكية، وأهمية التربية بالقدوة، ودلالة تجسيد القيم السماوية في الفعل الإنساني للوصول للتي هـي أقوم، ذلك أن الاهتداء بالقرآن للتي هـي أقوم إنما يتحقق من خلال عزمات البشر -كما أسلفنا- في العلم والتعلم، والتزكية والتربية، والعبادة والدعاء، والمجاهدة والاجتهاد، والصبر على البلاء، والوقاية من التدسية، واحتمال الشدائد، والثبات على الحق، والرجوع عن الباطل، وشيوع المناصحة في العلاقات الفردية، والشورى في الحكم، واعتماد الخبرة والتخصص في العلم، وممانعة الشهوات والرغائب، وعدم الخلط بين الأمنيات والأمكانيات في تحقيق الأهداف، وتنمية المهارات، وتحقيق الرؤية الإسلامية في مجالات الحياة، والدلالة بالفعل الملتزم بالشرع على واقعية القيم الإسلامية وإمكانية تجسيدها في حياة الناس، والعمل على اكتساب المهارات اللازمة لحمل هـذه الأفكار، وترجمتها إلى أعمال وأفعال، ذلك أن الاهتداء للتي هـي أقوم ليس أمرا نظريا مجردا، وإن كان الفعل والممارسة لا بد أن يكون مسبوقا بالفكر والنظر، كما لا بد أن تكون الشجاعة مسبوقة بالرأي، والبرامج والخطط مسبوقة بالقيم والضوابط.. كما يقول الشاعر:
الرأي قبل شجاعة الشجعان*** هـو أول وهي المكان الثاني
[ ص: 8 ]
فعملية الاهتداء للتي هـي أقوم معاناة، وتربية وتزكية، وتعليم وتدريب وثقافة وحذق ومهارة، ومقاربة للأنموذج، وممارسة للحياة بكل جوانبها.
وبعد،
فهذا «كتاب الأمة» السادس بعد المائة: «مهارات التربية الإسلامية» للدكتور عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد المالكي ، في سلسلة «كتاب الأمة» التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية في دولة
قطر ، في محاولتها الدائبة لإعادة التشكيل الثقافي، وإخلاص النية، وتصويب الفكر، وإنضاج الرؤية قبل الفعل والممارسة، والإبقاء على ملف السؤال الكبير مفتوحا لمزيد من البحث والدراسة والتحليل والمقارنة والمثاقفة والمفاكرة والنقد والتقويـم والمراجعة: أين الخلل؟ ولماذا انتهينا إلى ما صرنا إليه؟ وما هـي الأسباب التي حالت بين الأمة والانتفاع بقيمها في الكتاب والسنة، أما الآثار والإصابات البالغة المترتبة على ذلك فهي واقع لا يغيب عن أحد؟ ولماذا لم تعد القيم في الكتاب والسنة تخرج أمة للناس، وتصنع خيريتها، أو تنتج أمة تحمل رسالة النبوة إلى العالم، وتعي رسالتها في إلحاق الرحمة بالعالمين، وتساهم بالعطاء الحضاري، على الرغم من خلود تلك القيم، الذي يعني -فيما يعني- قدرتها على الإنتاج في كل زمان ومكان، وعلى الرغم من تقديم الأنموذج والتجربة الحضارية الإنسانية التاريخية، الذي جسد هـذه القيم في حياة الناس، وحولها من أفكار إلى أعمال، ومن عقيدة وتصاميم ورؤى ذهنية إلى منتجات حضارية؟ لماذا
[ ص: 9 ] صارت الأمة إلى ما هـي عليه؟ لماذا تعيش حـالة التبعثر والتقطـيع والعجز والتخاذل، التي تعتبر من أشد حالات الوهن الحضاري، حيث بات يصدق فيها قوله تعالى:
( وقطعناهم في الأرض أمما ) (الأعراف:168) .
لقد تحولت الأمة المسلمة اليوم إلى طوائف منغلقة على ذاتها، كل طائفة مفتونة ومعجبة بفكرها، تكتفي بقراءة ذاتها بعيدا عن عالمها ومحيطها وأمتها، وتعتبر رؤيتها واجتهادها وتدينها دينا مقدسا، لا يمكن إعادة النظر فيه، على الرغم من الفشل الماثل المحسوس وعدم القدرة على العطاء المطلوب، حيث تفرقت إلى شيع ومذاهب وأحزاب، ونخشى أن نقول: انتقلت إليها علل التدين في الأمم السابقة من تفريق الدين، التي حذرت منها،
بقوله تعالى:
( ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) (الروم:31-32) .
وفي اعتقادنا أن هـذا السؤال الكبير، الذي يشكل هـاجسنا الدائم، سوف نستمر في فتح ملفه واستدعائه إلى ساحة التقويم والنقد والمراجعة والمثاقفة والمفاكرة، وحتى المناظرة وإعادة النظر، والذي يلخص حالة القلق المستمر: طالما أن القيم الإسلامية في الكتاب والسنة هـي منـزلة من الله خالق الإنسان، العالم بمكوناته ومتطلباته وحاجاته، وأنها خالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان، وقادرة على الإنتاج في كل زمان ومكان وإنسان، وأن لها من التجربة التاريخية الغنية، التي تشمل تجربة النبوة، كل النبوة، منذ
[ ص: 10 ] بدء الخلق وحتى الرسالة الخاتمة، التي مثلت بالنسبة إلى النبوة مرحلة الكمال والاكتمال، بكل ما فيها من أعماق في الماضي وآفاق للمستقبل، وحالات متنوعة من القوة والضعف، والنصر والهزيمـة، والفردية والجماعية، وجميع ما يمكن أن يلحق البشر من حالات إنسانية، لماذا هـي اليوم معطلة عن الإنتاج، وغير فاعله في معاودة إخراج الأمة؟
ذلك أن كل الدلائل الإيمانية والتاريخية والمنطقية تدل على قدرة تلك القيم على العطاء، في كل الظروف والأحوال والاستطاعات، وأن الأمة كلما أحسنت التعامل معها وفقهت تنـزيلها على واقعها تحقق لها التألق والارتقاء والإنجاز الحضاري والعطـاء، وكلما تخاذلت وعجزت وأخطأت في التعامل ولم تحسن اختيار أدوات الاتصال والتفاعل تراجعت وارتكست وتخلفت.
من هـنا نقول: إن كل الدلائل تشير تاريخيا أن مشكلة الأمة كانت دائما تكمن في الانسلاخ عن الإسلام، والفشل في التعامل مع قيمه، في الكتاب والسنة، وليس في الاستمساك به.. فالتاريخ هـو المختبر الحقيقي، والشاهد النـزيه والمحايد، بأن الأمة كلما أحسـنت التعامل ارتقت، وكلما عجزت وتخاذلت تراجعت وتجمدت ضمن أسوار التقليد وغياب الوعي عن الواقع ومتطلباته، وجعلت من ذلك دينا وقيما لا يجوز مناقشتها!
والأمر الذي لا بد أن تدركه العملية التربوية، بكل مكوناتها، وتعمل على استدراكه، أن المشكلة، كل المشكلة، إذن تكمن في كيفية التعامل، وأدوات التعامل والتوصيل والاتصال، وحسن فقه الحال وتنـزيل الأحكام
[ ص: 11 ] على واقع الناس، بحسب استطاعتهم، وربط التكليف بحدود الاستطاعة، وبكلمة مختصرة: في وسائل التربية.
وقد لا يكون من تكرار القول، وإنما الاستمرار في التأكيد وديمومة المحاولة لتعميق المنهج، وتصويب الرؤية: إن القيم الإسلامية والأحكام الشرعية تبدأ مع الإنسان من حيث هـو، من الحالة التي هـو عليها، وتتقرر تكاليفه والأحكام الفقهية المطلوبة له في ضوء استطاعته، وإن الإنسان إذا استفرغ وسعه واستطاعته في إنفاذ الأحكام والتكاليف المتناسبة مع استطاعته، وإمكانه، فقد طـبق الإسـلام كاملا بالنسـبة إلى حالته الاستطاعية، حتى ولو لم يستكمل جميع فروعه وأحكامه، شريطة أن يكون مؤمنا بها، ساعيا إلى بناء استطاعته لاستكمالها، وفي ذلك يترقى ويتربى بالقيم الإسلامية والتزام أحكام الشريعة على تطبيق كامل أحكام الشريعة عندما يتوفر له التمكين وكامل الاستطاعة.. وما لم يدرك ذلك في العملية التربوية والدعوية، فسوف تستمر حالة الترقب والقلق والارتباك والتخبط.
لذلك بالإمكان التأكيد أنه من العبث والتدليس والمخادعة الادعاء بأن الإنسان غير مؤهل في وضعه الحالي وغير مهيء لتطبيق الشريعة، وأنه لا بد من تهيئته، إذ كيف يمكن أن يهيأ بوسائل وأدوات ليست من الشريعة لتطبيق الشريعة والالتزام بالقيم الإسلامية؟! والحقيقة والتاريخ ومسيرة السيرة ونزول القرآن منجما، بحسب الحالات والاستطاعات، يدلل على أن الإنسان والمجتمع يهيأ بالشريعة لتطبيق الشريعة.
[ ص: 12 ]
فالادعاء بعدم إمكانية تطبيق الشريعة والقيم الإسلامية في عالم المسلمين، وأن المسلمين اليوم ليسوا على شيء حتى يطبقوا جميع فروع الشريعة، وأن المجتمع غير مهيأ وغير قابل لتطبيق الشريعة، هـو نوع من التضليل الثقافي والتربوي، قد يؤدي بكثير من المسلمين إلى التحول عن الموقع المجدي إلى القيام بمواجهات ودخول المعارك الخطأ، التي تفرزها وسائل التربية والثقافة ومؤسسات الفكر القائمة في الواقع الإسلامي، سواء أطلقت على نفسها إسلامية فقادتها إلى استنـزاف الجهد وهدر الطاقات في المعـارك الخطـأ والعيش دائما هـاجس القلق والمواجهة، أو كانت غير ذلك من العناوين التي تخترق العقل الإسلامي، وتدفع المسلمين إلى معارك جانبية والالتهاء باللمم والصغائر عن القضايا الكبرى.
وقد تكون المشكلة، كل المشكلة، هـي في نظامنا التعليمي، ومناهجنا التربوية، ومؤسساتنا الثقافية، حتى قد تصل الإصابة إلى مناهج العلوم الشرعية، إن لم نقل تبدأ منها، التي بدل أن تكون حلا ومنقذا تحولت لتصبح مشكلة.
إن العملية التعليمية والتربوية هـي المسئول الأول عن هـذا التخبط والارتباك والقصور والبؤس الفكري؛ هـي المدانة أولا وآخرا؛ هـي المسئول عن كل شيء؛ لأن رؤية الإنسان وسلوكه محكوم بتنشئته وثقافته، وحقول تدريبيه، واكتساب مهاراته، واختيار مواقفه، وأدواته، في التعامل مع القضايا وتقويمها والحكم عليها.
وفي تقديرنا أنه مهما كان أثر الغزو الثقافي والإغراق الإعلامي وتنوع التحديات الخارجية الضاغطة والتحكم الفكري والمعلوماتي، فإن التربية
[ ص: 13 ] بشكل عام، والتربية الإسلامية بشكل خاص بل أخص، هـي المسئول عن تلك الإصابات جميعها؛ ذلك أن الكثير من جوانبها، باختصار، ما يزال في حالة غيبوبة عن الواقع، رغم التحديات والمتغيرات، فهي لا تعد الإنسان لعصره ومجتمعه ومشكلاته، وتفتقد البصيرة للمتغيرات والتحديات، فتقوم بوظيفة الوقاية لإنسانها من الإصابات والأزمات وتحصنه وتملكه أدوات تحقيق الممانعة الثقافية، كما المطلوب منها أن تكون قادرة على إعداد إنسانها وإكسابه المهارات المطلوبة لإدارة الأزمة حال وقوعها، إضافة إلى ضرورة بناء القدرة على تجاوز الأزمات والواقع، بحيث لا تسـتغلق أمامنا الأزمات أو نغلقها على أنفسنا، فنعجز، ونتأزم، وعندها تصاب التربية، وتعجز عن القيام بدورها بما يمكن أن نطلق عليه «أزمة التربية» أي تتحول من تربية التعـامل مع الأزمـات أو تربية الأزمات إلى أزمات التربية.
وإن الكارثة الثقافية والتربوية، تبدأ عندما تتحول التربية من تربية لكيفية التعامل مع أزمة إلى أزمة تربية، وبذلك يصبح الكثير من العناوين والشعارات بدون مضامين وشعائر، وتصبح القيم والأفكار نظرات ومعارف باردة عاجزة عن أن تنشئ سلوكيات فاعلة، وتحاول أن تجد مبررا وفلسفة لتغطية فشلها، ومسوغا للدفاع عن نفسها، بأنها أثبت وجودها وصلاحيتها، وأنها كانت سائدة ومنتجة في عصر معين ولإنسان معين، ويفوتها أن التغيير سريع لا يكاد يلحق، وأن الصور والقضايا تتدفق وتتتابع لدرجة لا تدرك، وقد يحكمها مدلول قوله تعالى:
[ ص: 14 ] ( قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ) (النمل:40)
لا قوله تعالى:
( قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ) (النمل:39) .
فإذا كان الشاعر في عصر مضى، عندما كانت وسائل نقله الإبل والحيوانات ومقاييسه الشبر والذراع والقدم، قد قال:
لحظة يا صاحبي إن تغفل ***ألف ميل زاد بعد المنـزل
فكيف بالشاعر اليوم لو أبصر إيقاع العصر وسرعته، ماذا كان سيقول، حيث السرعة تخطف الأبصار، واللحظة تستوعب ما لم تستوعبه الساعات والأيام بل والسنوات؟
إن غفلة اللحظة اليوم تكاد تفقدنا بوصلة الاتجاه فلا نعود نعرف موقع منازلنا، وتفقدنا وحدة القياس فلا ندرك المسـافات المطـلوبة، كما تفقدنا إبداع وسائل النقل والمواصلات الموازية للعصر، فكل لحظة تبعدنا عن منازلنا، لأننا نكصنا عن رسالتنا وآثرنا الراحة، وغبنا في سبات عميق؛ فكيف ندعي تربويا، والحال كذلك، بأننا نحضر أبناءنا لعصرنا؟ وهل لنا اليوم عصر بين العصور؟
ولعل الإصابة التي تعاني منها وسائلنا التربوية في أنها ما تزال تعيش في العصر الرعوي، أو العصر الزراعي، بكل مضامينه وعلاقاته، بينما العالم اليوم يعيش العصر الإلكتروني .
[ ص: 15 ]
ماذا يفعل بنا اليوم عفاريت الإنس الذين يأتون بكل عجيب وغريب، قبل أن يرتد إلينا طرفنا، ونحن ما نزال نتمترس وراء أسوار سميكة وقوالب جامدة وقيود من التقليد ودوائر يزيدية نحاصر بها أنفسنا، ونظن أنها من الدين، وأنها معصومة، مع أنها من وضع واجتهادات البشر، وأنها قد تكون أثبتت صلاحيتها في عصر وإنسان في الماضي، وبذلك نفتقد العين السحرية الدقيقة في العملية التربوية، التي تبصر -فيما تبصر- المتغيرات الهائلة والسريعة للحياة، وتبصر ضرورة إعادة النظر في السياسة التربوية والمناهج التربوية والوسائل التربوية، وأساليب ومجالات تنمية المهارات التربوية، وتدرك أهمية التقويم والمراجعة والقياس وأن الجمود والتوقف يقتل روح الأمة، ويفقدها قدرتها، فتبقى جثة هـامدة بلا روح، بلا قدرة، وبلا إرادة، وتتحول قيمها إلى شعـار معلق في الهواء بلا شعيرة وحركة، وفكر مجرد بلا فعل ولا فاعـلية، وذاكرة جامدة بلا ذكاء، وعاطفة وحمـاس وتدين بلا عقل، أو في أحوال كثيرة أخرى عقل جاف بلا عاطفة ولا دين، فتتحول من ميدان التنمية والعطاء وتمكين الإنسان من التعامل مع عصره وإكسابه الرؤية والمهارات المطلوبة، إلى مقبرة تقضي على كل فكرة وإبداع وعطاء وإنتاج وتفكير بالتغيير؛ ونتوهم أن أي تفكير بالتغيير مساس بالقيم الدينية (!) أليس اسمها تربية إسلامية (؟!) لذلك فالناقد لها أو المناصح للقائمين عليها يصبح آثما عدوا لقيم الوحي المعصوم، وبذلك تتحول التربية إلى عبء ومشكلة بدل أن تكون حلا، وتصبح إحدى وسائل تكريس التخلف.
[ ص: 16 ]
والخطورة هـنا، أن ذلك كله يتم باسم الدين، الذي يناط به الإنقاذ والحماية والنمو والعطاء والتمتع برؤية تنطلق من عمق الماضي، من بدء الخلق، وتمتد إلى نهاية المستقبل، عندما ينشئ الله النشأة الآخرة.
فهل يدرك القائمون على التربية أبعادها، ووظيفتها، ودورها، ورسالتها، ووسائلها المتطورة؟ هـل يدركون أولا وقبل كل شيء أن ذلك اجتهاد بشري، ومن وضع البشر، وهو أنه قابل دائما، حتى في الزمن والعصر الواحد، إلى ديمومة النقد والمراجعة والفحص والاختبار والتقويم والقياس؟
وقد تكون إشكالية الجمود والعجز والتقليد – كما نؤكد دائما- تكمن في عدم التفريق بين قيم الدين ونصوص الدين في الكتاب والسنة وبين اجتهادات البشر، والتوهم بأن الاجتهادات المتولدة من القيم والنصوص هـي من المقدسات، ومراجعتها من المحرمات، وأن المس بها هـو مس بقيم الدين وأصوله، وأن هـذه الاجتهادات معصومة ومتيقن من صوابيتها كقيم الدين، أليس مرجعيتها قيم الكتاب والسنة (؟) فلماذا لا تستمد قدسيتها وعصمتها من عصمة القيم الثابتة الصحيحة في الكتاب والسنة (؟!)
وهنا مكمن الخطر كله، وذلك عندما تلتبس الذات بالقيمة، وقيم الدين بصور التدين، ونص الشارع بفهم الشارح؛ مع أن التربية الإسلامية، بمناهجها وأصولها وتدريسها ووسائلها الـمعينة وسياستها ووسائل قياسها وتقويمها، هـي اجتهاد من الاجتهاد الذي يجري عليه الخطأ، كما يجري عليه الصواب، ويخضع للفحص والتقويم والنقد والمراجعة والتطوير، في ضوء المكتسبات الجديدة والمتغيرات الاجتماعية.
[ ص: 17 ]
ولعلنا نقول هـنا: أليس من البؤس أن تعجز التربية الإسلامية اليوم حتى عن استيعاب المتغيرات وكيفية التعامل معها، في الوقت الذي يطلب منها السير في مقدمة المجتمعات، وصناعة المتغيرات، بتغيير ما في النفوس إلى التي هـي أقوم، ووضع الأوعية الشرعية السليمة لحركة الأمم والمجتمعات؟ وتخليص الشباب المحقون بالحماس من الانفجارات العشوائية.
ذلك أن الأمر المحزن حقا أنـها لم تعد تدرك وتسـتوعب الحاضر، وتعد إنسانها له –كما أسلفنا- فأنى لها استشراف المستقبل واستطلاعه ومسابقته؟
وفي تقديرنا، أن هـذا السبات العميق والمخيف والعجز القاتل للفاعلية إنما هـو بسبب غياب التخصص السليم، الذي سوف يؤدي غيابه حتما إلى تراجع الإمكانات وغياب الخبرات، حتى ولو غطينا الساحة التعليمية بكثير من الجامعات والكليات والعناوين؛ لأن الناتج عن ذلك كله شاهد إدانة، يوبخنا ويدلل على فشلنا، ويؤكد الفهم المعوج وأحيانا المغشوش لوسائل تعاملنا مع النص أو مع القيم في الكتاب والسنة.
فإذا كان الاجتهاد سائغا في محل النصوص، والنظر في مدى توافر الشروط والظروف لتنـزيلها على واقع الناس، وبيان الاستطاعات التي تحدد مساحة التكليف في أحكام الحلال والحرام، والفعل والـكف، والأمر والنهي، فكيف لا يكون الاجتهاد مفتوحا بكل الاتجاهات في المسائل التربوية، والمناهج التعليمية ، والوسائل المعينة، ومعايير القياس والتقويم ، وكل هـذه القضايا؟
[ ص: 18 ]
وإشكالية أخرى قد لا تقل خطورة وأثرا عن سابقاتها، وهي في عدم الإدراك أن قيم الوحي الثابتة في الكتاب والسنة هـي مبادئ عريضة، وسياسات عامة، وقيم مرجعية ضابطة للمسيرة، وموجهات عامة، وأن هـذه القيم والمبادئ بطبيعة عمومها حمالة أوجه، كما أثر عن سـيدنا
علي ، رضي الله عنه ، وأن ذلك يتيح مجالا بل مجالات ليذهب العقل في كل الساحات والميادين، ويبصر من كل الزوايا، ويناقش جميع الاحتمالات، ذلك أن القيم الضابطة تشكل إطارا مرجعيا ليبقى للعقل ميدان اجتهاده الفسيح، ضمن الوجهة والانضباط بالمنهج.
أما البرامج والخطط والوسائل وكل متطلبات الحياة، فهي من وظيفة العقل، واجتهاده القابل للصواب والخطأ والتغيير والتطوير.
ومن هـنا نقول: إن كتب التربية الإسلامية ونظرياتها واجتهاداتها ليس هـي الإسلام أو القيم الإسلامية التي لا تمس، وإنما هـي اجتهادات ورؤى وبرامج وخطط، سميت إسلامية لأنها منطلقة من القيم، أو لأن مرجعيتها القيم في الكتاب والسنة، إنها في حقيقتها رؤية في ضوء القيم، ليس بالضرورة أن تكون الصواب المحض، أو الصواب بكل الظروف والعصور، مهما تبدلت، شأن القيم الإسلامية ذاتها في الكتاب والسنة.
إن التفكير بأن رؤى التربية الإسلامية، بكل شعبها المتنوعة بتنوع أصحابها وتباين وجهات نظرهم أحيانا، هـي دين الإسلام، والمحاولة بتحويل النصوص من قيم ضابطة للمسيرة ومبادئ عامة وإطار مرجعي للاجتهاد
[ ص: 19 ] والعقل البشري إلى برامج وخطط، ومحاولة تحميل الآيات والأحاديث والبرامج والاجتهادات ما تحتمل وما لا تحتمل لحمايتها والتدليل على أنها القرآن والسنة، يعتبر من الإصابات الكبرى التي عطلت القيم عن العطاء والإنتاج، وحاصرت مرونتها وآفاقها وأمداءها برؤية العقل القاصرة والمحدودة، بزعمها أن البرامج والخطط هـي القيم، وهي الدين، وأنها معرفة وحي، وهي في الحقيقة معرفة عقل واجتهاد عقل.
وهنا قضية جديرة بالتبيين والتوضيح والتوقف عندها بما يسمح المجال، وهي أن ما يطلق عليه مصطلح «التربية الإسلامية»، مناهجها وخططها ووسائلها ومهاراتها، صحيح أنها من اجتهاد العقل، وأنه يجري عليها الخطأ والصواب، والتصحيح والإلغاء، والتعديل والتطوير، إلا أنها تختلف وتتميز عن غيرها من ألوان التربية وأجناسها في أنها مؤطرة بمعرفة الوحي، ومقومة بها، وأن وسائل تقويمها ليست من وضع الإنسان، التي يجري عليها الخطأ والصواب والتحيز والخلل، بحيث يصبح اجتهاد الإنسان هـو موضوع التقويم وهو وسيلة ومعيار التقويم في الوقت نفسه.
لذلك بالإمكان القول: إن معايير القياس والتقويم والمعايرة والنظر والمراجعة في التربية الإسلامية هـي قيم ثابتة، مستمدة من معرفة الوحي المعصومة، لا ينالها التحيز والاهتزاز والتناقض، وبذلك تتميز عن غيرها من الفلسفات والرؤى الأخرى.
[ ص: 20 ]
لكن في كل الأحـوال تبقى التربية الإسـلامية، بكل آفاقها، اجتهاد من الاجتـهاد، الذي يجري عليه ما يجري على الاجتـهاد بشكل عام، حتى لو تميزت بمنطلقها ومرجعيتها وأهدافها ووسائل تقويمها وتصويبها.
إن هـذه الإصابة الخطيرة قد تستدعي، أو يترتب عليها، تحميل الآيات والأحاديث ما لا تحتمل من اجتهاد البشر، في محاولتهم لتعصيم اجتهادهم والحيلولة دون نقده ومراجعته وتطويره، وذلك بالاحتماء وراء القيم المعصومة في الكتاب والسنة، ذلك المنـزلق الخطير الذي يقع فيه كثير من الناس، بحجة أن القرآن تضمن كل شيء، وأتى بكل شيء، وكأنه لا دور للعقل ولا اجتهاد ولا فاعلية له.
فمعرفة الوحي –كما أسلفنا- قيم وموجهات ودلائل ضابطة لمسيرة الحياة، وليست أنظمة وبرامج وخطط وأدوات، وينسحب ذلك على معظم شعب المعرفة ولا يقتصر على المجال التربوي فقط، فهي قيم ضابطة للمسيرة، ومنطلقات ومحددات، وليست علوما ونظريات في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية وغير ذلك، وإن كان حقل التربية هـو الأبرز والأكثر اتساعا؛ لأن القرآن إنما جاء لبناء الإنسان الصالح؛ والإنسان ينشئ بعقله العمران والحضارة، ويكون الوارث، بمؤهلاته، للحضارة الإنسانية.
ولعل التربية الإسلامية وسائر الأنشطة المعرفية، مما يطلق عليه مصطلح الاقتصاد الإسلامي، وعلم الاجتماعي الإسلامي، ونظرة الإسلام السياسية...إلخ، تتميز عن غيرها بمنطلقاتها وأهدافها التي تحددها قيم الوحي
[ ص: 21 ] في الكتاب والسنة، التي تضبط مسيرتها، وتحول دون انفلاتها وانحيازها وذاتيتها وعنصريتها، وتجعل موازين نقدها وتقويمها موضوعية بعيدة عن الأهواء، في الوقت الذي تتحكم الذاتية والانحياز بنظرات ونظريات منطلقها ومرجعيتها هـو الإنسان نفسه، كما تتحكم أكثر فأكثر بمعايير النقد فتفقدها موضوعيتها وصوابيتها.
وقد يكون غياب النقد والتقويم والمراجعة عن مجال التربية الإسلامية هـو بسبب النظرة المغلوطة لها، وإحاطتها بهالة من القدسية تركت الكثير من الخوف والرعب الفكري من المساس بها، فأدى ذلك إلى قدر من الجمود والتقليد والاستنقاع وانكماش الإبداع والتجديد.. ولسنا بحاجة الآن لبيان دور النقد والتقويم في التصويب والترقية والإبداع والتجديد والإنتاج نفسه، الذي حرمت منه كثيرا التربية الإسلامية، وحسبنا أن نقول: إن النقد والمراجعة والتقويم هـو ركن من أركان عملية البناء التربوي والثقافي.
إن نظرة التقديس وغياب النقد والتقويم أعطى لونا من الأمن والاطمئنان الخادع، وأقول: والجراءة، وليس الجرأة، لكثير من غير المؤهلين وغير المتخصصين من حاطبي الليل دخول المجال التربوي بكل ميادينه، على خطورته وأهميته، والكتابه فيه، بل والتأليف فيه وإلقاء المحاضرات؛ لأنهم بمأمن من النقد والمراجعة، فهم يدعون أنهم لا يتكلمون من عند أنفسهم وإنما يبلغون رسالة ربهم (!) وعلى المتلقي أن يقبل ويسمع دون أن يفكر ويختبر ويقوم ويراجع؛ لأن ذلك دين، وأي مناقشة أو نقد قد يؤدي إلى
[ ص: 22 ] التأثيم والفسوق والزندقة، وبذلك تحول الأمر إلى نوع من الوصـاية والكهانة على البشر وممارسـة عقود الإذعان، كما يقال.. ولعل هـذه الجراءة في الإقدام لا يمارسها إلا جاهل لم تؤدبه المعرفة، ولم يعرف حدود نفسه وحقيقة التربية.
إن التجمد في قوالب بعينها، واعتبارها من الثوابت، وبذل الجهد في الدفاع عن صوابيتها، على الرغم من الفشل في النتائج، والتحول بالمشكلة إلى الإلقاء بالتبعة على العامل الخارجي تارة، وضعف استعداد المتلقي أخرى، يشكل إدانة لوسائلنا وأساليبنا التربوية، التي لم تضع في اعتبارها العامل الخارجي، كما أنها لم تستوعب قابليات وظروف ومحيط المتلقي، الأمر الذي يعتبر من الأبجديات الأولى في العملية التربوية.
لذلك قلنا ونقول: إن الفعل التربوي، أو البرامج والوسائل التربوية، بطبيعتها دائمة التغير والتطور والإبداع والتجديد؛ لأن محلها المتلقي، ومجتمعه دائم التغيير والتغير والتطور، وأن أي جمود أو توقف فيها يعني العجز عن التقاط الفرص والقدرة على التعامل معها في ضوء الإمكانات المتوفرة والظروف المحيطة.. فالثبات هـو في الحقيقة للقيم والأهداف البعيدة والنهائية والمنطلقات المحددة للوجهة، أما البرامج والوسائل والأدوات والأهداف القريبة، التي تتحول في السيرورة العامة إلى وسائل ولبنات في البناء النهائي، فهي متغيرة، متحركة، متجددة دائما.
فالحركة نمو، والثبات موت، في الفعل التربوي.
[ ص: 23 ]
إن التعرف على واقع المجتمعات، من خلال القيام بروائز مدروسة واستطلاعات دقيقة حول اتجاهات الرأي العام، وامتلاك أدوات القياس لهذه التوجهات أو الاتجاهات، وبناء الخطة التربوية على حقائق قائمة وتمهير (من تنمية المهارة) المتلقي لفهمها والتعامل معها، هـو رؤية التربية القائمة على الحقائق والواقعية البعيدة عن الأوهام والطوباوية.
ولعل القدرة على إبراز أنموذج الاقتداء واستيعاب أهميته، أو التربية بالقدوة بشكل عام، هـي من أعلى درجـات العملية التربوية وأبعدها تأثيرا –كما أسلفنا- ولدينا كنـز ثر ومنجم غني يمكن أن يمدنا بالرؤية التربوية لكيفية التنشئة والتعامل مع المواقف، بما يمتلك من المرونة والرحابة في العملية التربوية، وكيفية تنـزيل القيم والمبادئ على الواقع، بوضع الخطط والبرامج الواقعية الملائمة للحال التي عليها الناس، ومن ثم ترقية هـذا الواقع، والارتقاء به، واستيعاب الظرف والمشكلات الإنسانية، وعدم الارتباك والتعسف والعنف والمغالاة والغضب والحماس، الذي يغيب العقل، وقد يقود إلى شر العمل.
إن الخصائص والصفات التي تجعل من الرسول المعلم الأول، والمربي الأول، ومحل التأسي والاقتداء في العملية التعليمية والتربوية، تتمحور في كونه بشرا، جسد القيم في شخصه، في تعامله في مجالات الحياة جميعا، في الأسرة وعلاقات الزواج، والأبوة والبنوة، وعلاقات الجوار، وعلاقات الصداقة، وفي العلاقات مع المعاهد والمحارب والكتابي، والسلم والحرب.. ولو لم يكن بشرا خاضعا لما خضع إليه البشر، في حمله وولادته ورضاعه وشـبابه
[ ص: 24 ] وشيخوخـته ومرضه وصحته وقوته وحياته، لما أمكن أن يشكل الأنموذج الكامل للاقتداء، لذلك فسيرته هـي التطبيق العملي لقيم الكتاب والسنة على واقع الناس، لكن المشكلة فيما حذر منه الله سبحانه وتعالى :
( أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ) (المؤمنون:69) ،
نقول هـذا على الرغم من المساحة الكبيرة التي تحتلها كتب السيرة، من التأليف، وإعادة التأليف، بسطا أو اختصارا، في مكتباتنا وجامعاتنا.
لكن الإشكالية الكبيرة تكمن في عدم البصيرة في الاقتداء، وعدم الفحص والاختبار للحال الذي نعاني منه وما يماثله ويوازيه في مسيرة السيرة، أي بما يشكل فعلا محل الاقتداء للحال التي عليها الناس.. وكثير من المربين من الآباء والمعلمين وغيرهم يفشلون في العملية التربوية؛ لأنهم يريدون حرق المراحل وتجاوز سنة الأجل، فلا يعترفون للطفل بطفولته، ويعاملونه معاملة الراشد، بعيدا عن الاعتراف بحاجاته وكيفية التعامل معها، يحاولون حرمان الطفل من طفولته، ويحملون عليه عقل الكبار، ويحملونه ويحاسبونه على ذلك، فتلحق به إصابات نفسية وعقلية قد لا يمكن معالجتها.
إن التعسف في عملية الاقتداء، وعدم الفقه بموطن الاقتداء بالنسبة إلى الحال التي عليها المتلقي أو المتلقون، ينتهي بنا إلى الفشل والخسارة الفادحة لهذه المناجم التربوية الغنية والثرية، وقد يدفع الكثير منا، ممن لا يفرقون بين الصورة والحقيقة، إلى تحمـيلها أسباب الفشل، ومن ثم يدعو للخروج منها أو الخروج عليها، والارتماء على (الآخر) كرد فعل للانكفاء السلبي.
[ ص: 25 ]
ولعل من المفيد أن نشير إلى أن الرؤية في التربية الإسلامية هـي رؤية شاملة، بريئة من العنصرية والحزبية بكل أشكالها، بمعنى أن من مهمتها ووظيفتها تنشئة الإنسان الصالح المؤهل لوراثة النبوة، للوراثة الحضارية، المؤهل لكيفية التعامل مع الحياة بكل جوانبها، فمحلها الإنسان، وحدودها الدنيا بكاملها، والإنسان أينما كان، ورسالتها تزويد الإنسان بدليل عمل للتعامل مع الحياة ونماذجها المختلفة من البشر، وإمكاناتها المتنوعة والمتعـددة، وظروفها المختـلفة، وأزمنـتها المتعددة والمتطورة؛ أو بكلمة مختصرة: ليس محلها المدرسـة، التي هـي بلا شـك ميدان تعليم وتدريب، إنما محلها تقديم رؤية للحياة كلها، والناس جميعهم، ورؤية للشعب المعرفية المختلفة والعلوم المختلفة، من حيث منطلقاتها وأهدافها وأهمية النبوغ والإتقان فيها، فالمدرسة هـي أنموذج وميدان تدريب مصغر، أو هـي كمثل تعليم السباحة في بحيرة ذات شروط معينة ومن ثم امتلاك القدرة على ممارسة السباحة في البحار الكبيرة والمحيطات الضخمة.
فالمجتمع بكل جوانبه هـو ميدانها، والمدرسة هـي أنموذجها، وشأن المسجد في ذلك شأن المدرسـة من الناحية التربويـة، فالأرض كلها مسجد، والحياة بكل وظائفها معـبد وهي ميدان الفعـل الإنساني المنطلق من القيم الإسلامية.
وقد يكون الافتقار إلى مركز الرؤية الواضح المحدد بدقة لأبعاد العملية التربوية وركائزها ومنطلقاتها ورسالتها ورسائلها وأهدافها، بسبب من
[ ص: 26 ] غياب الاختصاص والموضـوعية، وغلبة الحمـاس والعاطفـة على كثير من العاملـين في حقـل التربية، والخلـط بين وظيفـتها وأدوات الوعظ والدعوة والإرشاد والخطب الحماسـية، هـو من الإصابات الكبيرة والخطيرة؛ لأن الجهود عندها تتحرك في الفراغ، تتحول إلى أشبه ما يكون بطحن الماء.
هذا إضافة إلى ما يمكن أن يحصل من هـيمنة ووصاية واحتكار لهذه المجالات، بسبب من غلبة النـزعة الحزبية والتعصب، حيث يقدم أهل الولاء للشعارات والحزبيات والجماعات لملء هـذه الميادين الخطيرة، ومن ثم حراسة ما يمكن أن يكون من أخطاء قاتلة، حماية للأشخاص ومواقعهم الحزبية، ويغيب عنها أهل الثقة والخبرة والاختصاص، لافتقارهم إلى الانتماء الحزبي أو المذهبي، فتأتي المنتجات التربوية سياسية وكأنها نشرات حزبية وخطاب خاص، لتفرخ أتباعا وولاءات، بدل أن تكون تربوية تخصصية موضوعية تفيد من كل خبرة وعلم وحكمة، حتى ولو وجدت عند (الآخر) ، فهي ضالة يفتش عنها، ونتنهي إلى حرمان الحقل التربوي وغيره من الحقول والشعب المعرفية كثيرا من أزكى الخبرات وأنضجها، وأميز الكفاءات وأرقاها، ويكون هـذا سببا في ردود الفعل والتمزق والتبعثر والخروج والتمرد والانفجارات الاجتماعية والتربوية.
[ ص: 27 ]
ولعل السيرة النبوية التي حولت القيم إلى برامج، والفكر إلى فعل، وعالجت في مسيرتها الكثير مما يمكن أن يكون من إصابات ونزعات، تبقى دليل العمل في البناء التربوي والحماية التربوية، على حد سواء.
فالسيرة، كأنموذج للاقتداء والتأسي وتجسـيد القيم النظرية والاعتقادية في برامج عملية وأفعال سلوكية (مهارات) ، تشير من أكثر من وجه إلى أهمية وضرورة التدريب وبناء المهارات، التي تمكن الإنسان من حسن التعـامل مع الحياة، حيث التدين هـو بناء السـلوك الأقوم وصـنع الحياة الأفضـل وليس الهروب والانسحاب منها واجترار القيم والنظريات واكتناز المعارف الباردة والجامدة.
لذلك نعتقد أنه أصبح من الأهمية بمكان اليوم التفكير بكيفية تنمية المهارات وإبداع وابتكار الوسائل المناسبة، وتطوير هـذه الوسائل، والتوسع في مدلول المهارات، خاصة في مجالات التربية الإسلامية، وعدم اقتصارها على مهارات القراءة والكتابة والتفكير والحفظ والاستماع والحوار والبحث... على أهميتها وضرورتها، وإنما يقع تحت هـذا المدلول، في رأينا، جميع متطلبات التعامل مع الحياة والانخراط فيها.
إن مجرد التفكير باكتشاف المهارات ووسائل تنميتها والتمرين والتدريب على ذلك هـو خطوة في الاتجاه الصحيح للتحول من النظري إلى العملي، ومن القول إلى العمل؛ فلقد قضينا ردحا من أعمارنا وأوقاتنا نقول
[ ص: 28 ] كثيرا ونعمل قليلا، فهلا نعزم، حتى من مراحل التربية الأولى، على التدريب في أن نفكر كثيرا ونقول قليلا، وتأخذ المهارات بعدها الحقيقي فتخرج التربية نماذج، بل معالم مضيئة على الطريق المظلم؟!
لقد أصبحت مراكز التدريب والمختبرات جزءا من العملية التربوية والتعليمية؛ فالجامعات والمعاهد المتخصصة بدراسات العلوم التجريبية تقيم المختبرات والمعامل التي تشكل اختبارا للمعلومات النظرية، وتمنح اليقين المادي بحقائقها، وتدفع للتفكير والإبداع والاختراع والتوليد، وتكون نواة للفعل في الحياة، ذلك أن هـذه المختبرات تصنع النماذج وتدرب عليها، وتحول الفرد إلى الحياة للامتداد بها، وتحويلها إلى مكتشفات وصناعات تحقق ارتقاء الأمة.
وليس الأمر بأقل شأنا اليوم في مجال الدراسات الإنسانية والاجتماعية، حيث تقام إلى جانب الجامعات مراكز للبحوث والدراسات والتدريب لاختبار المعارف، وكيفية توظيفها، وامتلاك القدرة واكتشاف السنن والقوانين المعينة على فهم الحياة وسيرورتها وقوانينها وأشخاصها، وامتلاك القدرة على إدراك العواقب والمآلات، من خلال مراقبة قوانين الحركة الاجتماعية ومكونات الإنسان، لاستطلاع الغد واستشراف المستقبل، حتى يمكن القول: بأن العلوم الإنسانية كنظريات صيغت في مراكز البحوث والدراسات، حتى تكاد تتحول اليوم إلى قوانين لا تخطئ كثيرا مثلها مثل قوانين المادة الملموسة.
[ ص: 29 ]
وبعد:
فهذا الكتاب يمكن اعتباره، إلى حد بعيد، مساهمة مقدرة ومأمولة لتحريك الرواكد، وخطوة على الطريق الطويل، أو نقب في الجدار المسدود، نأمل أن يتسع ويتسع ليصبح التقويـم والمراجعـة لازمة من لوازم التربية الإسـلامية، ذلك أن التربية، رضينا أم رفضنا، هـي المسئول الرئيس بل والمدان الأول عن الفشل الذي نعاني منه، على الرغم من كثرة العوامل الأخرى.. فالتربية من مسئوليتها إبصار العوامل الأخرى وإعداد الإنسان للتعامل مع عصره ومجتمعه، وإبصار التحديات، وكيفية التعامل معها، وامتلاك القدرة على تحويلها من نقم إلى نعم، ومن سبب للفساد والانحلال إلى استشعار التحدي وإقامة البناء الصلب، بل وامتلاك القدرة على التجاوز.
وقد يكون المطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، استشعار التحدي وإدراك أسباب التخلف والتراجع ومن ثم إعادة النظر في واقعنا التربوي، حيث تركزت اهتماماتنا وأنشطتنا العلمية ومعاهدنا الأكاديمية ومدارسنا وكتبنا الإسلامية في التربية وغيرها، على الحديث عن عظمة الإسلام وخصائصه وقدراته وصحة نصوصه، فيما يمكن أن يتمحـور جميعه حول ما نسميه: «إثبات النص» و «تحقيق النص»، ولم نبذل إلا القليل القليل من الجهد والتفكير حول وسائل وأدوات وشروط إعمال النص وبناء المهارة والملكة الفقهية، لتنـزيله على واقع الناس.
والحمد لله رب العالمين.
[ ص: 30 ]