المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين... وبعد،
فإن فقهاء القانون الدستوري إذا تحدثوا عن تاريخ بدء الدساتير المكتوبة عدوا في أولها دستور
الولايات المتحدة الأمريكية الصادر سنة 1776م والمعروف بدستور فيلادلفيا، والدستور الفرنسي الذي ظهر في الفترة الثورية سنة 1789-1791م، وهو أول دستور فرنسي مكتوب. واعتبرت السلطات الحاكمة إذا خرجت عن الدستور أو القواعد الدستورية التي كانت الأساس في وجودها، أنها قد هـدمت أساس وجودها القانوني، وبذلك تفقد الصفة القانونية ، وإذا فقدتها زالت صفة الشرعية عن تصرفاتها، وعلى ذلك يتعذر تصور وجود الدولة القانونية بدون وجود الدستور، ومن هـنا كان وجوده أساسا في إقامة الدولة القانونية
>[1] .
لكن إذا ما عدنا إلى ما قبل أحد عشر قرنا تقريبا من ظهور هـذه الدساتير يتبين لنا أن هـناك من الحقائق ما لا يستطيع أحد أن ينكره ذلك أنه على إثر التعاقد السياسي بين النبي صلى الله عليه وسلم والأنصار في بيعة العقبة الثانية وهجرة الرسول إلى المدينة تكونت دولة جديدة -متنوعة الأديان والأعراق- على
[ ص: 35 ] أساس دستور مكتوب -وهو «الصحيفة»-، لها ذاتية مستقلة تميزها عن غيرها، يحكمها قانون واحد، وتسير حياتها وفقا لنظام واحد، وتهدف إلى غايات مشتركة بين جميع طوائفها.
إن «الوثيقة» التي كتبت بإملاء من الرسول صلى الله عليه وسلم في العام الأول من هـجرته إلى
المدينة مثلت السـياسة الداخلية للدولة الإسـلامية مع (الآخر) - اليهودي، والوثني- وهو ما يسمى في العصر الحديث بالقانون الدولي الخاص، وكذلك مثلت نظاما متكاملا للعلاقات الخارجية مع القبائل والشعوب والدول وهو ما اصطلح عليه فيما بعد بالقانون الدولي العام
>[2] .
لقد كان هـم الرسول صلى الله عليه وسلم « أن يصل
بيثرب موطنه الجديد إلى وحدة سياسية ونظامية لم تكن معروفة من قبل في سائر أنحاء
الحجاز »
>[3] ، فأنشأ دولته التي أقامها على قواعد سياسية منظمة تحت قيادته، وعمل على تدعيم روح الإخاء الإنساني بين سكانها، ونزع أسباب الفرقة والتناحر التي كانت سائدة في
المدينة قبل هـجرته إليها.. أحدث ذلك التغيير من خلال «الوثيقة»، التي كشفت عن مدى الظلم الاجتماعي الذي كانت تعانيه يثرب قبل ذلك، حيث نقلت المتساكنين من نظام الأسرة والقبيلة والعشيرة والطائفة إلى نظام الأمة الواحدة، كما عملت على تنظيم الدفاع المحكم ضد أي عدوان خارجي، وتوفير الأمن الداخلي لجميع المتعاقدين «وكفالة
[ ص: 36 ] الحقوق والحريات، والأخذ بمبدأ التكافل الاجتماعي»
>[4] ، وتحقيق مبدأ التسامح الديني المفضي إلى التعايش السلمي والتعاون بين الأفراد والقضاء على الطبقية والعنصرية والطائفية، وعملت على سيادة العدل والمساواة في الحقوق والواجبات العامة أمام القانون وغيرها من المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة التي لم يعرفها العالم إلا منذ قرنين تقريبا.
إن الدولة الإسلامية التي أنشأها
محمد صلى الله عليه وسلم في
المدينة وفق أسلوب حضاري راق، لا تتعامل مع سلبيات الماضي ورواسبه، وفي طليعة ذلك العصبية القبلية، والنـزعة الطائفية، والثارات الجاهلية، لأن دستورها ينص على أن «يثرب حرام جوفها لأهل هـذه الصحيفة، وأن بين جميع المتعاقدين النصح والنصيحة والبر دون الإثم...».
لقد كان لدستورها قصب السبق بالنسبة لكل دساتير العالم، فهو يعتبر أول تجربة سياسية إسلامية في صدر الإسلام بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد كان له دور بارز في إخراج المجتمع من دوامة الصراع القبلي إلى رحاب الأخوة والمحبة والتسامح، إذ ركز على كثير من المبادئ الإنسانية السامية كنصرة المظلوم، وحماية الجار، ورعاية الحقوق الخاصة والعامة، وتحريم الجريمة، والتعاون في دفع الديات، وافتداء الأسرى، ومساعدة المدين، إلى غير ذلك من المبادئ التي تشعر أبناء الوطن الواحد بمختلف أجناسهم وأعراقهم
[ ص: 37 ] ومعتقداتهم أنهم أسرة واحدة مكلفة بالدفاع عن الوطن أمام أي اعتداء يفاجئهم من الخارج. فالمساواة قامت بينهم على أساس القيمة الإنسانية المشتركة؛ الناس جميعا متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسئولية، وأنه ليس هـناك جماعة تفضل غيرها بحسب عنصرها الإنساني وخلقها الأول.
ولا أزعم أني بعملي هـذا قد أحطت بجميع جوانب الموضوع وما يتعلق به من جزئيات، كما لا أدعي أني وصلت إلى حد الإحاطة والشمولية في توضيح كل ما تضمنته «الوثيقة» من أفكار ودلالات ولكني حاولت ذلك قدر استطاعتي.
وحسبي أني حاولت لفت الأنظار إلى أهمية هـذه الوثيقة السياسية الإسلامية المهمة التي تعود إلى العصر التأسيسي الإسلامي وقد صيغت بلغة قانونية ولها صبغة دستورية.
ولم آل جهدا في سبيل إخراج هـذا البحث بصورة مرضية، فإن كان التوفيق قد حالفني فذلك من فضل الله وكرمه، وإن كانت الأخرى، فما إلى ذلك قصدت.
والحمد لله رب العالمين.
[ ص: 38 ]