تقديم
عمر عبيد حسنة
الحمد لله الذي أخرج خير أمة للناس من خلال الكتاب، فكانت الأمة المسلمة بكل مكوناتها وأطيافها -الجنسية والعرقية واللونية والجغرافية والاجتماعية- أمة فكرة، متاحة لكل من يؤمن بها، وأمة رسالة لكل من يحملها ويبلغها، تجاوزت جميع تلك الفوارق القسرية في بنائها، التي ينزع إليها الناس؛ لترتكز على خيار الإنسان وحريته وإرادته، التي تتحقق بها كرامته، ذلك أن الفكر والعلم أو المعرفة بشكل عام هـي مناط التكريم والتميز عن سائر الخلق، وهي السبب الرئيس لسجود الملائكة للإنسان، كما أنها العامل الأهم في طرد من امتنع عن الاعتراف والخضوع للمعرفة واحترام حقوق الإنسان المكتسبة، الذي كان محل تعليم الله سبحانه وتعالى ، يقول تعالى:
[ ص: 5 ] ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هـؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم ) (البقرة:31-33) .
لقد تشكلت الأمة المسلمة من خلال كتاب (القرآن) كما أسلفنا، وكانت المعرفة هـي ميزان الكرامة ومعيار التكريم في النبوات الأولى والآخرة، فكما ورد في بعض الكتب السماوية السابقة: «في البدء كانت الكلمة»،
وكما بدأ الوحي في الرسالة الخاتمة:
( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق:1-5) .
وكانت الفطرة التي تعني -فيما تعني- القابلية والتأهيل للمعرفة والقراءة والعلم هـي طريق السعادة وسبيل النعيم والعيش الرغيد في الجنة:
( وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ) (البقرة:35) .
كما كانت الغريزة والشهوة والمادة والغواية والجهالة وإيثار المتعة والاقتراب للأكل من الشجرة الممنوعة سبب الهبوط والارتكاس، وبقي هـذا يمثل ميثاقا خالدا وجدلية الحياة المستمرة، من بدء الخلق وحتى الرسالة الخاتمة؛ حيث التذكير بمسيرة البشرية التاريخية وعوامل السقوط
[ ص: 6 ] والنهوض، والارتكاس والارتقاء، يقول سبحانه وتعالى:
( سنقرئك فلا تنسى ) (الأعلى:6) ، ويقول:
( إن هـذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) (الأعلى:18-19) .
إن الكتاب الخالد الذي تشكلت من خلاله أمة الرسالة الخاتمة فجعل منها أمة الفكرة والمعرفة بقي على الدوام يمثل مناط الاعتصام وحبل الأمة المتين، الذي تعتصم به، وتنطلق منه في كل المراحل التي مرت بها، تنطلق منه لتحقق عوامل النهوض والارتقاء الحضاري، وتحتمي به في فترات السقوط والتخلف والتراجع والانكسار؛ لتعاود الانطلاق في دورة حضارية من جديد.
وهكذا يستمر التداول بين السقوط والنهوض، ويتمحور الفعل الثقافي بكل أبعاده وآفاقه حول نصوص القرآن، بما في ذلك البيان النبوي (السنة) ، وتستمر المقاربة مع فقه وفهم جيل خير القرون، والمقارنة مع المحطات التاريخية في التراث، التي تتشكل منها الشخصية الحضارية التاريخية للأمة.
والصلاة والسلام على النبي الخاتم، الذي كانت مهمته الأولى أن يبين للناس ما نزل إليهم،
قال تعالى:
( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) (النحل:44)
[ ص: 7 ] وأن يبلغهم رسالة الله إلى الإنسان، يقول تعالى:
( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) (المائدة:67) ،
فالعصمة والنعمة والأمن والنهوض في البلاغ، يقول تعالى:
( قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ) (الجن:22-23) ،
ويقول:
( أنما على رسولنا البلاغ المبين ) (المائدة:92 ) ،
ويقول:
( وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) (النور:54) ،
ويقول:
( وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد ) (ق:45) ،
ويقدم لهم من شخصه صلى الله عليه وسلم الأنموذج ومحل الاقتداء الذي تتحقق فيه تلك المعارف والمقاصد والخصائص، التي جاءت بها الرسالة الخاتمة،
يقول سبحانه وتعالى:
( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (الأحزاب:21) .
وبعد:
فهذا «كتاب الأمة» الثامن بعد المائة: «ضوابط في فهم النص»: للدكتور عبد الكريم حامدي ، في سلسلة الكتب التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة
[ ص: 8 ] قطر، في محاولته الدائبة لإعادة التصويب والتشكيل الثقافي، واسترداد الفاعلية، وما يتطلب ذلك من تحديد مواطن الخلل، والإفادة من التجارب التاريخية، وإحياء المنهج السنني، وتجديد الفقه والفهم، والتحول من معالجة آثار التخلف والسقوط والتراجع الحضاري إلى دراسة الأسباب الحقيقية المنشئة لذلك، في ضوء سنة الله في الأنفس والآفاق، والتحقق بامتلاك الرؤية، والقدرة على مغالبة قدر بقدر، ونفي نوابت السوء والبدع التي لحقت بفهوم المسلمين، فحولتهم من الفاعلية إلى الانطفاء والتراجع الحضاري، ومن النمو والاجتهاد والحركة الدائبة إلى الجمود والتقليد والمحاكاة والاستنقاع، ومن استمداد الفقه والرؤية والحكمة من النص المعصوم في القرآن والبيان النبوي إلى التحول إلى اجتهادات البشر، الذين تجري عليهم سنة الخطأ والصواب، ومن قول الشارع المعصوم إلى رأي الشارح المظنون، ومن النص الخالد المجرد عن حدود الزمان والمكان، القادر على الإنتاج في كل زمان ومكان إلى الاجتهاد المحكوم بقيود ومواصفات الزمان والمكان والإنسان، وبذلك حوصر النص الخالد، وعطل عن العطاء، وتحول إلى خانة الحفظ والتقديس والتبرك والتلقي باللسان، بعيدا عن التفكر والتدبر الذي يقود بالضرورة إلى التبين والتدبير.
[ ص: 9 ]
إن الإشكالية -فيما نرى- كانت ولا تزال تتمحور حول كيفية العودة إلى الينابيع الأولى للتلقي منها، وعدم التوقف عند حدود السواقي، تحت شتى الحجج والمعاذير؛ ذلك أن الواقع الفاشل الذي نعاني منه دليل على فساد وسائلنا وطرائقنا في التعامل مع نصوص كتابنا الخالد، الذي أنتج خير أمة أخرجت للناس، وكيف عجزنا اليوم عن التعامل معه بشكل صحيح والعودة لعطائه، فانتهينا إلى ما نحن عليه.
وما لم نمتلك الشجاعة والفقه (القوة والإرادة) لنقد الواقع الثقافي الذي يسيطر علينا، وصور التدين الموروث، ومسارات الفقه وأدوات الفهم، ونبدع أدوات ووسائل ومناهج، ونضع الخطط والأوعية لعودة الأمة للتلقي عن القرآن، كتابها الخالد فسوف نستمر برحلة الفشل، وتسلمنا هـزيمة إلى أخرى.
وهذا لا يعني بحال القفز فوق الواقع والتراث للتعاطي مع النص بدون امتلاك الأدوات السليمة، وإنما العودة إلى فهم النص من خلال استيعاب الفهوم جميعا، وتحديد مواطن الإصابة، والخلل وتجاوزهما.
ذلك أنه من المعروف أن معاودة إخراج أي أمة مرهون -إلى حد بعيد- بتوفير ظروف وشروط ميلادها الأول. فالأمم لا يعاد إخراجها
[ ص: 10 ] إلا من خلال قيمها، ولا تنمو إلا من تطوير ذاتها، ولا تقوم إلا على أصولها وفي ضوء معادلتها الاجتماعية الثقافية والحضارية.
لذلك فالتفكير بالنهوض من خلال قيم وأصول حضارية ومعادلة اجتماعية أخرى، بعيدا عن تنمية الذات، هـو لون من العبث الفكري والضلال الثقافي والحضاري، وتكريس للعجز والخذلان، حتى ولو كان المظهر غير ذلك.
ولعلنا نقول هـنا: إن الأدوات والمناهج والوسائل والطرق، التي لم تحقق لنا الهدف وتقدم لنا الحل، محكوم عليها عقلا وواقعا بأنها مخطئة أو فاشلة أو مختلة، تتطلب إعادة النظر فيها وتعديلها واستبدالها حتى نتوصل إلى الحقيقة والهدف المطلوب.
فالمشكلة في تعاملنا مع قيمنا في الكتاب والسنة تكمن اليوم في كيفية التعامل مع مناهج التلقي والنظر والفهم؛ ذلك أن هـذه القيم الخالدة تبدو -في ضوء أدواتنا- عاجزة عن معاودة الإنتاج، الأمر الذي يدين جميع وسائلنا ومناهجنا، ويدمغها إما بالخطأ أو بالقصور، في أحسن الأحوال.
ولنا أن نتصور اليوم هـذا الكم الهائل من الجامعات الإسلامية وكليات الشريعة وكليات الدراسات الإسلامية والمعاهد ومراكز البحوث، وما تقدمه من المناهج، وما تخرجه من الطلبة والطالبات،
[ ص: 11 ] إضافة إلى مئات الرسائل الجامعية، بل الآلاف في موضوعات قرآنية وحديثية وفقهية، ومع ذلك نرى أنها لم تحدث الأثر المطلوب، وأن الإيقاع العام لرؤية المجتمع وحركته وفاعليته لم تتغير، وإن تغيرت فقد تتغير إلى الأسوأ، أو الأكثر سوءا؛ لأنها في أحسن الأحوال قد تحدث انفعالا يؤدي إلى انفجارات اجتماعية ومغالاة في التدين، حيث لم تحدث فعلا تغييرا مأمولا، وعلى أحسن الأحوال قد يكون الكثير من تلك الرسائل والدراسات يمثل إعادة لإنتاج سابق، ودورانا حول النفس، وتحركا ضمن إطار عقل سابق؛ شـرحا واختصارا، أو اختصارا وشـرحا، أو تحقيقا، أو تصويبا لعبارة، بعيدا عن القدرة على توظيف ذلك لمعالجة نوازل العصر.
لذلك نرى أن الكثير من هـذه الدراسات والرسائل، يتوفاها الموت، وتقبر في المكتبات قبل أن تغادر الجامعة وتتجاوز أسوارها أو تتجاوز لجنة المناقشة العلمية، وتتمحض لتعطي لقبا قد لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يقتصر على أن يشكل لدى صاحبه وهما كبيرا، ويكرس عطالة وجهالة مركبة تزيد الطين بلة.
حتى لنكاد نقول: إن الكثير من الدراسات الجامعية بدت وكأنها تتقيد فكريا وثقافيا بإعادة الإنتاج.
[ ص: 12 ]
ولنا أن نتصور أيضا كم استغرقت تلك الإعادات والشروح والاختصارات والتحقيقات والتصويبات من الوقت والجهد والمال دون الكثير من الجدوى، وفي كثير من الأحيان فإن إعادة النسخ قد يكرس الأخطاء ويزيدها؛ لأنها إعادة نسخ في الحقيقة وليس إعادة إنتاج؛ لأن إعادة الإنتاج قد ترقى ببعض جوانبه. وما ندري كم يبقى فيها إذا خضعت للتقويم والقياس والنقد ودراسة الجدوى، وما قدمت من جديد، وما بعثت وأحيت من فاعلية وتجدد وتجديد؟
لذلك يمكن القول: بأن حركة الوعي الإسلامي، أو حركة الصحوة الإسلامية تشكلت بعمومها وانطلقت من خارج أسوار المعاهد العلمية والجامعات الأكاديمية -وهذا قد يشكل إشكالية من بعض الوجوه- ومرت بتحولات وتموجات عفوية وأحيانا حزبية تعصبية، حتى وإن رافقها بعض الشهادات والدرجات العلمية لا يخرج الكثير منها عن كونها شهادات ودرجات حزبية في حقيقتها، بعيدة عن التقويم الموضوعي، متشبعة بالروح الحزبية التعصبية، الأمر الذي حول المسار والمنهج إلى تسويغ المسبق واستخدام النصوص والتراث لدعم التصور وبناء المشروعية له، بدل أن يكون بناء التصور هـو أحد معطيات النص.
[ ص: 13 ]
وبذلك يكون النص والتراث تبعا للهوى الحزبي والطائفي والزيغ الفكري، بدل أن يكون الهوى تبعا لمعطيات النص،
( والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هـواه تبعا لما جئت به». ) وليس ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تبعا لهوانا.
ولعل هـذا من المخاطر الفكرية، أو من الإصابات الفكرية البالغة في التعاطي مع النص، أو هـي صورة من علل التدين التي لحقت بالأمم السابقة، التي حذر منها القرآن أمة الرسالة الخاتمة حتى لا تتسرب إليها. ذلك أن الإصابات الفكرية للأمم السابقة تم تجاوزها وكشفها وبيان مسارها بنسخها بالرسالة الخاتمة، أما بعد توقف الوحي والتصويب من السماء فلا بد من حراسة مدلولات النص، وحماية فهمه الصحيح، وتجديد فهمه، بحسب الظروف والأحوال من البشر أنفسهم.
إن الأمم السابقة وقعت بعلة تحريف القول من بعد مواضعه؛ ليوافق هـواها،
يقول تعالى:
( يحرفون الكلم من بعد مواضعه ) (المائدة:41) ،
ويقول تعالى:
( إن أوتيتم هـذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ) (المائدة:41) .
[ ص: 14 ] ولئن كان التحريف قد يصيب قراءته بإمالة أو لحن معين أو إسقاط لفظ أو إضافة؛ ليؤدي عكس ما يراد منه، أو ليفهم على غير ما وضع له، لمصلحة آنية، فإن الأخطر اليوم في التحريف هـو عدم المداخلة في ألفاظ النص، وإنما التلاعب بفهمه وتفسيره ومدلوله، أو بعبارة أخرى الخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ، وما عهد عند العرب من الخطاب.
فالتحريف المتأتي من التلاعب باللفظ بات أمرا مكشوفا، أو قد يكون ساذجا بعد تقدم التعليم والطباعة وأدوات الحفظ، لكن الإشكالية الكبيرة اليوم هـي في التحريف الأخطر: التأويل الفاسد، والخروج بالمعنى عما وضع اللفظ، كما أسلفنا.
ولعل التوجه صوب النص (اللفظ القرآني) وتحريفه زيادة ونقصانا يكاد يكون مستحيلا وقد تعهد الله بحفظه؛ لما توفر له من أدوات الحفظ بالصدور والسطور، كتابة ومشافهة، من كتبة الوحي المتخصصين بذلك دون سواه؛ حتى لا يختلط النص السماوي بغيره من كلام الناس، حتى كلام النبوة، إلى حفظة القرآن أو ما اصطلح عليه بـ: (حفاظ القرآن) إلى منهج النقل وأدواته، بحيث ورد النص القرآني بالتواتر، وهو ما يرويه الجمع عن الجمع، أو الجيل عن الجيل، الذي يحيل العقل تواطأهم على الكذب، مما يفيد علم اليقين. هـذا إضافة إلى
[ ص: 15 ] المحافظة على الصلوات الجهرية، وما يتلى فيها، مما يجعل القرآن مقروءا يوميا ومنقولا بالمشافهة، فهو بذلك قرآن، إضافة إلى كتابته بحروفه ورسومه، ونقل ذلك بالتواتر أيضا، هـذا من الناحية المنهجية التقنية، إن صح التعبير.
أما من الناحية العقلية والشرعية، فالثبوت والصحة للنص القرآني من لوازم الخاتمية والخلود وتوقف التصويب ونسخ الشرائع من السماء وتوقف الوحي واختتامه؛ إذ لا يمكن أن يتصور عقلا ولا شرعا أن يخاطب الناس بنصوص منحولة محرفة، ومن ثم يحاسبون على فعلهم. لذلك نعاود القول: بأن القرآن يعتبر من الناحية الثبوتية والوثائقية -حتى بعيدا عن المعتقد الديني- أقدم وثيقة تاريخية وصلت بطريق علمي منهجي يفيد اليقين والاطمئنان، الأمر الذي دعا بعض أبناء الأديان السماوية الأخرى إلى استمداد رؤيتهم وتصويبها بما ورد من قصصهم في القرآن؛ لأنه الوثيقة الأقدم تاريخيا والآمن علميا ومنهجيا.
من هـنا نقول: بأن توجه التحريف صوب النص واللفظ يكاد يكون مستحيلا، لكن التأويل والتفسير ومسالك الفهم يبقى موطن الخطر الذي يجب التنبه له.
[ ص: 16 ]
وقد يكون هـذا من بعض مدلولات قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، ودعوته لليقظة لهذا الأمر الخطير واضحة، وفي ذلك،
( يقول صلى الله عليه وسلم : «يحمل هـذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين». ) (أخرجه البيهقي) .
لذلك يبقى المطلوب دائما حراسة مدلولات النص، والتنبه إلى محاولة تحريفه؛ كحماية ألفاظ النص ومنهج نقله، إن لم يكن أكثر وأهم.
هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن النص القرآني هـو محل إجماع الأمة المسلمة إلى حد بعيد، بكل طوائفها وفرقها ومذاهبها، لذلك نرى أن جميع الفرق والطوائف والمذاهب السائدة اليوم والبائدة بالأمس حاولت إثبات مشروعيتها وتسويغ توجهاتها بنصوص القرآن، وإجهاد النفس للإتيان بالآيات والنصوص الداعمة لتصوراتها، والمحاججة في ذلك. وقد يصل الأمر إلى تحريف النصوص وتأويلها لإثبات ما ذهبوا إليه؛ لأن القرآن محل إيمان المسلمين وإجماعهم، وأن أي مشروعية عليا خارجة عنه سوف تكون مرفوضة من قبل المسلمين، لذلك نرى أن الجميع يستظل بآيات القرآن، ويحاول أن يدلل على أنه ينطلق منها، وهذا بقدر ما يحمل من الغنى والتثاقف والمجادلة والمماحكة والمنافسة والاجتهاد بقدر ما يحمل من المخاطر التي تحتاج إلى الطائفة الثابتة على
[ ص: 17 ] الحق وإلى العلماء العدول من كل جيل؛ لنفي نوابت السوء، لأنها تنبت على الجسم، على النص القرآني، وتتغذى به.
يضاف إلى ذلك الوجه الإيجابي الكبير الذي يحمله إجماع المسلمين على القرآن ذلك أن القرآن يبقى هـو المحور لحركة العقل والاجتهاد، والمحرك للفعل والسلوك، والمرجعية الحاكمة لكل اختلاف، والمعيار الدقيق والثابت لكل فعل وفكر، والقيمة المجردة عن الذات التي يتم بها التقويم والحكم على الأفعال والممارسات، ومدى مطابقتها لمقاصد القرآن وأهدافه.
إن تاريخ الأمة الثقافي والحضاري والفكري والجهادي والاجتهادي تمحور حول النص القرآني، وانطلق منه؛ سواء كان بالمناصرة والمدافعة أو كان بالمواجهة والمخاصمة. فالقرآن هـو مصدر ثقافة الأمة وتراثها، بكل أطيافه وألوانه وأشكاله وأزمانه، لذلك توجهت معظم الكيود والخصومات والعداوات صوب القرآن، ومحاولة زحزحة المسلمين عنه، ونزعه كسلاح فكري مؤثر من أيديهم، أو تحويلهم إلى أسلحة فاسدة عاجزة؛ بالتحريف والتأويل والمغالاة.
حتى السنة، على أهميتها كمصدر ثان للتشريع وأهميتها ووظيفتها وتفردها في تقرير بعض الأحكام ابتداء، حتى ولو لم ترد في النص
[ ص: 18 ] القرآني هـي في وظيفتها الأساسية ومهمتها الأولى لا تخرج عن كونها بيانا للنص القرآني. وهذا البيان ذو أهمية كبرى في تحديد مدلولات النص القرآني، ورسم وجهته وحمايته، من المبين المعصوم، حتى لا تطيش السهام، وتمارس عمليات تحريف النص بعيدا عن الحراسة المأمونة (السنة) ، التي يؤمن المؤمن بعصمتها.
من هـنا ندرك الدور العظيم والكبير للسنة والسيرة في حماية النص وبيان مدلولاته، وذلك بتنـزيله -كإحدى صور البيان- على واقع الناس، وتمثله في حياة القدوة المبين المعصوم. كما ندرك لماذا كانت هـذه المعارك الشرسة، ولا تزال، حول السنة، في محاولة لتوهينها وإزاحتها عن أن تكون من لوازم النص القرآني؛ لينطلق التحريف والعبث بعيدا عن مرجعية حاكمة للتفسير والتأويل، ومراقبة له، وكاشفة لانحرافه.
فإشكالية التحريف تبقى قائمة، والحواجز الكبيرة أمامها تبقى صعبة التجاوز طالما أن السنة لها حضورها ووظيفتها المتأتية عن الإيمان بها. ولعل هـذا يشكل بعض ملامح قوله تعالى:
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9) ،
وقوله:
( إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ) (القيامة:17-19)
[ ص: 19 ] هذا إضافة لما توافر للسيرة من مناهج النقل وضوابط القبول على مستوى السند والمتن معا، الأمر الذي حال دون الوضاعين والمتركين والمدلسين، الذين حاولوا وضع الأحاديث على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ تعضيدا لاجتهادهم، وتسويغا لمذاهبهم، ومشروعية لتحريفهم، حتى أحاديث الآحاد، ذات الدلالة الظنية، ومحاولات الدخول عليها، ومحاصرة بيانها للقرآن باسم الثبوت الظني تارة، والدلالات الظنية تارة أخرى، فإن المحصلة الفكرية والمنهجية لهذا التوجه تبقى لغير صالحهم، ذلك أن الظن -دلالة وثبوتا- المتلقى من المعصوم صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة، التي نيطت به مهمة البيان، والذي توافر لأحاديثه مناهج النقل ومعايير القبول والرد والجرح والتعديل، يبقى هـو الأولى والمقدم على ظنون واجتهادات البشر و (آحادهم) ؛ التي لم يتوفر لها من مناهج النقل والإثبات وضوابط القبول ما توفر لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كانت آحادا، هـذا إضافة إلى أن أحاديث الآحاد واردة من المعصوم ومحكومة بضوابط القرآن ومقاصده، بينما (آحادهم) لا يعتد بها منهجيا وعقليا وإيمانيا أمام أحاديث النبوة، لذلك يبقى البيان النبوي هـو أداة الفهم الأولى للنص القرآني، والعاصم المعتمد من التحريف الباطل والتأويل الفاسد والانتحال الغالي.
[ ص: 20 ] ومما لا شك فيه أن البيان النبوي للنص القرآني -ومن ثم فهم خير القرون- يشكل المرجعية الأساس في الفهم والاستدلال، أو هـو الأداة المعتمدة لفهم النص القرآني، وما وراءها من الفهوم يبقى خاضعا للفحص والاختبار والمراجعة، في ضوء البيان النبوي وفهم الجيل المشهود له. وهذه المرجعية لا تشكل محاصرة للنص القرآني والحيلولة دون امتداده وتحقيق خلوده، بقدر ما تعني ضبطا منهجيا ومرجعيا يحول دون التحريف الذي أشرنا إليه.
لذلك فإن أي فهم واجتهاد من البشر له أن يمتد ويمتد ويبصر ويبلغ من المعاني والدلالات والآفاق ما يبلغ، بحسب تطور الزمان وتقدم الحياة الاجتماعية والحضارية، شريطة أن لا يعود ذلك بالنقض أو الإلغاء للمرجعية من بيان السنة وفهم خير القرون.
ولعل الخطورة، كل الخطورة، في انتقال القدسية والعصمة من نصوص الوحي في الكتاب والسنة -التي تشكل المعيار والقيمة والمقياس- إلى اجتهادات البشر محل المقايسة والمعايرة، أو -كما أسلفنا- من نص الشارع إلى رأي الشارح والمفسر والمجتهد والفقيه فتلبس الذات بالقيمة، ويصبح بذلك التدين دينا، وأقوال البشر المختلطة والمتباينة والمتناقضة أحيانا نصوصا، ويتمحور التفسير والتفكير حول آراء الأشخاص، فتنتهي حركة العقل إلى التقليد والجمود والدوران في فلك
[ ص: 21 ] العقول السابقة؛ تحقيقا وتفسيرا وشرحا واختصارا، بعيدا عن رحابة النص الموحى به وخلوده وتجرده عن أسر الزمان والمكان، والقدرة في تجريده من ظرف الزمان والمكان والأشخاص، وتوليده في كل زمان ومكان، وتنـزيله على واقع الناس.
ونحن لا نريد بذلك التقليل من شأن وأهمية الاجتهادات السابقة ولا اللاحقة، ولكن الذي نحذر منه -وقد يشكل في كثير من الأحيان بدء عملية التأويل والتحريف والتعصب- تحول العصمة والشهادة على صوابية الفعل ومعيار التقويم أو القيم من نصوص الوحي المعصوم إلى اجتهاد البشر المظنون، الذي قد تذهب به الظنون كل مذهب، فيحل الفكر والاجتهاد المذهبي محل الفكر والاجتهاد المنهجي، خاصة إذا علمنا أن جميع الفرق والمذاهب تحاول اكتساب مشروعيتها أو إثبات مشروعيتها من الكتاب والسنة.
والحجة في ذلك جاهزة، وظاهرها قد يوقع في الخداع على الرغم مما فيها من التباس، وهي أن تلك الاجتهادات والأقوال هـي في الأصل متأتاة من نصوص الوحي المعصوم وليس من عند أصحابها، فمصدرها الوحي، حيث لم يدع السابق للاحق شيئا، وبذلك نكتفي بقول البشر، ونقف عند حدوده، ويتحول الكتاب والسنة إلى مجال التراتيل
[ ص: 22 ] والتلاوات، وفي أحسن الحالات الحفظ والاستحفاظ، بعيدا عن أي علم وتفكر وتدبر واجتهاد، وبذلك يتم الحصار المحكم لخلود النصوص.
لذلك، فقد لا نستغرب أن نرى في كثير من كتب التراث استعمال مصطلح (النص) ، فإذا دققنا النظر نرى أن ذلك إنما ينصرف لقول المجتهد أو المفسر أو الفقيه، فإذا علمنا أن التحريف الخطير اليوم هـو في التفسير والتأويل والخروج بالمعنى عما وضع له اللفظ أدركنا مخاطر ذلك وما يمكن أن ينتهي إليه.
وقد يكون ذلك هـو أحد الأسباب الرئيسة للركود وتوقف حالة النظر والاجتهاد في نصوص الكتاب والسنة، ومحاولات تنزيلها على واقع الناس، وتقويم هـذا الواقع؛ حيث تنصرف معظم جهود الباحثين والدارسين والمعاهد والجامعات إلى التحرك الفكري شرحا وتحقيقا، وتحقيقا وشرحا، الذي لا يخرج في المحصلة النهائية عن إطار الحركة في عقول السابقين وإعادة الإنتاج باسم الاجتهاد والتجديد، والمراوحة في المكان الواحد، والإصرار على إيقاف الزمن، هـذا إضافة إلى التمركز في معظم الجهود حول إثبات النص وصحة النص، وخلود النص، وعظمة النص... إلخ.
لكننا نرى أن القليل القليل من هـذه الجهود الذي يتجه إلى فقه الواقع، وكيفية إعمال النص في هـذا الواقع؛ لتحقيق الإحياء والنهوض،
[ ص: 23 ] والتحقق بالأدوات الصحيحة للنظر في النص والواقع، والقدرة على التفريق بين حالات الإسقاط التي تعني -فيما تعني- إسقاط النص على الواقع، بما فيه من اختلالات، دون فقه وإدراك لهذا الواقع واستطاعاته وخصائصه وظروفه، وما يلائمه من الأحكام في ضوء استطاعاته -لأن التكليف منوط بالاستطاعة- وما يتطلبه من توفير الاستطاعات، وبين التنزيل الذي يعني -فيما يعني- فقه الواقع، والتبصر بظروفه وإمكاناته، والتبصر بالنص وفقهه ومحله وكيفية إعماله؛ أي النظر للواقع وتقويمه من خلال النص، والنظر في النص وظروفه وفقهه من خلال استطاعات الواقع.
فالإسقاط هـو حفظ الأحكام والمطالبة بتطبيقها بعيدا عن فقه المحل المطلوب تنزيلها عليه، وبذلك يتم العبث في الأحكام الشرعية ووضعها في غير محالها، ويتحول الاجتهاد إلى حفظ النصوص والأحكام بعيدا عن فقه الواقع وإدراك حدود التكليف وما يلائمه من الأحكام في مرحلة دون مرحلة، فنتحول من الفقه إلى حمل الفقه.
ولعل إحدى الإشكاليات الكبرى -التي كانت مطروحة ولا تزال- اعتبار النسخ إحدى أدوات الفهم والبيان والتفسير، والتباين حول الموقف من هـذه القضية، الذي ما يزال قائما: هـل هـي في إطار نسخ الشرائع، كما يدل السياق وكما استدل بعضهم، وعلى ذلك فلا نسخ ولا تناسخ في الآيات القرآنية، إضافة إلى الحجج والاستدلالات العقلية والشرعية الأخرى في نفي النسخ، أو هـي موجودة بين آيات القرآن وحتى بين نصوص القرآن والسنة؟
[ ص: 24 ] وهنا نجد فريقا اقتصر على آيات محدودة جدا في النسخ، وفريقا امتد بها وتوسع فنسخ بآية واحدة؛ هـي آية السيف، أكثر من مائة وعشرين آية من آيات الدعوة والحوار والمجادلة وما إلى ذلك، ونسخ النص القرآني بنصوص السنة.
وكانت قضية النسخ مدخلا لمحاولات بعضهم الاحتجاج بها لتعطيل النص، ومحاصرة خلوده، وربطه بعصر التنزيل دون الإمكانية في الامتداد والصلاح لكل زمان ومكان، والادعاء بعدم صلاحية نصوص القرآن للزمن بحجة تعرضها للتبديل والتغيير خلال ثلاثة وعشرين عاما، فكيف لها أن تكون صالحة بعد خمسة عشر قرنا؟
وهذه القضية -كغيرها من القضايا الأخرى- هـي في المحصلة النهائية ثمرة للنظر والجدل حول النص ومدلولاته، وساحة للتفاعل والتثاقف قد ينتج الغث والسمين، لكنها في النهاية تؤكد فاعلية النص القرآني وتحريكه للعقل والنظر.
ولعل المزيد من التأمل في قضية التدرج في التشريع بحسب استطاعات المكلفين، وإناطة التكليف بالاستطاعة؛ هـبوطا وارتقاء، وفقه الحالة أو فقه المحل واختلاف المحال المراد تنـزيل النص عليها، والتخصيص، وما إلى ذلك قد يكون سبيلا للخلوص من إشكالية توهم تعارض النصوص واللجوء إلى النسخ.
[ ص: 25 ] وهنا قضية على غاية من الأهمية قد يكون من المفيد التوقف عندها وطرحها للنظر؛ وهي: إن النص القرآني هـو خطاب ميسر للذكر، هـو خطاب للناس جميعا،
يقول تعالى:
( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) (القمر:17) ،
وأنه خطاب للأمة الأمية، يقول تعالى:
( هـو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2) ،
وأنه كالماء الذي يحتاجه وينتفع به الصحيح والمريض، والصغير والكبير، والمفكر والعامي، فهو يمثل الحياة للناس جميعا، ولكل قارئ للنص القرآني نصيب من الفهم والإدراك والاستدلال:
( فسالت أودية بقدرها ) (الرعد:17) ،
فهو ميسر للذكر، وهو خطاب للأمة الأمية، تستمع إليه يوميا في ثلاثة فروض من صلاتها، وتعكف على تلاوته ابتغاء للثواب.
من هـنا نقول: إن لكل إنسان الحق في قدر من الفهم والإدراك، ولمن يمتلك الدليل على الدلالة أن يصوب، وهكذا يتم التفاعل والتفاهم، إضافة إلى أن القرآن حمال أوجه، كما قال
سيدنا علي رضي الله عنه .
وهذا الأمر بقدر ما يعطي من الآفاق ويحرك من الفقه والفهم بقدر ما يشكل بعض المخاطر، وهذه هـي إشكالية الأمور الفكرية والثقافية والفقهية والتغييرية بشكل عام، إلا أن التفاعل والتصويب والتثاقف والتفاكر المستمر
[ ص: 26 ] يوصل إلى الحقيقة الصحيحة، ويبلور الفهم، ويسهم بالنمو والامتداد الفقهي والفكري والمزيد من الاهتمام والتمحور حول النص.
ولا يمتلك أحد أن يحجر على الناس الفهم والتعاطي مع النص القرآني إلا بما يملك من علم وحجة، ولا نريد بهذا فتح الأبواب لكل مؤهل للنظر وغير مؤهل، إنما نريد عدم الحجر، وأن يتقدم المتأهلون لعملية التصويب والتوضيح ونفي الانحراف والتحريف، ولولا ذلك لكان القرآن خطابا للنخبة، وكان
( حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : «يحمل هـذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». ) لا عمل له ولا مدلول.
فهل لنا هـنا أن نلمح من قـوله تعـالى:
( لا إكراه في الدين ) (البقرة:256) ،
إنه لا يقتصر فقط على عدم إجبار الناس على اعتناق عقيدة دينية معينة، وإنما يقتضي أيضا تأصيل وتأسيس حرية الاختيار، والحفاظ على إنسانية الإنسان، وأن هـذه الآية تشكل قاعدة عامة ومنهجا أساسا في تأكيد كرامة الإنسان وحريته في الاختيار يمتد إلى ساحة الأفكار وسائر المعتقدات والقناعات الفكرية والثقافية وجميع معطيات التدين.
ولعل مما يلفت النظر أن الذي يناط بهم نفي التحريف والانتحال والتأويل الفاسد عن قيم الدين هـم العلماء العدول:
( يحمل هـذا العلم من [ ص: 27 ] كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». ) على أهمية التنبه في البيان النبوي إلى مصطلح: (العدول) ، بكل ما يحمل من معنى، فالحجة لا تقارع إلا بالحجة، وليس الأمر الفكري منوطا بالجبارين والطغاة وحاملي السياط.
فالعلم هـو الذي يهزم الجهل، والحقيقة هـي التي تهزم الخرافة، والسنة هـي التي تقمع البدعة، وميدان المعركة لذلك جميعه هـو الحرية، وليس القهر والسيطرة والإجبار؛ لأن الفكر والعقيدة مقره القلب، ولا سلطان لأحد عليه إلا سلطان الدليل والبرهان.
لذلك نقول: لا بد باستمرار من التطوير والتجديد والتسهيل لأدوات فهم النص؛ لتصبح ثقافة عامة، ذلك أن مناهج الأصول، إضافة إلى اختلاط الكثير منها بالفلسفة وعلم الكلام، وتحولها إلى قواعد ذهنية مجردة محجوزة على نخبة النخبة، فهي أيضا لم تستطع أو لم يستطع الباحثون فيها تجاوز المثل الواحد، فهم ينقلونه من عصر إلى عصر، ويعيدون إنتاجه، كما أسلفنا. هـذا عدا عن اقتصارها على استنباط الحكم التشريعي دون غيره من مقاصد النص، واقتصارها على النظر في عدد محدود من الآيات قد لا يتجاوز الخمسمائة آية، فيما أطلق عليها مصطلح «آيات الأحكام»، أما باقي القرآن فتحول إلى تراتيل وأصوات لأداء الصلوات، وغابت الكثير من المقاصد التربوية والاجتماعية والسياسية
[ ص: 28 ] والاقتصادية والإنسانية والحضارية وغير ذلك من المقاصد والآفاق، إلى درجة يمكن القول معها:
إن هـذا التراث الكبير الذي استغرق طاقات كثيرة وأوقات طويلة من إعادة الإنتاج يمكن أن يخضع لاختصار في الزمان والمكان والإنسان.
وبعد:
فهذا الكتاب يعتبر إحدى المحاولات التي تتمحور حول مناهج فهم النص القرآني، والإحاطة بأدوات النظر الرئيسة المتنوعة للتعامل معه، وتقديم رؤية نقدية؛ للخلوص إلى ضابط منهجي يستوعب الاتجاهات الشائعة والمتنوعة في فهم النص، واستنباط المعاني، وتحرير أدوات النظر، واستصحاب بعض النماذج التراثية التي تمكن من الامتداد بالنص لمعالجة النوازل المستجدة، وتفنيد بعض النزعات المذهبية التي حاولت توظيف النص لأغراضها أو ذهبت إلى الاحتماء بنوع من النظرات الذاتية الذوقية العرفانية غير المنضبطة، وحاولت تعميمها وإكسابها خصائص المنهج لإضفاء المشروعية على ما ذهبت إليه من المعاني والدلالات.
[ ص: 29 ] والجهد بعمومه يفتح نوافذ، ويقدم إضاءات حول ضوابط ومسالك فهم النص.
وعلى الرغم من أنه عرض لبعض الجوانب التخصصية الدقيقة، إلا أنه يساهم بتشكيل ثقافة مطلوبة لغير المتخصصين، تحول دون أن يقول في النص مصدر التشريع كل من شاء ما شاء.
ولعل الكتاب يعتبر -من بعض الوجوه- مؤشرا على خلود النص القرآني، والمحورية المنهجية والثقافية والتشريعية للقرآن الكريم، كما يعتبر مؤشرا لاستمرار الجهود من العلماء لحمل هـذا العلم، والحيلولة دون التحريف والمغالاة والانتحال والتأويل.
فالتعهد بحفظ النص القرآني من الله تعالى بقوله:
( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9) ،
إنما يتحقق من خلال عزمات البشر.
والحمد لله رب العالمين.
[ ص: 30 ]