صفحة جزء
الضابط الأول

الجمع بين الظاهر والمعنى في اعتدال

يرى الجمهور أن مقصد الشارع في الجمع بين ظاهر النص ومعناه من غير إفراط ولا تفريط، فلا يجوز التقصير في فهم الظاهر إلى حد إلغاء المعنى، ولا التعمق في المعنى إلى حد إلغاء الظاهر كلية أو مخالفته.

وقد عبر الشاطبي عن طريقة الجمهور بقوله: (والثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعا -أي: الظاهر والمعنى- على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري أحكام الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمه أكثر العلماء الراسخين، فعليه الاعتماد في الضابط الذي يعرف به مقصد الشارع) >[1] .

فالشاطبي استعمل مصطلح: (الضابط) ؛ لكونه يضبط المعاني المقصودة شرعا، مما يجعل نظام الشريعة مستقيما لا اختلاف فيه ولا تناقض.

وقد مدح الله تعالى أهل المعاني الذين لا يقفون عند ظواهر النصوص، بل يبحثون عن عللها وأسبابها ومقاصدها؛

دليل ذلك قوله تعالى: ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) (النساء :83) ،

فالآية نزلت في معرض الذم للذين سمعوا ظاهرا [ ص: 91 ] من الخبر فأذاعوه ونشروه دون التثبت من معناه ومقصوده، وأثنى الله تعالى في المقابل على أولي العلم الذين لم يتوقفوا عند الظاهر، بل تجاوزوه إلى استنباط المعاني المقصودة من النصوص >[2] .

إن هـذا المنهج الجامع بين الظاهر والمعنى بتوسط واعتدال هـو الذي يعصم الشريعة من التناقض والتضاد، فيعطى لكل من الظاهر والمعنى حقه من النظر والفهم والاستنباط، وفي هـذا يقول ابن القيم : (فإن الواجب فيما علق عليه الشارع الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يتجاوز بألفظها ومعانيها، ولا يقصر بها، ويعطي اللفظ حقه والمعنى حقه) >[3] .

وهذا ما كان يقصده الشاطبي من وضع نظريته في المقاصد؛ إذ كان يهدف إلى: (وضع منهج يرتكز على قواعد معينة؛ بحيث لا تجعل المعنى يخل بالنص، ولا النص بالمعنى) >[4] .

وما يصدق هـذا ويؤكده قول الشاطبي : (فالعمل بالظواهر -أيضا- على تتبع وتغال بعيد عن مقصود الشارع، كما أن إهمالها إسراف أيضا) >[5] .

ولتوضيح هـذا الضابط لا بد من معرفة المراد بـ: الظاهر والمعنى، والجمع المعتدل بينهما. [ ص: 92 ]

المراد بالظاهر هـو ما يتعلق بفهم النص لغة؛ من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وأمر ونهي وحقيقة ومجاز، وكذا كل ما كان معينا على فهم النص من المعاني العربية؛ كالمعاني النحوية والصرفية والبيانية والبلاغية.

المراد بالمعنى هـو ما يتعلق بدلالة النص على العلل والأسباب ومقاصد المتكلم والأشباه والنظائر، ووجوه المصالح في الطاعات، والمفاسد في المخالفات >[6] .

ويمكن القول: إن الظاهر يتعلق بالمعرفة اللغوية للنص، والمعنى يتعلق بالمعرفة المقصدية من النص؛ باستجلاء علته وسببه والحكمة المقصودة منه، وهذا ما بينه الشاطبي أحسن بيان بقوله: (فالمراد بالظاهر هـو المفهوم العربي، والباطن هـو مراد الله تعالى من كلامه وخطابه) >[7] ... و (كل ما كان من المعاني العربية التي لا ينبني فهم القرآن إلا عليها فهو داخل تحت الظاهر) >[8] ... و ( كل ما كان من المعاني التي تقتضي تحقيق المخاطب بوصف العبودية والإقرار له بالربوبية فذلك هـو الباطن المراد والمقصود الذي نزل القرآن لأجله) >[9] .

والفرق بينهما، كما يرى ابن القيم ، أن فهم الظاهر قدر مشترك بين كل من يعرف لغة العرب؛ لتعلقه بعموم اللفظ وخصوصه، وإطلاقه وتقييده، وغير [ ص: 93 ] ذلك من القواعد اللغوية، بخلاف المعنى فلا يفهمه إلا أهل الاستنباط؛ لتعلقه بلازم المعنى ونظائره ومراد المتكلم من كلامه، بحيث لا يدخل فيه غير المراد، ولا يخرج منه شيء من المراد >[10] .

المراد بـ: الجمع المعتدل بين الظاهر والمعنى

إن الجمع بينهما يراد به ترك الغلو في اعتبار الظاهر إلى حد الإخلال بالمعنى، وترك الغلو في اعتبار المعنى إلى حد إلغاء الظاهر، وهذا ما يستفاد من كلام الشاطبي عندما قال: (على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا بالعكس) >[11] .

وقد أكد الشاطبي على ضرورة احترام هـذا الضابط أثناء تفسير نصوص القرآن؛ من أجل معرفة معانيه ومقاصده، وبين أن الذين فسروا القرآن على التوسط والاعتدال كانوا أفقه الناس وأعلم الناس بمقاصده وبواطنه، وأن الذين خرجوا عن الاعتدال كانوا إما بسبب الإفراط أو التفريط، وكلاهما مذموم. فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم الظاهر، والذين أخذوه على الإفراط قصروا في فهم معانيه >[12] .

إن الغلو في اعتبار إحدى الجهتين وإهمال الأخرى تترتب عليه أخطاء فادحة، نذكر منها: [ ص: 94 ]

1 - ما يترتب على الغلو في اعتبار الظاهر

إن الاهتمام المتزايد والمفرط بظاهر اللفظ من الجوانب النحوية والصرفية والبلاغية تترتب عليه عدة أخطاء، أهمها:

أ - الغفلة عن المقصود الأول من الخطاب الشرعي

من المعلوم أن النصوص نزلت لغايات ومقاصد من جلب للمصالح ودرء للمفاسد، وقد دلت على تلك المقاصد من خلال ألفاظها، ومن ثم كانت الألفاظ بمنزلة الوسائل، والمعاني المقصودة بمنزلة الغايات، فمن أفرط في الاشتغال بالظواهر كاد أن يغفل عن المعاني المقصودة، فيضيع لذلك المقصد الأول من النص.

وقد حذر الشاطبي من خطورة الاشتغال بالألفاظ إلى حد انقلاب الوسائل إلى غايات، مما يؤدي إلى إهمال المعاني، يقول: (أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هـو المقصود الأعظم؛ بناء على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني، وإنما أصلحت الألفاظ من أجلها، وهذا الأصل معلوم عند أهل العربية، فاللفظ إنما هـو وسيلة إلى تحصيل المعنى المراد، وعليه يبنى الخطاب ابتداء، وكثيرا ما يغفل هـذا النظر بالنسبة للكتاب والسنة، فتلتمس غرائبه ومعانيه على غير الوجه الذي ينبغي، فتستبهم على الملتمس، وتستعجم على من لم يفهم مقاصد العرب) >[13] . [ ص: 95 ] وذكر أن المقصد الأول من الخطاب القرآني هـو التفهم لمعناه ثم التعبد بمقتضاه، فهو إعذار وإنذار، وتبشير وتحذير، وترغيب وترهيب، فمن اقتصد في فهم الظاهر بما يحقق المقصد منه أوشك أن يفوز بالبغية وينجح في الطلب من خوف الوعيد ورجاء الموعود، فيحمله ذلك على الطاعات وترك المخالفات. أما من اقتصر على فهم الظاهر، وبذل الوسع في معرفة محاسن العبارات دون الالتفات إلى المعاني، فإنه يوشك أن يضيع المقصود الشرعي من الخطاب القرآني >[14] .

وقد عاب الله تعالى على قوم وقفوا عند الظواهر من غير نظر إلى المعاني،

فقال فيهم: ( فمال هـؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ) (النساء:78) .

فذم من لم يفقه حديثه، والفقه أخص من الفهم، فهو فهم مراد الشارع من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد الفهم اللغوي للخطاب >[15] .

ب - مناقضة مقصود الشارع

في بعض الأحيان قد لا يكون ظاهر اللفظ مقصودا للشارع، ومن ثم فالتمسك به يؤدي إلى مناقضة هـذا المقصود، وحينئذ يجب تأويل الظاهر بما يتفق ومراد الشارع من الخطاب >[16] ، والأمثلة على عدم اعتبار الظاهر كثيرة؛ منها:

- إلغاء الشارع عبارة المكره، وألفاظ: المجنون، والصغير، والنائم، فلم يرتب عليها أحكاما؛ لانعدام القصد والإدارة، فلو أخذنا بظواهر الألفاظ [ ص: 96 ] لناقضنا مقصود الشارع من التيسير ورفع الحرج وعدم التكليف إلا بما يطاق.

- عدم اعتبار الظاهر المجرد إلا بمعرفة قصد المتكلم ومراده من الخطاب، كما هـو الحال بالنسبة لألفاظ الطلاق بالكناية، فإن ظاهر اللفظ لا يترتب عليه الحكم بالطلاق وعدمه، ما لم يعلم قصد المتكلم.

- إن اللفظ قد يكون ظاهره العموم والمقصود منه الخصوص، أو ظاهره الخصوص والمقصود منه العموم، فكان تحديد المقصد من الخطاب ضروريا لمعرفة الحكم الشرعي؛ ومثاله: لو دعي شخص إلى غذاء فقال: (والله، لا أتغذى) . أو أمر بالنوم، فقال: (والله، لا أنام) . فلو حمل اللفظ على ظاهره فإنه يكون دالا على عموم الامتناع عن الأكل والنوم المستغرق جميع العمر، لكن هـذا غير ممكن في الواقع، فيعلم من ذلك أن قصد المتكلم منصرف إلى وقت مخصوص >[17] .

وهذا ما أكده الشاطبي على الناظر في نصوص القرآن من التدبر والنظر في مقاصده؛ حتى تتناقض السور والآيات، وتتعارض في يديه الأدلة على الإطلاق والعموم بمجرد اتباع الظاهر >[18] .

ج - الخطأ في استنباط الأحكام

قد يؤدي الغلو في التمسك بالظاهر وإهمال المعاني إلى التقصير باللفظ عن عمومه، أو تحميله فوق ما أريد به، مما يترتب عليه الوقوع في أخطاء أثناء استنباط الأحكام. وقد ذكر ابن القيم أمثلة لذلك؛ منها: [ ص: 97 ] - إخراج بعض أنواع المسكرات من دائرة الحرمة؛ بدعوى أنها لا تسمى: خمرا. فهذا تقصير في فهم معنى الخمر المحرم في قوله تعالى:

( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ) (المائدة:90) .

- إخراج بعض أنواع الميسر من دائرة الحرمة؛ كالنرد... بدعوى أن اسم: الميسر، لا يتناولها في الآية السابقة.

- تحليل نكاح التحليل عند البعض؛ لكونه زواجا في الظاهر، من غير التفات إلى المقصود منه، وهذا حمل لظاهر قوله تعالى:

( فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) (البقرة:230)

فوق اللازم >[19] .

وما ذكره ابن القيم أكده ابن عاشور ، حيث أشار إلى أخطاء المغالين في التمسك بالظاهر؛ كالتوهم بأن الأحكام الشرعية منوطة بأسماء الأشياء أو أشكالها دون التفات إلى معانيها وأوصافها، ومن هـذه الأخطاء ذكر ما يلي:

- تحريم بعض الفقهاء صنف من الحيتان المسمى بـ: خنزير البحر، بالنظر إلى شكله واسمه، مع العلم أن جميع ما في البحر حلال.

- فتوى بعض العلماء بقتل المشعوذ باعتباره ساحرا، من دون نظر إلى تحقيق معنى السحر الذي يجب الحد بسببه.

- فتوى بعض العلماء بتحريم التدخين بورق التبغ في الفم، بدعوى أنها من الحشيش المخدر. [ ص: 98 ] - فتوى بعض العلماء بتحريم شرب القهوة لما ظهرت أوائل القرن العاشر؛ بالنظر على اسمها الذي معناه في اللغة الخمر >[20] .

وهكذا فالغلو في اتباع الظاهر يجر أخطاء فادحة في مجال الفتوى والقضاء. ومن هـنا وضع ابن القيم ضابطا للجمع بين الظاهر والمعنى في اعتدال، حيث قال: (ولهذا كان معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله أصل العلم وقاعدته وأخيته التي يرجع إليها، فلا يخرج من معاني الألفاظ عنها، ولا يدخل فيها ما ليس منها، بل يعطيها حقها، ويفهم المراد منها) >[21] .

وصاغ ابن عاشور هـذا الضابط بقوله: (نوط الأحكام الشرعية بمعان وأوصاف لا بأسماء وأشكال) >[22] .

ولا تحسبن أن الوقوف عند الظاهر مذهب تاريخي ولى زمانه وانقضى، بل ما زال أتباعه إلى العصر الراهن يمثلن اتجاها فقهيا متميزا في فهم النصوص والفتوى، سماهم يوسف القرضاوي : ( الظاهرية الجدد ) ، وقد أدى بهم الغلو في اتباع الظاهر إلى القول بتحريم التصوير الفوتوغرافي والسينمائي والتلفزيوني، وتحريم الذهب المحلق على النساء، وعدم وجوب الزكاة في عروض التجارة، وسبب ذلك يعود إلى التمسك بظواهر النصوص من غير نظر إلى العلل والمقاصد >[23] . [ ص: 99 ]

د - الخطأ في تفسير النصوص

إن التمسك بالظاهر وإغفال المعاني يؤدي بصاحبه إلى تفسير النص تفسيرا خاطئا؛ فمن ذلك:

- لما نزل قوله سبحانه وتعالى: ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) (البقرة:245) ،

قالت اليهود: ( إن الله فقير ونحن أغنياء ) (آل عمران:181) ، " وقال أبو الدحداح : إن الله كريم استقرض منا ما أعطانا " >[24] .

- ولما نزل قوله تعالى:

( عليها تسعة عشر ) (المدثر:30) ،

نظر الكفار إلى ظاهر العدد، فقال أبو جهل فيما روي: (لا يعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم) . فبين الله حينئذ المراد من النص وباطنه، [ ص: 100 ] فقال: ( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ) إلى قوله تعالى: ( وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا ) (المدثر:31) ،

ولهذا نفى الله تعالى الفقه عنهم فقال: ( ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ) (الحشر:13) ،

وقال: ( صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون ) (التوبة:127) ؛

ذلك لوقوفهم مع الظاهر >[25] .

وفي هـذا يقول الشاطبي : (فاعلم أن الله تعالى إذا نفى الفقه أو العلم عن قوم فذلك لوقفهم مع ظاهر الأمر، وعدم اعتبارهم للمراد منه، وإذا أثبت ذلك فهو لفهمهم مراد الله تعالى من خطابه، وهو باطنه) >[26] .

هـ - عدم التمييز بين درجات الأحكام في الأوامر النواهي

من المعلوم أن صيغ الخطاب الشرعي؛ من الأمر والنهي، لا تدل في الظاهر إلا على طلب الفعل أو طلب الترك، أما معرفة درجات الأمر من وجوب وندب وإباحة، وكذا درجات النهي من كراهة وحرمة، فإنها لا تعلم من مجرد الصيغة اللفظية، بل تعلم من اتباع المعاني والنظر إلى المصالح المتفاوتة في المرتبة، وملاحظة السياق في دلالة الصيغ، مما يعين المجتهد على تحديد المراد من الأمر والنهي. فلو اتبعنا ظاهر الصيغة المجردة من غير التفات إلى المعنى [ ص: 101 ] لأدى ذلك إلى توحيد دلالة الأمر والنهي، وهو مخالف لمقصود الخطاب الشرعي في التنوع؛ لذا كان الحق في مراعاة النصوص مع مقاصدها معا >[27] .

و - التحايل والابتداع

واتباع الظاهر وعدم البحث عن باطن النص سلوك المتحايلين على أحكام الله تعالى؛ لينالوا منها بالتبديل والتغيير إرضاء لشهواتهم، وكذلك هـو سلوك المبتدعة والمشبهة لآيات الصفات والأفعال، فمن ذلك:

- فهم المنافقين من مجرد الظاهر في قوله: ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) (التوبة:5)

أن التظاهر بالصلاة والزكاة موجب لتخلية سبيلهم، وتركوا المقصود من تلك الأفعال وهو التعبد لله، القائم على الإخلاص والشكر والخضوع والتعظيم >[28] .

- فهم الخوارج من ظاهر قوله تعالى: ( إن الحكم إلا لله ) (يوسف:40) ،

أن عليا كرم الله وجهه حكم الخلق في دين الله، وغفلوا عن قوله تعالى:

( يحكم به ذوا عدل منكم ) (المائدة:95) ،

وقوله ( فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ) (النساء:35) ،

المفيد جواز تحكيم الرجال، وأنه من جملة حكم الله تعالى.

- فهم المشبهة من ظاهر قوله تعالى: ( تجري بأعيننا ) (القمر:14) ، [ ص: 102 ] وقوله: ( مما عملت أيدينا ) (يس:71) ،

وغير ذلك من آيات الصفات والأفعال أن لله أعينا وأيدي كما للمخلوقات. ولو حققوا المراد من قوله تعالى ( ليس كمثله شيء ) (الشورى:11)

لفهموا باطنها والمقصود منها، وأن الله تعالى منزه عن التشبه بسمات المخلوقين >[29] .

وهكذا نخلص إلى أن الغلو في اتباع الظاهر مخالف لمقصد الشارع؛ ذلك أن التشريع ليس محصورا في الظواهر المأخوذة عن طريق المفاهيم اللغوية، بل هـو دلالات وقواعد قامت على علل وأسباب ومصالح أو مقاصد اقتضت تشريعها، ومن ثم فالتمسك بحرفية النص وظواهر الألفاظ منهج لا يتفق ومعقولية الشريعة >[30] .

وعليه فإن كل من زاغ عن الصراط المستقيم بالتحايل والابتداع والتشبيه فبمقدار غلوه في الظاهر وفوات حظه من فهم باطن القرآن، وكل من أصاب الحق وصادف الصواب فبمقدار حظه من فهم باطنه والوقوف على مقاصده >[31] .

2 - ما يترتب على الغلو في اعتبار المعاني

إن الغلو في اعتبار المعاني مع إهمال الظاهر قد يؤدي إلى مناقضة الظاهر أو مخالفته، كما رأينا عند الباطنية والطوفية ، وقد يؤدي إلى اعتبار معان وهمية وخيالية غير حقيقة، مما يؤدي إلى مناقضة مقصود الشارع من [ ص: 103 ] ظواهر النصوص. وقد شاعت في تفسير نصوص القرآن والسنة الكثير من المعاني الوهمية والخيالية المخالفة لمقاصدها؛ لذا لا بد من التوقف لتحديد المراد من المعاني الوهمية والخيالية، وموقف الشرع منهما.

تعريف المعاني الوهمية : (هي المعاني التي يخترعها الوهم من نفسه دون أن تصل إليه من شيء متحقق في الخارج) >[32] .

ومثالها: ما يتوهمه الكثير من الناس أن في الميت معنى مخيفا يوجب النفور منه عند الخلوة به.

تعريف التخيلات : (هي المعاني التي تخترعها قوة الخيال بمعونة الوهم) >[33] .

ومثالها: تخيل صنف من الحوت على أنه خنزير بحري، والحاصل من التعريفين أن الأوهام والتخيلات كلاهما معان غير حقيقية، ولا مطابقة للواقع، يخترعها الوهم أو الخيال.

الأدلة على بطلان الأوهام والتخيلات:

لقد دل استقراء الشريعة على أن أحكامها مبنية على معان حقيقة، أما الأوهام والتخيلات التي يخترعها الوهم أو الخيال فلا عبرة بها، ومن ثم فلا تبنى عليها أحكام شرعية ولا مقاصد معتبرة، والأدلة على بطلان اعتبار المعاني الوهمية والخيالية كثيرة؛ نذكر منها: ( ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته ناقته وهو محرم فمات: [ ص: 104 ] لا تخمروا وجهه ولا تمسوه بطيب، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ) >[34] .

فالمعنى الذي لأجله ورد النهي ألا يتلطخ محنطوه بالطيب وهم محرمون فيفسد حجهم، فالمعنى لأجل الأحياء، ليس لأجل الميت كما يتوهمه الكثير من الناس بأن تركه على تلك الحال ميزة تخص الميت.

- ما روي من النهي عن غسل الشهيد في المعركة، فإن علته لمعنى يخص المقاتلين الأحياء، وهو ألا يشتغلوا بتغسيله عن القتال، وليست العلة لمعنى يخص الشهيد، وهو بقاء دمه في جروحه حتى يبعث يوم القيامة على تلك الحالة كما هـو ظاهر الحديث: ( إنه يبعث يوم القيامة ودمه يثعب، اللون لون الدم، والريح ريح المسك ) >[35] . ولأنه لو كان المعنى لأجل الشهيد وقام رجل فغسله جاهلا أو ناسيا أو عامدا فإن تلك المزية لا تزول، بل تبقى متحققة فيه ولا تتخلف.

- النهي عن التبني في الجاهلية وفي صدر الإسلام، علته لكونه أمرا وهميا لا حقيقيا،

كما قال تعالى: ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هـو أقسط عند الله ) (الأحزاب:4-5) ،

فإن الحق في انتسابهم لآبائهم الصلبيين، فصح أن دعوة التبني ليست حقا بل هـي وهم >[36] . [ ص: 105 ] - إبطال الغلو في العبادات بدعوى التقرب إلى الله تعالى مبني على الوهم، ( فقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس، فقال: ما بال هـذا؟ فقالوا: نذر ألا يتكلم ولا يستظل ولا يجلس وأن يصوم. فقال رسول الله: مروه فليتكلم وليستظل، وليتم صومه ) >[37] . فالزيادة على ما شرعه الله تعالى تكليف لما لا يطاق، وهو منهي عنه شرعا.

- إبطال ما حرمه المشركون على أنفسهم من المباحات ظنا منهم أن ذلك قربة وعبادة، حيث رد عليهم القرآن:

( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون ) (المائدة:103) ،

فسمى الله تعالى تلك التصرفات: افتراء وكذبا؛ لأنها ليست مبنية على الحقيقة، بل على الأوهام والظنون الفاسدة، ونسب أصحابها إلى الجهل. فالزيادة في الدين توهم أنه ناقص وفي حاجة إلى إتمام وإكمال، مما يورث الشبهات، وقد يؤدي إبطال حقائقه بالأوهام والتخيلات.

- إبطال التفاضل بين الناس على أسس وهمية غير حقيقية؛ كالنسب [ ص: 106 ] والحسب والمال، قال تعالى: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) (الحجرات:13) ،

وقال سبحانه ردا على المشركين: ( أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله ) (التوبة:19) .

فقد توهم المشركون أن السقاية والرفادة تقوم مقام الإيمان عند الله تعالى، فأبطل الله تعالى هـذا الوهم، وبين أنهما لا يستويان.

- إبطال الظهار ، حيث كان المشركون يسوون بين الأم والزوجة في الحرمة، وهذا وهم لا حقيقة له في واقع الأمر،

قال تعالى: ( وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ) (المجادلة:2) ،

وقال: ( ما هـن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ) (المجادلة:2)

وقال: ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) (الأحزاب:4) >[38] .

فمن هـذه الأدلة يظهر بطلان المعاني الوهمية والتخيلات، وعدم اعتبارها في الشريعة الإسلامية.

لكن هـل تصلح المعاني الوهمية والخيالة لأن تكون مقاصد شرعية أو وسيلة إليها؟ [ ص: 107 ] بالرغم من وضوح أدلة القرآن والسنة على بطلان اعتبار المعاني الوهمية والخيالية، وأن الغلو في اعتبارهما مناف الحقيقة ومقصود الشارع، إلا أن ذلك لم يمنع وجود بعض التفسيرات للأحكام الشرعية في أبواب العبادات، وفي الترغيب والترهيب تربط الأحكام بمعان غير حقيقية لا أصل لها؛ مثل: المعنى من استقبال القبلة، والتيمم بالتراب، واستلام الحجر الأسود وغيرها، فهل تصح هـذه التفسيرات والتأويلات الوهمية لتفسير بعض الأحكام؟

ذهب ابن عاشور -في رأي له- إلى وجوب التوقف في مثل هـذه القضايا، وجعلها من قسم التعبدي الذي خفيت علته، قال: (وقد تأتي أحكام منوطة بمعان لم نجد لها متأولا إلا أنها أمور وهمية، مثل: استقبال القبلة في الصلاة، ومثل: التيمم، واستلام الحجر الأسود، فعلينا أن نثبتها كما هـي، ونجعلها من قسم التعبدي، الذي لا يصلح للكون مقصدا شرعيا، أو نتأولها بما يمكن له تأويل يخرجه عن الوهم) >[39] .

يفهم من كلامه أن المعاني الوهمية لا تصلح لأن تكون مقاصد شرعية، ويجب التوقف في الأحكام التي خفيت عللها ومعانيها؛ لأنها غير معقولة المعنى، وإدراجها ضمن قسم التعبدي.

وذهب في رأي آخر إلى نفي مراعاة الأوهام في أصول العقيدة والواجبات والمحرمات الشرعية، إلا أنه استثنى منها ما يتعلق ببعض المعاني الخفية كاستقبال القبلة، وتقبيل الحجر الأسود، والطواف وغيرها، ويقول: [ ص: 108 ] (إذا قال قائل: كيف تنفي الوهم عن جميع قضايا الدين الإسلامي في حين يتراءى للناظر في شرائع الإسلام أن بعضها لا مسلك له إلا مشايعة الوهم؛ مثل: أسباب الوضوء والغسل، وتقبيل الحجر الأسود؟

الجواب: بادئ ذي بدء أن نفي مراعاة الأوهام عن شريعة الإسلام نفي أن تكون الأوهام في أصول العقيدة التي هـي القاعدة الأولى من قواعد الإسلام، ونفي أن تبنى عزائمه من واجباته ومحرماته على مراعاة الأوهام. وهناك مجال آخر لمجاراة الوهم؛ وهو كل مجال فيه حقائق خفية يتعين استحضارها، ولا وسيلة لاستحضارها إلا بضرب من التوهم، فاستقبال جهة الكعبة من هـذا المجال؛ لأن المقصود من الصلاة تعظيم الله بالركوع والسجود... فلما لم تمكن مواجهة ذات الله أقام الله للمسلمين جهة يستقبلونها في وقت الركوع والسجود؛ وهي جهة البيت. ويلحق بذلك تقبيل الحجر الأسود، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة) >[40] .

لكن ابن عاشور رجع عن التوسع في اعتبار الأوهام ليقتصر على التيمم وحده، حيث قال: (وأحسب أنه لا يوجد حكم وهمي في شرائع الإسلام غير التيمم، فلا تنتقض القاعدة التي أصلناها في كتاب أصول النظام الاجتماعي؛ وهي: إن الإسلام حقائق لا أوهام) >[41] . [ ص: 109 ] وهكذا يظهر التذبذب الذي وقع فيه ابن عاشور في اعتبار الأوهام مقاصد شرعية، فمرة ينفيها مطلقا، وتارة يثبتها في مجال العبادات مع بعض التوسع، وتارة أخرى ينفيها في مجال العبادات أيضا باستثناء التيمم.

أما اعتبار المعاني الوهمية وسيلة لتحقيق المقاصد الشرعية، فإن ابن عاشور جوزها عند تعذر المعاني الحقيقية، وذلك في باب الدعوة، والترغيب، والترهيب، يقول: (واعلم أن الأمور الوهمية وإن كانت لا تصلح للكون مقصدا شرعيا للتشريع، فهي صالحة لأن يستعان بها في تحقيق المقاصد الشرعية، فتكون طريقا للدعوة والموعظة، ترغيبا وترهيبا... فعلى الفقيه أن يفرق بين المقامين؛ فلا يذهب يفرع على تلك المواعظ أحكاما فقهية؛ كمن توهم أن الصائم إذا اغتاب أحدا أفطر، لأنه قد أكل لحم أخيه. وقد تكون الوهميات في أحوال نادرة مستعانا بها على تحقيق مقصد شرعي حين يتعذر غيرها، ولعل ما ذكرناه من التيمم والاستقبال يرجع إلى ذلك فلتتفطن له) >[42] .

وفي موضع آخر يقول: (أما الأوهام والتخيلات فليس من شأن الشريعة المطالبة بتحصيل تشريعها، ولكن طرق الدعوة قد تأتي بواسطة طريق وهمي أو تخييل يطلب به تحصيل عمل أو علم حقيقي أو اعتباري؛ إذا كان لإثارة الوهم نفع في تحصيل المطلوب، والفرق واضح بين جعل الوهم والتخييل طريقا لتحصيل علم أو عمل، وبين جعلهما أمرا مقصودا تحصيله) >[43] . [ ص: 110 ] ومن الأمثلة التي ساقها ابن عاشور لاعتبار المعاني الوهمية طريقا للترغيب والترهيب:

- قوله تعالى: ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) (الحجرات:12) ،

فالمقصود من الآية زجر المغتاب عن الغيبة حتى ينكف عن ذلك، وليس المراد الاعتقاد أن المغتاب آكل لحم أخيه حقيقة، ولا بأن الصفات المحكية عن الغائب هـي لحم ميتة، ولا بأن ذلك الغائب ميت، فهي مجرد صور وهمية لا حقيقة لها في واقع الأمر.

- قوله صلى الله عليه وسلم : ( العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه ) >[44] .

فالمقصود من الحديث الزجر عن الرجوع في الصدقة؛ ليحصل المراد من تشريعها، وليس المراد أن الراجع في صدقته صار كلبا حقيقة، ولا أن الصدقة صارت قيئا.

فمناط التشبيه في المثالين المذكورين الغاية منهما المبالغة في النهي عن الغيبة وعن الرجوع في الصدقة >[45] .

الرأي المختار:

والذي أراه أن المعاني الوهمية والخيالية لا تصلح للكون مقصدا شرعيا ولا وسيلة لها، في باب العقائد والشرائع؛ من عبادات ومعاملات، ولو عند [ ص: 111 ] الضرورة عندما تخفى المعاني الحقيقة الشرعية، كالغرض من التيمم واستقبال جهة الكعبة، وتقبيل الحجر الأسود، وغيرها من أحكام الترغيب والترهيب، فالأولى التوقف عند حدود الظاهر المنصوص عليه دون اختراع معان وهمية وخيالية لا أصل لها في الشرع من كتاب وسنة، ولا من عمل الصحابة والسلف الصالح، وذلك لسببين:

الأول: إن فتح باب التوهم والتخيل في تفسير النصوص يؤدي إلى اختلاف الرؤى والأنظار، مما قد يئول إلى اعتبار معان منافية لمقصود الشرع، فيها شرك بالله تعالى، أو تزييف لحقائق الدين، أو إبطال لها، كما ظهر عند الباطنية .

الثاني: أن المعاني التي خفيت عللها، وتعذر على الفقيه معرفة حقائقها، فهي ترجع إلى مقصد معقول المعنى؛ وهو التعبد لله تعالى بكيفيات وطرق أخفاها على العقول، واستأثر بعلمها؛ قصدا لابتلائهم واختبارهم. والتعبد العام أصل مقطوع به، دل عليه الاستقراء.

وقد اعتبر الشاطبي أن المعاني والحكم المستخرجة من العبادات من ملح العلم، وهي من الظنيات التي تستحسنها العقول، وتستملحها النفوس، فلا يصحبها منفر ولا تعادي العلوم؛ لأنها ذات أصل مبني عليه في الجملة >[46] . [ ص: 112 ] ومن هـنا، فالمعاني المستخرجة من فروع العبادات غير معقولة المعنى، إن كانت تستند إلى أصل ولو كان ظنيا، فإنها تعتبر معاني حقيقية شرعية، وإن كانت لا تستند إلى أصل مقطوع أو مظنون، فإنها وهم وخيال يجب طرحه وعدم اعتباره.

وأما في باب الترغيب والترهيب، فإن فتح باب التوهم والتخيل في تفسير النصوص يجر -لا محالة- إلى معان منافية لمقصود الشرع، وهذا ملاحظ في كتب التفسير للقرآن والسنة، حيث شاع في تفسير نصوصها الوهم والخيال إلى درجة لا يقبلها العقل، ومن ثم يجب التوقف فيما خفي معناه ولم يوجد فيه مرجع ثابت في القرآن والسنة وأقوال الصحابة والسلف، فإن ذلك عاصم للنصوص من تفسيرها باطنيا.

وقد ذكر الشاطبي أن المعاني التي لا ترجع إلى أصل قطعي أو ظني، أو تعود على الأصول بالإبطال مبنية على أوهام وتخيلات لا حقيقة لها، كما أن المقصود منها اتباع الأغراض والأهواء، ومن ذلك تفسير الباطنية وأهل الأهواء >[47] .

وخلاصة القول:

إن المعاني الوهمية والخيالية لا تصلح للكون مقصدا شرعيا ولا وسيلة لذلك، في سائر أنواع التشريع. [ ص: 113 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية