الخاتمة
من خلال هـذا البحث تبين لنا أن السياسة الجنائية في الإسلام قد استوعب معاني الوقاية والعلاج بكل مفاصلها ودقائقها، ويتجلى ذلك من خلال اعتماد الشريعة الإسلامية الغراء المبادئ والأحكام التي تنظم مفهوم السياسة الجنائية بشكلها المعاصر، إذ طبقت هـذه الشريعة السياسية الجنائية بأروع صورها وحلقاتها، بشكل يكمل بعضها بعضا، ويستند اللاحق منها على السابق من حلقاتها، إذ استندت، كما بينا، على محورين أساسين:
المحور الأول: ويتجلى في تطبيق المنهج الأخلاقي والمنهج التكافلي للوقاية من الجريمة، قبل وقوعها.
المحور الثاني: ويتجلى في تطبيق المنهج العقابي والإصلاحي على الجاني، ويتحقق بعد وقوع الجريمة.
ويمثل المحور الأول السياسة الإنمائية والوقائية، أما المحور الثاني فيمثل السياسة العقابية والإصلاحية.
وتهدف السياسة الإنمائية التي تعتمدها الدول المتطورة إلى إحداث تغيير أساس وجوهري في البنية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع من أجل رفع مستوى الفرد والارتقاء به إلى المكان اللائق، بما يحقق شعوره بالأمن والاستقرار، ويكفل مواجهته للتحديات المعاصرة، وأفضل وسيلة قادرة على تحقيق هـذا التغيير هـي التربية الأخلاقية السليمة، التي تعمل على
[ ص: 146 ] بناء الإنسان بناء صحيحا، وصياغته صياغة أخلاقية موحدة تنجح في تهذيب غرائزه ونزواته وشهواته للمساهمة في بناء مجتمعه من خلال شعوره بالمسئولية تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه، عبر حلقات محكمة الربط والاتصال، تبدأ بالأسرة والمدرسة وتنتهي بكل الأجهزة المسئولة، عن عملية التوجيه والتربية، رسمية كانت أم شعبية، وهذا ما اعتمدته الشريعة الإسلامية في مناهجها الأخلاقية والتربوية.
أما السياسة الوقائية فتعني تصورا شاملا للأهداف التي تكون قائمة في ذهن من يخطط لها، من أجل تحقيق الأمن للفرد والاستقرار في المجتمع، وتعني أيضا تحديد الأساليب والوسائل المؤدية إلى تحقيق هـذه التصورات، مع الحرص على إعطاء البعد الأمني لعملية التنمية في صورها كافة، أي أن تضمن خطط التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية خططا وقائية من الجريمة، بحيث تتم عملية الوقاية من الجريمة على أساس أنها جزء من السياسة الاجتماعية العامة وليست منعزلة عنها، أي يجب إعطاء التنمية بكافة أشكالها البعد الأمني المناسب القادر على تحقيق الهدف الوقائي المتمثل بشعور الفرد بالأمان والمجتمع بالاستقرار، وقد طبقت الشريعة الإسلامية هـذه السياسة عمليا في منهجها التكافلي بأسلوبين:
الأول: الأسلوب التكافلي المعنوي، ويتمثل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
الثاني: الأسلوب التكافلي المادي، ويتمثل بالزكاة.
[ ص: 147 ]
وقد نجحت الشريعة الإسلامية في تحقيق هـذه السياسة من خلال تحقيق التوزان بين حركة التطور التي تقتضيها طبيعة الحياة المعاصرة وبين سلوك الإنسان المتطلع إلى هـذا التطور بالشكل الذي يمكنه من استيعاب هـذا التغيير.. وعملية التغيير ليست سهلة، كما بينا، إذ تتطلب الإحاطة بجوهر النفس الإنسانية، وسبر مجاهلها، والغوص في أعماقها، للإحاطة بها، لأن التغيير من الداخل أبلع في تأثيره ومدلوله من التغيير في الخارج، فمتى تغيرت السرائر يتبعها تغيير الظواهر، قال تعالى:
( ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ) (الرعد:11).
وأفضل وسيلة قادرة على تحقيق هـذا التغيير هـي التربية الأخلاقية السليمة، كما بينا، والتي تعمل على بناء الإنسان بناء صحيحا، وصياغته صياغة أخلاقية تنجح في تهذيب غرائزه ونزواته وشهواته، للمساهمة في بناء مجتمعه، من خلال شعوره بالمسئولية تجاه نفسه وأسرته ومجتمعه، عبر حلقات محكمة الربط والاتصال، تتمثل بالأسرة والمدرسة والأجهزة المسئولة عن عملية التوجيه والتربية كلها، رسمية كانت أم شعبية، لا سيما أجهزة الإعلام بمختلف وسائلها، المقروءة والمسموعة والمرئية، لما لها من تأثير كبير في توجيه الأفراد يفوق تأثير الوسائل الأخرى كلها؛ فتربية الفرد وتنقية ضميره من الأمراض المعنوية التي تصيبه كالحسد والحقد والأنانية والكبرياء، وغير ذلك من الأمراض التي كانت وما زالت تمثل العوامل الرئيسة في اقتراف الجرائم، إلا أن المختصين والباحثين ما فتئوا يقفون عند الظواهر في
[ ص: 148 ] تحليلهم للسلوك الإجرامي، وهذا التحليل في تصوري سطحي يعجز عن الإحاطة بحقيقة العامل أو السبب المفضي إلى الجريمة، لأن الباعث الحقيقي للجريمة لا يمكن الوصول إليه بمثل هـذه السطحية.
وهذا يملي علينا تأكيد أهمية غرس القيم الأخلاقية الفاضلة في نفوس الأفراد، لا سيما في مراحل العمر الأولى؛ لأنها خير ضمان للوقاية من الجريمة، وكل سلوك يتنافى مع الذوق الأخلاقي والاجتماعي في ميادين الحياة كافة، ونبذ الجريمة ذاتيا.. وهذا الاستعداد للانضباط ذو تأثير أشد من تأثير سلطة القانون ورقابة الشرطة وعمل الأجهزة الضوئية وأجهزة الرادار وغيرها من أجهزة الرقابة.
كما أن العقوبة وحدها مهما كانت قاسية وشديدة فإنها غير قادرة على منع الأفراد من اقتراف الجريمة، لأن للجريمة عوامل إذا ما تحققت فإنها تقع دون أن يفكر مقترفوها بالعقوبة، وفعلا وقع كثير من الجرائم التي لم يتردد المجرمون في اقترافها على الرغم من أن عقوبتها قاسية تصل إلى حد الإعدام كجرائم السرقة وجرائم القتل والزنا.
إن المتأمل في الأسلوب الذي اتبعه القرآن الكريم في تهذيب الغرائز وغرس القيم الأخلاقية التي تحمل معاني عظيمة في أثرها ودلالتها، كالحب والإيثار والتواضع والتعاون والتكافل والعفو والصفح، وغيرها من المعاني التي لا تتسع هـذه الخاتمة للإفاضة في عرضها، قد ساهمت مساهمة فعالة في تحصين الفرد ضد الجريمة، بل إنها حققت أبعد من ذلك إذ جعلت الفرد مسئولا عن
[ ص: 149 ] وقاية نفسه وأهله، والمساهمة مع الآخرين في تطبيق الدفاع الاجتماعي ضد الانحراف والجريمة من خلال الدور الذي يلعبه الجمهور لتحقيق هـذه الغاية، حيث أكد الفقهاء المسلمون أن: الجمهور ليس متطوعا ولا متبرعا فيما يقوم به من مهمة صيانة المجتمع ووقايته من الجريمة والانحراف، بل هـو يمارس مسئوليته التي لا بد منها لصيانة أمن المجتمع وسلامته.. فواجب الرقابة هـذا، والضرب على أيدي المفسدين ليس انتقاما منهم بقدر ما هـو دفاع عنهم، ورعاية لشئونهم، واهتمام بمصالحهم، وحفاظا على أمنهم، واستخلصوا في خاتمة قولهم القاعدة الآتية:
إن الرقابة الاجتماعية على شئون الحياة كافة ضرورية لتحقيق المجتمع الفاضل، ولا يمكن تحقق هـذا المجتمع بغياب هـذه الرقابة.
إن الأسلوب الوقائي الذي انتهجته الشريعة الإسلامية الغراء يمثل السياسة الوقائية المعاصرة التي نادت المؤتمرات المحلية والعربية والدولية كلها باعتمادها وتطبيقها بعد فشل السياسة الوقائية التقليدية.
ومن تحليل نصوص مشروع الاستراتيجية الأمنية العربية الذي أقره مؤتمر وزارء الداخلية العرب المنعقد في بغداد عام 1982م، وتقرير وتوصيات ندوة الدفاع الاجتماعي والسياسة الجنائية من خلال التشريع الإسلامي المنعقد في المغرب عام 1981م، وإعلان كركاس في المؤتمر الدولي السادس للوقاية من الجريمة ( فنزويلا ، عام 1980م)، وإعلان ميلانو في المؤتمر الدولي السابع للوقاية من الجريمة في إيطاليا عام 1985م، وإعلان
[ ص: 150 ] هافانا في المؤتمر الدولي الثامن للوقاية من الجريمة في كوبا عام 1990م، يتجلى للمحلل أن الاتجاهات والمبادئ الحديثة التي تضمنتها هـذه المؤتمرات والحلقات والندوات تتفق مع الأسلوب الذي اعتمدته الشريعة الإسلامية، بما وضعته من مبادئ تكفل إقامة البناء الاجتماعي المتماسك، الذي يجد فيه الفرد ملاذه الروحي، وملجأه الآمن، وحصنه الأخلاقي، سعيا لتحقيق الصيغة الدفاعية المشتركة ضد الجريمة التي يتفق عليها العاملون في المجالات الفقهية والقانونية والتربوية من أبناء هـذه الأمة، التي تستهدف إظهار المزايا المتكاملة التي تتمتع بها الشريعة الإسلامية في تحصين المجتمع من مخاطر الخلل ووقاية الفرد من مزالق الانحراف، وقدرة هـذه الشريعة على إيجاد الحلول السليمة لمشكلات العصر، وقدرتها على استيعاب حركة الحياة الجديدة وعلاج القضايا المستعصية والمعقدة؛ لأن الشريعة متكاملة الأهداف، متناسقة الاتجاهات، ثرية بقيمها ومبادئها، ينعم فيها الفرد بأكبر الضمانات التي تحقق له الطمأنينة والسلامة وعزة النفس، وفي ظلها يجد المجتمع قوة وتماسكا يقاومان التصدع والتفكك والانحلال، وهذا هـو المقصود بإحداث التغيير الجذري في سلوك الفرد وإعادته إلى الطريق السوي وإزالة الأسباب التي تدعو إلى انحرافه ومناهضته للمجتمع، لهذا يمكن القول: إن الشريعة قد استوعبت السياسة الإنمائية والوقائية معا، وحققت بذلك الحلم الذي يراود كل المختصين المعنيين بتنفيذ السياسة الوقائية ضد الجريمة.
[ ص: 151 ]