المبحث الثاني
خصائص التربية الأخلاقية
اختصت التربية الأخلاقية الإسلامية بخصائص شتى.. امتازت عن سواها بالأصالة حقيقة وحكما، نظرا وعملا، ولا يمكن الكلام عن هـذه الخصائص بدون الإحاطة بمعاني التربية الأخلاقية وعلتها وحكمتها؛ لأن من يتدبر كتاب الله العظيم وسنة رسوله المطهرة، ثم يستعرض السيرة المعطرة يجد أن الغاية القصوى لكل أحكام الشريعة الغراء هـي التزام المؤمن بالأخلاق الفاضلة، اعتقادا وفكرا، سلوكا وتطبيقا، لأن الشريعة كما بينا هـي المنبع الصافي الذي يجب على المؤمن أن ينهل منه فلسفته الروحية والأخلاقية، وهي بالجملة الموجهة له في الحياة والمعاملات وشتى المظاهر الاجتماعية.
ولم تشرع الواجبات والعبادات، إلا لتذكير المسلم بحكمة الأخلاق ومعانيها وتركيزها في قلبه، وصقلها في ذهنه، وإعادتها على مسامعه مرات ومرات يوميا، إذ بين سبحانه وتعالى الحكمة من إقامة الصلاة بقوله:
( ( وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) ) (العنكبوت:45)؛
وحكمة الصوم في الوقاية من الخلق السيء، قال المربي الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم:
( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله [ ص: 51 ] حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) >[1] وبين تعالى الحكمة الخلقية للزكاة في تطهير النفس من الأمراض المعنوية بقوله:
( ( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) ) (التوبة:103) ؛ وحكمة الحج في التواضع والمساواة والإيثار قال تعالى:
( ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب ) ) (البقرة:197).
وما أحيطت الأخلاق بالعبادات وربطت بوحي السماء إلا لتقديسها وتقديس معانيها؛ لأنها تصدر عن عقيدة مقدسة، وبذلك تنبع من أعماق النفس سلوكا صادقا مخلصا، فلا تصدر مجاملة ولا نفاقا.. ولما كان لحسن الخلق هـذه المنزلة العالية عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والناس، كان حريا بصاحبه أن لا ينتسب إلا إلى خلقه، فهو حسبه ونسبه وشرفه كما بين المصطفى صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله:
( كرم المؤمن تقواه، ودينه حسبه، ومروءته خلقه ) >[2] .
فلا قيمة عند الله تعالى للصلاة ولا للزكاة ولا للصيام إزاء سوء الخلق، لأنها تكون عندئذ عبادات غير صادقة وغير مخلصة وغير خاشعة،
[ ص: 52 ] لذا لا فائدة منها ولاثمرة لها ولا تغني شيئا في ميزان الله؛ لذا لا نعجب إذا علمنا أن سوء الخلق يفسد العمل ويفسد العبادة، كما أننا لا نعجب أيضا إذا علمنا أن حسن الخلق يرفع صاحبه إلى أسمى المنازل في الدنيا والآخرة، وأن سوء الخلق يهبط بصاحبه إلى قعر جهنم، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :
( إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة (أي النافلة)، وإنه ليبلغ بسوء خلقه أسفل درك جهنم، وإنه لعابد ) >[3] .
مما حدا بالمفكرين إلى القول: «إن الباحث المنصف إذا درس المبادئ التربوية الإسلامية، وصل إلى أنها بمجموعها تشكل منهجا متكاملا في التربية والتعليم، وأن لها أهدافا وأسسا واضحة تنطلق من أصول الإسلام العامة وقواعده ومذهبيته الكونية والاجتماعية، التي توقف الإنسان في حدود إنسانيته دون أن تحاول أن تجعل منه ملكا أو تسمح له بالانحدار إلى الحيوانية الهابطة، وإنما تحافظ كما ذكرنا على توازن عجيب يتصل بأعماق دوافعه الملحة، وهذا النظام التربوي هـو الذي نفقده بين المناهج التربوية المعاصرة التي تهتم بالجانب العقلي والجسمي دون الالتفات إلى الجانب الروحي الذي هـو الجانب القوي المهيمن.
>[4] [ ص: 53 ]
ومن أبرز ما تتميز به التربية الأخلاقية الإسلامية من خصائص هـي:
1- أنها أودعت الإنسان ثقة عليا بنفسه، إذ دعته إلى الإيمان بالله، ليس كرها بل طوعا، قال تعالى:
( ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ) ) (البقرة:256)، وقوله تعالى:
( ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) ) (يونس:99)، وبهذا يتبين لنا أن السيف ما كان موجها إلى الأعناق بل كان موجها إلى الحجب التي كانت تحول دون نشر نور الله، ولو أردنا التوسع بهذه الخاصية لأفردنا لها سفرا خاصا.
>[5] ، إلا أننا تعرضنا لها بما يتفق مع هـذا البحث الوجيز، لأن سياسة المصطفى صلى الله عليه وسلم منذ أن أشرق نور الإسلام كانت تهدف إلى إيصال دين الله تعالى إلى القلوب، والسيوف في أغمادها، إذ قال تعالى:
( ( لكم دينكم ولي دين ) ) (الكافرون:6)، فمعرفة النية هـي التي تظهر حقيقة سلوك الإنسان، وبالتالي نصل إلى تحقيق الهدف الأفضل من خلال بيان أثر النية في وصف الفعل، ولما كانت النوايا مستقرها القلب، فالقلوب لا يمكن رؤيتها
[ ص: 54 ] والاطلاع على أسرارها، قال تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم :
( ( ولا أعلم الغيب ) ) (الأنعام:50).
لذا لا يكون من اختصاصنا الحكم على النوايا والقلوب؛ لأن الله وحده استأثر بعلمها، قال تعالى:
( ( إن ربك هـو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) ) (النجم:30)، وبناء على ذلك ليس مسئولية أحد أن يحكم على النوايا، كما لا يمكن تكليف أحد بذلك، ولهذا وبخ سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد، رضي الله عنه، حين اعتذر إليه لقتله من نطق بالشهادة ظنا منه أنه إنما نطق بها نفاقا، قائلا له:
( أفلا شققت عن قلبه؟ ) >[6] .
2- أنها أشعرت الإنسان بقوة مداركها العقلية، إذ دعته إلى الإيمان بالله عن طريق التدبر والتأمل والتفكر بعظمة الله تعالى، وهذا يتجلى بدعوة الإنسان إلى التفكير بالظواهر العلمية التكوينية التي هـيهات للصدفة أن تخطو خطوة إلى مداها، قال تعالى:
( ( والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ) ( والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم ) ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) ) (يس:38-40)، وغير ذلك من الآيات الكريمة التي لا يتسع هـذا البحث للاستئناس بها.
[ ص: 55 ]
وقد ذكر العالم « فرانك بريس » رئيس أكاديمية العلوم الأمريكية في مؤلفه الموسوم: «الأرض»، حقائق علمية ذكرها القرآن الكريم، منها: أن الأرض كانت متصلة مع المجموعة الشمسية، أي كانتا واحد متصلا ثم فصل بعضها عن بعضها الآخر، قال تعالى:
( ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما ) ) (الأنبياء:30).. وبفضل التقنية العلمية وتطور وسائل التصوير توصلوا إلى أن السماء فيها دخان يشبه رأس الحصان، وأصل النجوم من هـذا الدخان، وعندما كانت الأرض متصلة لم يكن هـناك ليل ولا نهار، وإنما كان هـناك شيء وسط بين الليل والنهار، وبعد الانفصال تميز الليل عن النهار، قال تعالى:
( ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) ) (فصلت:11).
3- نظرت التربية الأخلاقية الإسلامية إلى الإنسان كما نظرت إلى الزرع، إذ رعت الإنسان مذ كان جنينا كما رعت الشجرة مذ كانت بذرة، وقد شبه القرآن التربية الإيمانية بطريقة الزرع، إذ أن مبادئ الوعظ والإرشاد والتربية الأخلاقية يجب غرسها في قلوب الناس كافة فتنمو في أنفسهم كما ينمو الزرع، أي تبذر مبادئ التربية في النفوس كما تبذر البذور في الأرض، كي تثمر شجرة الخوف من الله والوقاية والتحصين ضد الشر والرذيلة والانحراف، قبل أن يذكى ضرامها ويهيج حطامها
[ ص: 56 ] بالشر.. إن وجه الشبه يتجلى في تشبيه الصغير بالبذرة، إذ البذرة يجب أن تتوافر لها عناصر الحياة الملائمة من التربة الصالحة والمناخ الملائم والماء والهواء والحرارة والبرودة إن استوجبت، وإذا لم تتوافر هـذه العناصر فإن البذرة لا يمكن أن تنمو ولا أن تكون شجرة، وإن نمت فلن تكون شجرة قابلة للإثمار، وكذلك الإنسان مذ هـو جنين في بطن أمه يجب أن يهيأ له الرحم الصالح، أي الوعاء القادر على حمله ورعايته حتى تضعه، ولا يتحقق ذلك إلا بوجود الأم المؤمنة الصالحة والأب المؤمن الصالح، وقد بين القرآن الكريم هـذا التشبيه الرائع بقوله تعالى:
( ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ) ) (الفتح:29).
وقد ذكر بعض المفسرين أن هـذه الآية جاءت لترسم الصورة المضيئة التي يرسمها القرآن لشخصية الصحابة، رضي الله عنهم وأرضاهم، وما تميزت به هـذه الشخصيات التي تربت في مدرسة الإيمان على يد المربي الأول والقدوة الصالحة والأسوة الحسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ إنها صورة عجيبة وبديعة مؤلفة من عدة لقطات: لقطة تصور أثر العبادة والتوجه إلى الله في سمتهم وسحنتهم
( ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) ) ، ولقطة تتوج
[ ص: 57 ] أثر التربية الإيمانية في بناء النفوس وثباتها على العقيدة، مشبهة مراحل التربية بمراحل نمو الزرع
( ( كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ) ) فهو زرع نام قوي، وإنما جعلوا كالزرع لأنه أول ما يخرج يكون ضعيفا، فكذلك المؤمنون، والشطء الفرخ، أي يخرج فرخه من قوته وخصوبته، كالزرع يبدو بعد البذر ضعيفا فيقوى حالا بعد حال حتى يغلظ نباته وأفراخه، فكان هـذا من أصح مثل وأقوى بيان
( ( ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ) ) (إبراهيم:25)، أي أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتعميق للمعاني، لأن المعاني العقلية لا يقبلها الخيال والوهم والحس، فإذا ذكر ما يساويها من المحسوسات ترك الحس والخيال والوهم تلك المنازعة، وانطبق المعقول على المحسوس وحصل الفهم التام والوصول إلى المطلوب
>[7] .
4- دعت الفلسفات والاتجاهات الفكرية والنظريات المعاصرة إلى اعتماد العلم والعمل كأساس للرقي، إذ بدونها لا يستطيع الفرد أو المجتمع التقدم والتحضر المادي والروحي، ونحن نقول: إن عظمة كل شيء تتجلى بناء على غايته، إذ العلم وسيلة يهدف إلى هـدفين متباينين بناء على أصول التربية الإلهية وأصول التربية الوضعية، إذ تدعو الأخيرة
[ ص: 58 ] إلى العلم دون التحلي بآدابه، لهذا نجد كثيرا من العلماء يثرون على حساب الآخرين، لا سيما الذين يردون مهنا تتصل اتصالا مباشرا بالإنسان وتتوقف مصلحة كثير من الناس عليها، ثم نجد كثيرا من العلماء قد غلبهم الغرور والكبرياء، وبعضهم تأخذه العزة بالآثم إذا ذكر بتقوى الله، ليخلصوا في عملهم وليجودوا على من كان بحاجة إليهم بنفحة أخلاقية، فالمريض يزداد ألمه إذا لم يجد عليه الطبيب بابتسامة تسهم في تخفيف آلامه وشفائه، ويفلسف بعضهم كبرياءه وغروره بحجة الجهد الذي قدموه حتى وصلوا إلى القمة.
أما أصول التربية الأخلاقية الإسلامية، فإن غاية العلم نفحات أخلاقية روحانية، إذ العالم وصل إلى ما وصل بتيسير الله تعالى ثم بجهده، وما دام شاعرا فهو مدين لعبادته، فشكر الله يتجلى في تكريم مخلوقاته، لذا عليه أن يوفي إليهم كما يوفي الأولاد إلى أبيهم، وبهذه الآداب الكريمة يتمزق ثوب الكبرياء.. وثم لمحة إلهية غير موجودة في التربية الوضعية، وهي معروفة بين الفقهاء بالفرض العيني والفرض الكفائي ، فالأخير يتحول إلى فرض عيني إذا تعلقت مصلحة الأمة به، فالعلماء إذا تعلقت مصلحة الأمة بهم كانوا ملزمين بعون من سواهم، وإن كانوا عاجزين عن تقديم ما يجب لهم، لأن من تتعلق به مصلحة الأمة يكون ملكا لها.
[ ص: 59 ]